المشاركات الجديدة
العلوم الخفية في التاريخ : تاريخ العلوم ، قصص ، حوادث

خريدة العجائب وفريدة الغرائب

Arrow خريدة العجائب وفريدة الغرائب





الكتاب : خريدة العجائب وفريدة الغرائب





تجدوا قصص لمدن اكتشفت غائبه عن الانظار ومنها تحت الارض



العضو العزيز...شكر صاحب الموضوع للجهد الذي يقوم به لخدمة اهل العلم يشجعه لإعطاء عطاء أكبر . ضع رد لرؤية الرابط..






المؤلف : سراج الدين أبو حفص عمر بن المظفر بن الوردي، البكري القرشي، المعري ثم الحلبي (المتوفى : 852هـ)

المنسوب خطأ : للقاضي زين الدين عمر بن الوردي البكري القرشي

المحقق : أنور محمود زناتي - كلية التربية ، جامعة عين شمس

الناشر : مكتبة الثقافة الإسلامية ، القاهرة

الطبعة : الأولى ، 1428 هـ - 2008 م

عدد الأجزاء : 1

[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]


ـ[خريدة العجائب وفريدة الغرائب]ـ

المؤلف: سراج الدين أبو حفص عمر بن المظفر بن الوردي، البكري القرشي، المعري ثم الحلبي (المتوفى: 852هـ)

المنسوب خطأ: للقاضي زين الدين عمر بن الوردي البكري القرشي

المحقق: أنور محمود زناتي - كلية التربية، جامعة عين شمس

الناشر: مكتبة الثقافة الإسلامية، القاهرة

الطبعة: الأولى، 1428 هـ - 2008 م

عدد الأجزاء: 1

[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]


(/)


خريدة لعجائب وفريدة الغرائب لسراج الدين ابن لوردي

ابن الوردي (الجد) :

كانت عائلة ابن الوردي نقطة بارزة في تاريخ الحضارة الاسلامية نشأت بمدينة معرة النعمان (1) ، ورائدها شاعر المعرة وعالمها ومؤرخها القاضي سراج الدين بن الوردي المعري صاحب اللامية الشهيرة:

اِعتزل ِذِكرَ الأغاني والغَزَل ... وقُلِ الفَصْلَ وجانب من هَزَلْ

ودَعِ الذكرى لأيام الصبا ... فلأيام الصبا نجم أفل

واهجرالخَمرَةَ إن كنت فتى ... كيف يسعى في جُنُونٍ من عَقَلْ؟

ليس مَن يَقطَعُ طُرقاً بطلا ... إنما مَن يتقي الله البطلْ

جَانِبِ السلطانَ واحذر بَطشَه ... لا تُعَانِدْ مَن إذا قال فَعَل


وقد نُسِبَ مخطوط "خريدة العجائب وفريدة الغرائب" خطأ للقاضي زين الدين عمر بن الوردي البكري القرشي، (الجد) وهو في الحقيقة لسراج الدين عمر بن الوردي البكري القرشي (الحفيد) ، والفضل يعود في كشف هذه المسألة في المقام الأول إلى الباحث الأكاديمي السوري محمود السيد الدغيم حيث قال: -.

وهذه النسبة المغلوطة تشكل دليلا على أن أكثرية الناشرين والمحققين والمفهرسين والباحثين العرب لم يصلوا مرتبة الاجتهاد في تحقيق التراث كغيرهم من

__________

(1) معرة النعمان: مدينة كبيرة قديمة مشهورة، من أعمال حمص بين حلب وحماة، ماؤها سن الآبار، وفيها الزيتون الكثير والتين واليها ينتسب الفيلسوف والشاعر الشهير "أبو العلاء المعري".


(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: أوردتُ هذا الجزء من مقدمة التحقيق، لبيان نسبة الكتاب إلى مؤلفه


(1/6)


أبناء الأمم الأخرى، ولكن العرب اكتفوا بالتقليد والاجترار، وقد تكرَّرت الأخطاء في نسبة الكتب إلى غير مؤلفيها في كتب تراثية اخرى جَراء التدليس والتصحيف والتحريف


وأخطأ في نسبة كتاب خريدة العجائب إلى القاضي ابن الوردي يوسف سركيس في الصفحة 282 من المجلد الأول من معجم المطبوعات العربية والمعربة. وأخطا في نسبة كتاب خريدة العجائب إلى القاضي ابن الوردي عبد الجبار عبد الرحمن في الصفحة 278 من المجلد الأول من فهرس ذخائر التراث العربي الإسلامي الصادر في العراق سنة 1401 هـ/ 1981 م.


سرج الدين ابن الوردي (الحفيد صاحب المخطوط)

هو: سراج الدين أبو حفص عمر بن المظفر بن الوردي، البكري القرشي، المعري ثم الحلبي، المتوفى سنة (852 هـ/1447 م) وقيل سنة (861 هـ/1457 م) .

كان ابن الوردي الحفيد عالما زراعياً وجغرافيا، وقد ألف كتابا بعنوان: منافع النبات والثمار والبقول والفواكه، وله كتاب بعنوان: فرائض وفوائد، وأشهر كتبه "خريدة العجائب وفريدة الغرائب" ولكن هذا الكتاب منسوب إلى جده القاضي عمر بن الوردي (ت 749 هـ/ 1348 م) . وقد ألف ابن الوردي هذا الكتاب حسب ما ذكره المؤلف سنة 822 هـ/ 1419 م، أي بعد وفاة ابن الوردي الكبير بمدة إحدى وسبعين سنة شمسية.


(1/7)


والدليل قول المؤلف في مقدمة الكتاب:

"فحينئذٍ أشار إلى الفقير الخامل مَن إشارتُهُ الكريمة محمولة بالطاعة على الرؤوس، وسفارته المستقيمة بين الإمام المعظم والسودان الأعظم قد سطرت في التواريخ والطروس، وهو المقر الأشرف العالي المولوي الأميني الناصحي السيِّدي المالكي المخدومي السيفي شاهين المؤيد، مولانا نائب السلطنة الشريفة بالقلعة "الحلبية" المنصورة الجليلة، أعز الله أنصاره، ورفع درجته وأعلى مناره: أن أضع له دائرةً مشتملة على دائرة الأرض، صغيرةً توضح ما اشتملت عليه من الطول

والعرض، والرفع والخفض؟ ظنا منه- أحسن الله إليه- أني أقوم بهذا الصعب الخطير؟ وأنا والله لست بذلك، والفقير في دائرة هذا العالم أحقر حقير. فأنشدت:

إنَّ المقادير إذا ساعدت ... ألحقت العاجزَ بالحازمِ"


(1/8)


المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب. عالم الغيب، راحم الشيب، منزل الكتاب. ساتر العيب، كاشف الريب، مزلل الصعاب. مغيث الملهوف، دافع الصروف، رب الأرباب. خالق الخلق، باسط الرزق، مسبب الأسباب. مالك الملك، مسخر الفلك، مسير السحاب. رافع السبع الطباق مخيمة على الآفاق تخييم القباب. ساطح الغبراء، على متن الماء، ممسكة بحكمته عن الاضطراب. منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم يوم الحشر والمآب.

أحمده وهو المحمود بكل لسان ناطق، وأشكره وهو المشكور في المغارب والمشارق.

وأشهد ان لا إله إلا الله لا شريك له، شهادة ركن الإيمان أركانها، وشيد الإتقان بنيانها، ومهد الإذعان أوطانها، وأكد البرهان إدمانها. وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله. المستولي على شانئه بشأنه، ونبيه المفضل بمعاني علومه وبدائع بيانه، ورسوله الصادع بدليله وبرهانه، القائل: زينت لي مشارق الأرض ومغاربها كشفاً واطلاعاً بسره وعيانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأنصاره وأعوانه، صلاة تبلغ من آمن به غاية أمنه وأمانه، وتسكن روعته في الدارين، بعفو الله وغفرانه، وسلم تسليماً كثيراً.


(1/21)


وبعد: فإن خالق الخلق والبريئة، ومن له الإرادة والمشيئة، قد ميز الملوك والرعاة عمن دونهم من الرعية، فلذلك قد خصوا بالهمم العلية، والأخلاق السامية الزكية، ورغبوا في الاطلاع على الأمور الغامضة الخفية، ليكونوا فيما ندبوا له من الاسترعاء على بيضاء نقية، ويحصلوا من أخبار العالم على الأشياء الصادقة الجلية، فحينئذ أشار إلى الفقير الخامل من إشارته الكريمة محمولة بالطاعة على الرؤوس، وسفارته المستقيمة بين الإمام المعظم والسودان الأعظم قد سطرت في التواريخ والطروس وهو المقر الأشرف العالي المولوي الأميني الناصحي السيدي المالكي المخدومي السيفي شاهين المؤيد، مولانا نائب السلطنة الشريفة بالقلعة المنصورة الجليلة، أعز الله أنصاره؛ ورفع درجته وأعلى مناره إن أضع له دائرة مشتملة على دائرة الأرض، صغيرة توضح ما اشتملت عليه من الطول والعرض، والرفع والخفض؛ ظناً منه أحسن الله إليه أني أقوم بهذا الصعب الخطير؛ وأنا والله لست بذلك، والفقير في دائرة هذا العالم أحقر حقير. فأنشدت:

إن المقادير إذا ساعدت ... ألحقت العاجز بالحازم

وتوسلت إلى رب الأرباب ومذلل الصعاب؛ وابتهلت إليه ابتهال المستغيث المصاب. ففتح سبحانة من فيضان لطفه أحسن باب؛ وسهل بامتناع عطفه ذلك الصعب المهاب؛ ويسر برأفته ما لم يخطر في بال وحساب؛ فنهضت مبادراً إلى السجود شاكراً لذي الإنعام والجود. ثم أقبلت على مطالعة حكماء الأنام، وتصانيف علماء الهيئة الأعلام؛ كشرح التذكرة لنصر الدين الطوسي، وجعفر الأنبياء


(1/22)


لبطليموس، وتقويم البلاد للبلخي؛ ومروج الذهب للمسعودي، وعجائب المخلوقات لابن الأثير الجزري والمسالك والممالك للمراكشي؛ وكتاب


(1/23)


الابتداء، وغيرها من الكتب المعينة على تحصيل المطلوب.

ومعلوم أن الكتب الموضوعة بين الناس في هذا الغرض لم تخل من خلل والتباس؛ فإن ذلك أمر موهوم، لكنه وهم حسن. وكما قيل: بين اليقين والوهم بون كما بين اليقظة والوسن. والله سبحانه هو المتجاوز عن الخطأ والخلل والخطل، والموفق لصالح القول والعمل. وقد وضعت دائرة، مستعيناً بالله تعالى، على صورة شكل الأرض في الطول والعرض، بأقاليمها وجهاتها، وبلدانها، وصفاتها وعروضها وهيئاتها، وأقطارها وممالكها، وطرقها ومسالكها، ومفاوزها ومهالكها، وعامرها وغامرها، وجبالها ورمالها، وعجائبها وغرائبها، وموقع كل مملكة وإقليم من الأخرى، وذكر ما بينهما من المتالف والمعاطب براً وبحراً، وذكر الأمم المقيمة في الجهات والأقطار طراً، وسد ذي القرنين في سالف الأحقاب على يأجوج ومأجوج كما في نص الكتاب، وسميته: خريدة العجائب وفريدة الغرائب.

وبالله سبحانه الاعتصام، وهو حسبي على الدوام، ومنه أسأل السداد والتوفيق، فإنه أهل الإجابة والتحقيق. وهذه الدائرة المذكورة.


(1/24)


وهذه رسالة لطيفة باهرة كالشرح في توضيح ما في هذه الدائرة، تبين للناظر فيها أحوال الجبال، والجهات، والبحار والفلوات، وما اشتملت عليه من الممالك، مستوعباً فيها لذلك، إن شاء الله تعالى.

ولنشرع أولاً في ذكر جبل قاف: قال الله عز وجل في كتابه العزيز " ق، والقرآنِ المَجيدِ " وفي تفسير " ق " ستة أقوال للمفسرين، منها: أنه جبل من زبرجدة


(1/25)


خضراء، قاله أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما. وروى عكرمة عن ابن عباس أيضاً رضي الله عنهما قال: خلق الله جبلاً يقال له قاف، محيطاً بالعالم السفلي، وعروقه متصلة بالصخرة التي عليها الأرض، وهي الصخرة التي ذكرها لقمان عليه السلام حيث قال: " يا بُنّي إنها إن تك مثقالَ حبّةٍ من خردلٍ فتكُنْ في صخرة أو في السموات أو في الأرض " الآية. فإذا أراد الله تعالى أن يزلزل قرية في الأرض أمر ذلك الجبل أن يحرك العرق الذي يلي تلك القرية، فتزلزل في الوقت. وقال مجاهد: هو جبل محيط بالأرض والبحار. وروي عن الضحاك أنه زمردة


(1/26)


خضراء، وعليه كنفا السماء كالخيمة المسبلة. وخضرة السماء منه. والله سبحانه وتعالى أعلم.

وأما ذكر البحار: فأعظم بحر على وجه الأرض: المحيط المطوق بها من سائر جهاتها، وليس له قرار ولا ساحل إلا من جهة الأرض، وساحله من جهة الخلو البحر المظلم، وهو محيط بالمحيط كإحاطة المحيط بالأرض، وظلمته من بعده عن مطلع الشمس ومغربها، وقرب قراره. والحكمة في كون ماء البحر ملحاً أُجاجاً لا يذاق ولا يساغ، لئلا ينتن من تقادم الدهور والأزمان، وعلى ممر الأحقاب والأحيان، فيهلك من نتنه العالم الأرضي، ولو كان عذباً لكان كذلك. ألا ترى إلى العين التي ينظر بها الإنسان الأرض والسماء والعالم والألوان، وهي شحمة مغمورة في الدمع، وهو ماء مالح، والشحم لا يصان إلا بالملح فكان الدمع مالحاً لذلك. المعنى: قاف محيط بالكل، كما تقدم. وفي الظلمات: عين الحياة، التي شرب الخضر عليه السلام منها، وهي في القطعة بين المغرب والجنوب.


(1/27)


وفي المحيط: الأرض التي فيها عرش إبليس اللعين، هو في التي بين المشرق والمغرب والجنوب، وهو إلى المشرق أقرب في مقابلة الربع الخراب من الأرض. والله أعلم.

وأما الخلجان الآخذة من المحيط فهي ثلاثة: أعظمها وأهولها بحر فارس، وهو البحر الآخذ من المحيط الشرقي من حد أرض بلاد الصين إلى لسان القلزم الذي أغرق الله فيه فرعون، وضرب لموسى وقومه فيه طريقاً يبساً، ثم بحر


(1/28)


الروم الآخذ من المحيط الغربي من حد الأندلس والجزيرة الخضراء، إلى أن يخالط خليج قسطنطينية. فأما إذا قطعت من لسان القلزم إلى حد الصين على حد مستقيم، كان مقدار تلك المسافة نحو مائتي مرحلة. وكذلك إذا شئت أن تبقطع من القلزم إلى أقصى حد بالمغرب على خط مستقيم، كان نحو مائة وثمانين مرحلة، وإذا


(1/29)


قطعت من القلزم إلى حد العراق في البرية على خط مستقيم، وشققت أرض السماوة، ألفيته نحو شهر.

ومن العراق إلى نهر بلخ نحو شهرين، ومن نهر بلخ إلى آخر بلاد الإسلام في حد فرغانة نيف وعشرون مرحلة، ومن هذا المكان إلى بحر المحيط من آخر عمل الصين نحو شهرين، هذا في البر.

وأما من أراد قطع هذه المسافة من القلزم إلى الصين في البحر طالت المسافة عليه، وحصلت له المشقة العظيمة، لكثرة المعاطف والتواء الطرق واختلاف الرياح في هذه البحور، وأما بحر الروم فإنه يأخذ من المحيط الغربي، كما تقدم بين الأندلس وطنجة. حتى ينتهي إلى ساحل بلاد الشام، ومقدار ما ذكر في المسافة أربعة أشهر. وهذا البحر أحسن استقامة واستواء من بحر فارس، وذلك أنك إذا أخذت من فم هذا الخليج، يعني من مبدئه، إلى المحيط أتتك ريح واحدة إلى أكثر هذا البحر. وبين القلزم الذي هو لسان بحر فارس وبين بحر الروم، على سمت القبلة، أربع مراحل. وزعم بعض المفسرين في قوله تعالى: " بينهما برزَخٌ لا يَبْغيان " أنه هذا الموضع.


(1/30)


فصل في ذكر المسافات

فمن مصر إلى أقصى الغرب نحو مائة وثلاثين مرحلة، فكان ما بين أقصى المغرب وأقصاها بالمشرق نحو أربعمائة مرحلة. وأما عرضها من أقصاها في حد الشمال إلى أقصاها في حد الجنوب فإنك تأخذ من ساحل البحر المحيط حتى ينتهي إلى يأجوج ومأجوج ثم يمر على الصقالبة وتقطع أرض البلغار


(1/31)


الداخلة وتمضي في بلاد الروم إلى الشام وأرض مصر والنوبة، ثم تمتد في برية بين بلاد السودان وبلاد الزنج حتى تنتهي إلى البحر المحيط. فهذا خط ما بين جنوب الأرض وشمالها.

وأما مسافة هذه الأرض وهذا الخط فمن ناحية يأجوج ومأجوج إلى بلغار وأرض الصقالبة نحو أربعين مرحلة، ومن أرض الصقالبة في بلد الروم إلى الشام نحو ستين مرحلة، ومن أرض الشام إلى أرض مصر نحو ثلاثين مرحلة، ومنها إلى أقصى النوبة نحو ثمانين مرحلة حتى تنتهي إلى هذه البرية. فذلك مائتان وعشر مراحل كلها عامرة.

وأما ما بين يأجوج ومأجوج والبحر المحيط في الشمال، وما بين براري السودان والبحر المحيط في الجنوب، فقفر خراب، فليس فيه عمارة ولا حيوان ولا نبات ولا يعلم مسافة هاتين البريتين إلى المحيط كم هي. وذلك أن سلوكها غير ممكن لفرط البرد الذي يمنع من العمارة والحياة في الشمال وفرط الحر المانع من العمارة والحياة في الجنوب. وجميع ما بين الصين والغرب فمعمور كله والبحر المحيط محتف به كالطوق ويأخذ البحر الرومي من المحيط ويصب فيه ويأخذ البحر الفارسي من المحيط أيضاً ولكن لا يصب فيه.


(1/32)


وأما بحر الخزر فليس يأخذ من المحيط ولا من غيره شيئاً أصلاً غير أنه مخلوق من مكانه من غير مادة، لكن يصب المحيط بواسطة خليج القسطنطينية. وهو بحر هائل لو سار السائر على ساحله من الخزر على أرض الديلم وطبرستان وجرجان ومفازة سياه كوه لعاد إلى المكان الذي سار منه من غير أن يمنعه مانع إلا نهراً يقطع فيه. وأما بحيرة خوارزم فكذلك غير أن لا مصب لها في المحيط فهذه الأبحر الأربعة العظام التي على وجه الأرض.

وفي أراضي الزنج وبلدانهم خلجان تأخذ من المحيط، وكذلك من وراء أرض الروم خلجان وبحار لا تذكر لقصورها عن هذه البحار وكثرتها. ويأخذ من البحر


(1/33)


المحيط أيضاً خليج حتى ينتهي على ظهر أرض الصقالبة نحو شهرين ويقطع أرض الروم على القسطنطينية حتى يقع بحر الروم. وأما أرض الروم فحدها من هذا البحر المحيط على بلاد الجلالقة وافرنجة ورومية وأشيناس إلى


(1/34)


القسطنطينية ثم إلى أرض ويشيدان يكون نحو مائة وسبعين مرحلة. وذلك أن من حد الثغور في الشمال إلى أرض الصقالبة نحو شهرين، وقد بينت لك أن من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال مائتي مرحلة وعشر مراحل.

وأما الروم المحض من حد رومية إلى حد الصقالبة وما ضمته إلى بلاد الروم من الأفرنجية والجلالقة وغيرهم فإن ألسنتهم مختلفة، غير أن الدين واحد والمملكة واحدة، كما أن في مملكة الإسلام ألسنة مختلفة والملك واحد، وأما مملكة الصين على ما زعم أبو إسحق الفارسي وأبو إسحق إبراهيم بن السكيت حاجب ملك خراسان فأربعة أشهر في ثلاثة أشهر الساكيت فإذا أخذت من فم الخليج حتى تنتهي إلى ديار الإسلام مما وراء النهر فهو نحو ثلاثة أشهر، وإذا أخذت من حد المشرق حتى تقطع إلى حد المغرب في أرض التبت. وتمتد في أرض التغزغز وخرخير وعلى ظهل كيماك إلى البحر فهو نحو شهر، ثم في أرض الصين ومملكته السنة مختلفة


(1/35)


وجميع الأتراك من التغزغز وخرخير وكيماك والغزية وإلى الخزلجية ألسنتهم واحدة، وبعضهم يفهم عن بعض، ومملكة الصين كلها منسوبة إلى الملك المقيم بالقسطنطينية، وكذلك مملكة الإسلام كانت منسوبة إلى المقيم ببغداد، ومملكة الهند منسوبة إلى الملك المقيم بقنوج، وفي بلاد الأتراك ملوك متميزون بممالكهم.

وأما الغزية فإن حدود ديارهم ما بين الخزر وكيماك وأرض الخزلجية وأطراف بلغار، وحدود الديلم ما بين جرجان إلى فاراب واسبيجاب وديار الكيماكية. وأما يأجوج ومأجوج فهم في ناحية الشمال إذا قطعت ما بين الكيماكية، والصقالبة، والله أعلم بمقاديرهم، وبلادهم شاهقة لا ترقاها الدواب ولا يصعدها إلا الرجالة. قال: ولم يخبر أحد عنهم خبراً أوجه من أبي إسحق صاحب خراسان فإنه أخبر أن تجارتهم إنما تصل إليهم على ظهور الرجال وأصلاب المعز، وأنهم ربما أقاموا في صعود الجبل ونزوله الأسبوع والعشرة أيام، وأما خرخير فإنهم ما بين التغزغز وكيماك والبحر المحيط وأرض الخزلجية والغزية.

وأما التغزغز فقوم من أطراف التبت وأرض الخزلجية وخرخير وأرض الصين. والصين ما بين البحر المحيط والتغزغز والتبت والخليج الفارسي. وأما أرض الصقالبة فعريضة طويلة نحو شهرين في شهرين.


(1/36)



يتبع


غير مبريء الذمه نقل الموضوع أو مضمونه بدون ذكر المصدر: منتديات الشامل لعلوم الفلك والتنجيم - من قسم: العلوم الخفية في التاريخ


...
....
الصورة الرمزية يناير
يناير
عضو
°°°
افتراضي



وبلغار مدينة صغيرة ليس لها أعمال كثيرة وكانت مشهورة لأنها كانت ميناء وفرضة لهذه الممالك فاكتسحتها الروس وأتل وسمندر في سنة ثمان وخمسين وثلثمائة فأضعفتها. والروس قوم بناحية بلغار فيما بينها وبين الصقالبة، وقد انقطعت طائفة من الترك عن بلادهم فصاروا ما بين الخزر والروم، ويقال لهم اليخياكية. وليس موضعهم بدار لهم على قدم الأيام.

وأما الخزر فإنهم جنس من الترك على هذا البحر المعروف بهم. وأما أتل فهم طائفة أخرى قديمة وسموا باسم نهرهم أتل الذي يصب في هذا البحر، وبلدهم أيضاً تسمى أتل وليس لهذا البلد سعة رزق ولا خفض عيش ولا اتساع مملكة، وهو بلد بين الخزر واليخياكية والسرير.

وأما التبت: فإنه بين أرض الصين والهند وأرض التغرغر الخزلجية وبحر فارس، وبعض بلاده في مملكة الهند وبعضها في مملكة الصين ولهم ملك قائم بنفسه يقال إن أصله من التبابعة ملوك اليمن. والله أعلم.

وأما جنوبي الأرض من بلاد السودان التي في أقصى المغرب على البحر المحيط فبلاد منقطعة ليس بينها وبين شيء من الممالك اتصال، غير أن حداً لها ينتهي إلى المحيط، وحداً لها ينتهي إلى برية بينها وبين أرض المغرب، وحداً لها إلى برية بينها وبين بلاد مصر على الواحات، وحداً لها إلى البرية التي ذكرنا أن لا نبات بها ولا حيوان ولا عمارة لشدة الحر، وقيل إن طول أرضهم سبعمائة فرسخ في مثلها غير أنها من البحر إلى ظهر الواحات وهو طولها وهو أطول من عرضها.

وأما أرض النوبة: فإن حداً لها ينتهي إلى بلاد مصر، وحداً لها إلى هذه البرية المهلكة التي


(1/37)


ذكرناها، وحداً لها ينتهي بين بلاد السودان وبلاد مصر المتقدم ذكرها أيضاً، وحداً لها إلى أرض البجة. وأما أرض البجة فإن ديارهم صغيرة وهم فيها بين الحبشة والنوبة وهذه البرية التي لا تسلك.

وأما الحبشة فإنها على بحر القلزم وهو بحر فارس فينتهي حد لها إلى بلاد الزنج، وحد لها إلى البرية التي بين النوبة وبحر القلزم، وحد لها إلى البجة، والبرية لا تسلك. وأما أرض الزنج فإنها أطول أراضي بلاد السودان ولا تتصل بمملكة من الممالك أصلاً غير بلاد الحبشة وهي في مجاورة اليمن وفارس وكرمان في الجنوب إلى أن تحاذي أرض الهند.


(1/38)


وأما أرض الهند: فإن طولها من عمل مكران في أرض المنورة والبدهة وسائر بلاد السند إلى أن ينتهي إلى قنوج، ثم تحوزه إلى أرض التبت، نحو من أربعة أشهر، وعرضها من بحر فارس على أرض قنوج نحو من ثلاثة أشهر.

وأما مملكة الإسلام: فإن طولها من حد فرغانة حتى تقطع خراسان والجبال والعراق وديار العرب إلى سواحل اليمن فهو نحو خمسة أشهر، وعرضها من بلاد الروم حتى تقطع الشام والجزيرة والعراق وفارس وكرمان إلى أرض المنصورة على شاطئ بحر فارس نحو أربعة أشهر. وإنما تركت في ذكر طول مملكة الإسلام حد المغرب إلى الأندلس لأنه مثل الكم في الثوب، وليس في شرقي المغرب ولا في غربيه إسلام، لأنك إذا جاوزت شرقي أرض المغرب كان جنوبي المغرب بلاد السودان وشماله بحر الروم ثم أرض الروم. ولو صلح أن يجعل من أرض فرغانة إلى أرض المغرب والأندلس طول الإسلام لكان مسيرة مائتي مرحلة وزيادة، لأن من أقصى المغرب إلى مصر نحو تسعين مرحلة، ومن مصر إلى العراق نحو ثلاثين مرحلة، ومن العراق إلى بلخ نحو ستين مرحلة، ومن بلخ إلى فرغانة نحو عشرين مرحلة. والله سبحانه وتعالى أعلم.


(1/39)


فصل في صفة الأرض وتقسيمها

من غير الوجه الذي تقدم ذكره

قال الله عز وجل: " ألم نَجعلِ الأَرْضَ مِهاداً والجِبالَ أوْتاداً " وقال عز من قائل: " الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء ". وقال سبحانه وتعالى: " والله جعل لكم الأرض بساطاً " قال قوم من المفسرين: معنى المهاد والبساط: القرار عليها والتمكن منها والتصرف فيها.

وقد اختلف العلماء في هيئة الأرض وشكلها: فذكر بعضهم أنها مبسوطة مستوية السطح في أربع جهات المشرق والمغرب والجنوب والشمال. وزعم آخرون أنها كهيئة المائدة. ومنهم من زعم أنها كهيئة الطبل. وذكر بعضهم أنها تشبه نصف الكرة كهيئة القبة وأن السماء مركبة على أطرافها. والذي عليه الجمهور أن الأرض مستديرة كالكرة وأن السماء محيطة بها من كل جانب كإحاطة البيضة بالمحة، فالصفرة بمنزلة الأرض، وبياضها بمنزلة الماء وجلدها بمنزلة السماء، غير أن خلقها ليس فيه استطالة كاستطالة البيضة بل هي مستديرة كاستدارة الكرة المستديرة المستوية الخرط، حتى قال مهندسوهم: لو حفر في الوهم وجه الأرض لأدى إلى الوجه الآخر، ولو نقب مثلاً بأرض الأندلس لنفذ الثقب بأرض الصين. وزعم قوم أن الأرض مقعرة، وسطها كالجام.


(1/40)


واختلف في كمية عدد الأرضين قال الله عز وجل وهو أصدق القائلين: " الذي خلق سبع سمواتٍ ومن الأرضِ مثلهنّ " فاحتمل هذا التمثيل أن يكون في العدد والطباق. فروي في بعض الأخبار أن بعضها فوق بعض، وغلظ كل أرض مسيرة خمسمائة عام، حتى عدد بعضهم لكل أرض أهلاً على صفة وهيئة عجيبة، وسمى كل أرض باسم خاص، كما سمى كل سماء باسم خاص. وزعم بعضهم أن في الأرض الرابعة حيات أهل الدنيا وفي الأرض السادسة حجارة أهل النار، فمن نازعته نفسه إلى الاستشراف عليها نظر في كتب وهب بن منبه وكعب ومقاتل. وعن عطاء بن يسار في قول الله عز وجل: " سبع سموات ومن الأرض مثلهن " قال: في كل أرض آدم مثل آدمكم، ونوح مثل نوحكم، وإبراهيم مثل إبراهيمكم. والله أعلم.


(1/41)


وليس هذا القول بأعجب من قول الفلاسفة: إن الشموس شموس كثيرة والأقمار أقمار كثيرة ففي كل اقليم شمس وقمر ونجوم. وقال القدماء الأرض سبع على المجاورة والملاصقة وافتراق الإقليم، لا على المطابقة والمكابسة. وأهل النظر من المسلمين يميلون إلى هذا القول، ومنهم من يرى أن الأرض سبع على الانخفاض والارتفاع كدرج المراقي. ويزعم بعضهم أن الأرض مقسومة خمس مناطق وهي: المنطقة الشمالية والجنوبية والمستوية والمعتدلة والوسطى، واختلفوا في مبلغ الأرض وكميتها، فروي، عن مكحول أنه قال: مسيرة ما بين أقصى الدنيا إلى أدناها خمسمائة سنة، مائتان من ذلك في البحر، ومائتان ليس يسكنها أحد، وثمانون فيها يأجوج ومأجوج، وعشرون فيها سائر الخلق.

وعن قتادة قال: الدنيا أربعة وعشرون ألف فرسخ، منها اثنا عشر ألف فرسخ ملك السودان، وملك الروم ثمانية آلاف فرسخ، وملك العجم والترك ثلاثة آلاف فرسخ، وملك العرب ألف فرسخ، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ربع من لا يلبس الثياب من السودان أكثر من جميع الناس.


(1/42)


وقد حدد بطليموس مقدار قدر الأرض واستدارتها في المجسطي بالتقريب، قال: استدارة الأرض مائة ألف وثمانون ألف اسطاربوس؛ والاسطاربوس أربعة وعشرون ميلاً فيكون هذا الحكم مائة ألف ألف وأربعمائة وأربعين ألف فرسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل ثلاثة آلاف ذراع بالملكي، والذراع ثلاثة أشبار، وكل شبر اثنا عشر أصبعاً، والأصبع الواحد خمس شعيرات مضمومات بطون بعضها إلى بعض، وعرض الشعيرة الواحدة ست شعيرات من شعر بغل. والإسطاربوس اثنان وسبعون ألف ذراع، قال: وغلظ الأرض وهو قطرها سبعة آلاف وستمائة وثلاثون ميلاً فيكون ألفين وخمسمائة فرسخ وخمسة وأربعين فرسخاً وثلثي فرسخ. قال: فبسط الأرض كلها مائة واثنان وثلاثون ألف ألف وستمائة ألف ميل فيكون مائتي ألف وثمانية وثمانين ألف فرسخ، فإن كان ذلك حقاً فهو وحي من الحق سبحانه أو إلهام، وإن كان قياساً واستدلالاً فقريب أيضاً من الحق. والله أعلم.


(1/43)


وأما قول قتادة ومكحول فلا يوجب العلم اليقين الذي يقطع على الغيب به.

واختلفوا في البحار والمياه والأنهار، فروى المسلمون أن الله خلق ماء البحار مراً زعافاً وأنزل من السماء ماء عذباً كما قال الله تعالى: " أفرأيتم الماء الذي تشربون، أأنتم أنزلتموه من المُزْن أم نحن المُنْزِلون، لو نشاء لجعلناه أجاجاً فَلَوْلا تشكرون " وقال تعالى " وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض " فكل ماء عذب من بئر أو نهر أو عين فمن ذلك الماء المنزل من السماء، فإذا اقتربت الساعة بعث الله ملكاً معه طست لا يعلم عظمته إلا الله تعالى فجمع تلك المياه فردها إلى الجنة.

وزعم أهل الكتاب أن أربعة أنهار تخرج من الجنة: الفرات وسيحان وجيحان ودجلة. وذلك أنهم يزعمون أن أهل الجنة في مشارق الأرض. وروي أن


(1/44)


الفرات جزر في أيام معاوية رضي الله عنه، فرمى برمانة مثل البعير البارك، فقال كعب: إنها من الجنة. فإن صدقوا فليست هي بجنة الخلد ولكنها من جنان الأرض. وعند القدماء أن المياه من الاستحالات، فطعم كل ماء على طعم أرضه وتربته؛ وأما نحن فلا ننكر قدرة الله تعالى على إحالة الشيء على ما يشاء كما تحول النقطة علقة والعلقة مضغة، ثم كذلك حالاً بعد حال إلى أن يفنيه كما يشاء وكما أنشأه. فسبحان من قدرته صالحة لكل شيء.

واختلفوا أيضاً في ملوحة البحر: فزعم قوم أنه لما طال مكثه وألحت الشمس عليه بالإحراق صار مراً ملحاً واجتذب الهواء ما لطف من أجزائه فهو بقية ما صفته الأرض من الرطوبة فغلظ لذلك. وزعم آخرون أن في البحر عروقاً تغير ماء


(1/45)


البحر ولذلك صار مراً زعافاً.

واختلفوا في المد والجزر، فزعم أرسطاطاليس أن علة ذلك من الشمس إذا حركت الريح، فإذا ازدادت الرياح كان منها المد، وإذا نقصت كان منها الجزر. وزعم كيماويش أن المد بانصباب الأنهار في البحر والجزر بسكونها. والمنجمون منهم من زعم أن المد بامتلاء القمر والجزر بنقصانه. وقد روي في بعض الأخبار أن الله جعل ملكاً موكلاً بالبحار، فإذا وضع قدمه في البحر مد وإذا رفعه جزر؛ فإن صح ذلك والله أعلم كان اعتقاده أولى من المصير إلى غيره مما لا يفيد حقيقة. ولو ذهب ذاهب إلى أن ذلك الملك هو مهب الرياح التي تكون سبباً للمد وتزيد في الأنهار وتفعل ذلك عند امتلاء المقر حتى يكون توفيقاً وجمعاً بين الكل لكان ذلك مذهباً حسناً. والله أعلم.

واختلفوا في الجبال. قال الله تعالى: " وألقى في الأرض رواسيَ أن تميدَ بكم " وقال تعالى: " ق، والقرآنِ المجيد ". قال بعض المفسرين. إن من جبل قاف إلى السماء مقدار قامة رجل طويل. وقال آخرون. بل السماء منطبقة عليه. وقال قوم: من وراء قاف عوالم وخلائق لا يعلمها إلا الله تعالى. ومنهم من يقول: ما وراءه فهو من حد الآخرة ومن حكمها، وأن الشمس تطلع منه وتغيب فيه وهو الساتر لها عن الأرض؛ ومنهم من يزعم أن الجبال عظام الأرض وعروقها.


(1/46)


واختلفوا فيما تحت الأرض: أما القدماء فأكثرهم يزعمون أن الأرض يحيط بها الماء، وهذا ظاهر، والماء يحيط به الهواء؛ والهواء تحيط به النار، والنار تحيط بها السماء الدنيا ثم السماء الثانية ثم الثالثة إلى السبع، ثم يحيط بالكل فلك الكواكب الثابتة؛ ثم يحيط بالكل الفلك الأعظم الأطلس المستقيم، ثم يحيط بالكل عالم النفس، وفوق عالم النفس عالم العقل، وفوق عالم العقل عالم الروح وفوق عالم الروح والأمر الحضرة الإلهية " وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ".

وعلى قاعدة مذهب القدماء يلزم أن تحت الأرض سماء كما فوقها. وروي أن الله تعالى لما خلق الأرض كانت تتكفأ كما تتكفأ السفينة، فبعث الله ملكاً فهبط حتى دخل تحت الأرض فوضعها على كاهله ثم أخرج يديه، إحداهما بالمشرق والأخرى بالمغرب، ثم قبض على الأرضين السبع فضبطها فاستقرت. ولم يكن لقدم الملك قرار، فأهبط الله ثوراً من الجنة له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة فجعل قرار قدمي الملك على سنامه، فلم تصل قدماه إلى سنامه، فبعث الله تعالى ياقوتة خضراء من الجنة، غلظها مسيرة كذا ألف عام، فوضعها على سنام الثور فاستقرت عليها قدماً الملك وقرون الثور خارجة من أقطار الأرض ممتدة إلى العرش، ومنخر الثور في ثقبين من تلك الياقوتة الخضراء تحت البحر، فهو يتنفس في كل يوم نفسين، فإذا تنفس مد البحر وإذا رد النفس جزر البحر، ولم يكن لقوائم الثور قرار، فخلق الله كثيباً من رمل كغلظ سبع سموات وسبع أرضين، فاستقرت عليه قوائم الثور، ثم لم يكن للكثيب مستقر، فخلق الله حوتاً يقال له البهموت فوضع الكثيب على وبر الحوت والوبر: الجناح الذي يكون في وسط ظهره وذلك الحوت مزموم بسلسلة من القدرة كغلظ السموات والأرض مراراً.

قال: وانتهى إبليس لعنه الله إلى ذلك الحوت فقال له: ما خلق الله خلقاً أعظم منك فلم لا تزيل الدنيا عن ظهرك؟ فهم بشيء من


(1/47)


ذلك فسلط الله عليه بقة في عينيه فشغلته. وزعم بعضهم أن الله سلط عليه سمكة وشغله بها فهو ينظر إليها ويهابها ويخافها.

قيل: وأنبت الله عز وجل من تلك الياقوتة جبل قاف، وهو من زمردة خضراء وله رأس ووجه وأسنان، وأنبت من جبل قاف الجبال الشواهق كما أنبت الشجر من عروق الشجر. وزعم وهب رضي الله عنه أن الثور والحوت يبتلعان ما ينصب من مياه الأرض في البحار، فلذلك لا تؤثر في البحور زيادة فإذا امتلأت أجوافها من المياه قامت القيامة. وزعم قوم أن الأرض على الماء والماء على الصخرة والصخرة على سنام الثور والثور على كثيب من الرمل متلبداً، والكثيب على ظهر الحوت والحوت على الريح العقيم والريح العقيم على حجاب من ظلمة والظلمة على الثرى. وإلى الثرى انتهى علم الخلائق، ولا يعلم ما وراء ذلك أحد إلا الله عز وجل الذي له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى.

وهذه الأخبار مما يتولع به الناس ويتنافسون فيه، ولعمري إن ذلك مما يزيد المرء بصيرة في دينه وتعظيماً لقدرة ربه، وتحيراً في عجائب خلقه، فإن صحت فما خلقها على الصانع بعزيز، وإن يكن من اختراع أهل الكتاب وتنميق القصاص، فكلها تمثيل وتشبيه ليس بمنكر. والله أعلم.

وقد روى شيبان بن عبد الرحمن عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنهم قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه إذ أتى


(1/48)


عليهم سحاب فقال: هل تدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا العنان، هذه زوايا الأرض يسوقها الله إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه. ثم قال: هل تدرون ما الذي فوقكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنها الرقيع، سقف محفوظ وموج مكفوف. ثم قال: هل تدرون كم بينكم وبينها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فوقه العرش وبينه وبين السماء كبعد ما بين سماءين أو كما قال ثم قال: أتدرون ما تحتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: الأرض، وتحتها أرض أخرى بينهما خمسمائة عام. ثم قال: والذي نفس محمد بيده لو أنكم أُدليتم بحبل لهبطتم على الله. ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: " هو الأول والآخر والظاهر والباطن " الآية: فهذا الخبر يشهد بصدق كثير مما يروون، إن صح. والله أعلم.

ولنرجع الآن إلى ما نحن بصدده من ذكر شرح الدائرة المذكورة، وتفصيل البلدان وذكرها، وذكر عجائبها وأخبارها.


(1/49)


فهرست ما نذكره إن شاء الله تعالى من الفصول المتضمنة ذلك:

فصل في ذكر البلدان والأقطار. فصل في الخلجان والبحار. فصل في الجزائر والآثار. فصل في العجائب للاعتبار. فصل في مشاهير الأنهار. فصل في العيون والآبار. فصل في الجبال الشواهق الكبار. فصل في خواص الأحجار ومنافعها. فصل في المعادن والجواهر وخواصها. فصل في النباتات والفواكه وخواصها. فصل في الحبوب وخواصها. فصل في البقول وخواصها. فصل في حشائش مختلفة وخواصها. فصل في البذور وخواصها. فصل في الحيوانات والطيور وخواصها. خاتمة الكتاب في ذكر الملاحم وعلامات الساعة وظهور الفتن والحوادث، ولها فصول تذكر عند الشروع في كتابتها إن شاء الله تعالى. وبإتمامه يتم الكتاب، والله تعالى الموفق للصواب.


(1/50)


فصل في ذكر البلدان والأقطار

أعلم وفقنا الله وإياك أن بين مطلع الشمس ومغربها مدناً وبلاداً وأنهاراً لا تحصى كثرةً، ولا يحصيها إلا الله سبحانه وتعالى. ولكن نذكر منها ما ذكره فائدة واعتبار من البلاد المشهورة، ونضرب صفحاً عن ذكر ما ليس بمشهور، ولا اعتبار ولا فائدة في ذكره خوفاً من التطويل والسآمة، والله تعالى المستعان.

فنبتدئ أولاً بذكر بلاد المغرب إلى المشرق، ثم نعود إلى بلاد الجنوب وهي بلاد السودان، ثم نعود إلى بلاد الشمال وهي بلاد الروم والأفرنج والصقالبة وغيرهم، على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى: أرض المغرب أولها البحر المحيط، وهو بحر مظلم لم يسلكه أحد ولا يعلم سر ما خلفه. وبه جزائر عظيمة كثيرة عامرة يأتي ذكرها عند ذكر الجزائر، منها جزيرتان تسميان الخالدتين، على كل واحدة منهما صنم طوله مائة ذراع بالملكي، وفوق كل صنم منها صورة رجل من نحاس يشير بيده إلى خلف، أي: ما ورائي شيء ولا مسلك. والذي وضعهما وبناها لم يذكر له اسم.

فأول بلاد المغرب السوس الأقصى وهو إقليم كبير فيه مدن عظيمة أزلية وقرى متصلة وعمارات متقاربة، وبه أنواع الفواكه الجليلة المختلفة الألوان والطعوم، وبه قصب السكر الذي ليس على وجه الأرض مثله طولاً وغلظاً وحلاوة حتى قيل: إن طول العود الواحد يزيد على عشرة أشبار في الغالب، ودوره شبر،


(1/51)


وحلاوته لا يعادلها شيء حتى قيل: إن الرطل الواحد من سكره يحمل عشرة أرطال من الماء وحلاوته ظاهرة. ويحمل من بلاد السوس من السكر ما يعم جميع الأرض لو حمل إلى البلاد، وبها تعمل الأكسية الرفيعة الخارقة، والثياب الفاخرة السوسية المشهورة في الدنيا، ونساؤها في غاية الحسن والجمال والظرف والذكاء، وأسعارها في غاية الرخص، والخصب بها كثير.

فمن مدنها المشهورة ما رودنت وهي مدينة العظماء من ملوك المغرب، بها أنهار جارية وبساتين مشتبكة وفواكه مختلفة وأسعار رخيصة. والطريق منها إلى أغمات أريكة في أسفل جبل، ليس في الأرض مثله إلا القليل في العلو والارتفاع وطول المسافة واتصال العمارة وكثرة الأنهار والتفاف الأشجار والفواكه الفاخرة التي يباع منها الحمل بقيراط من الذهب. وبأعلى هذا الجبل أكثر من سبعين حصناً وقلعة، منها حصن منيع هو عمارة محمد بن تومرت، ملك المغرب، إذا أراد أربعة من


(1/52)


الناس أن يحفظوه من أهل الأرض حفظوه لحصانته، اسمه تأتملت. ولما مات محمد بن تومرت المذكور بجبل الكواكب حمل ودفن في هذا الحصن.

وأذكى: وهي أول مراقي الصحراء وهي مدينة متسعة، وقيل إن النساء التي فيها لا أزواج لهن، إذا بلغت إحداهن أربعين سنة تتصدق بنفسها على الرجال فلا تمتنع ممن يريدها.

سجلماسة: من مدنها المشهورة، وهي واسعة الأقطار عامرة الديار رائعة البقاع فائقة القرى والضياع. غزيرة الخيرات كثيرة البركات. يقال إنه يسير السائر في أسواقها نصف يوم فلا يقطعها، وليس لها حصن بل قصور شاهقة وعمارات متصلة خارقة، وهي على نهر يأتي من جهة المشرق وبها بساتين كثيرة وثمار مختلفة، وبها رطب يسمى النوبي، وهو أخضر اللون حسن المظهر أحلى من الشهد


(1/53)


ونواه في غاية الصغر. ويقال إنهم يزرعون ويحصدون الزرع ويتركون جذوره وأصوله في الأرض على حالها قائمة، فإذا كان في العام المقبل وعمه الماء نبت ثاني مرة واستغله أربابه، من غير بذر، وبها يأكلون الكلاب والجراذين وغالب أهلها عمش العيون.

ورفادة: وهي مدينة عظيمة حصينة خصيبة. ذكر أهل الطبائع أنه يحصل للرجال بها الضحك من غير عجب، والسرور من غير طرب، وعدم الهم والنصب، ولا يعلم لذلك موجب ولا سبب.

أغمات: وهي مدينتان: أغمات أريكة وهي مدينة عظيمة في ذيل جبل كثير الأشجار والثمار والأعشاب والنباتات، ونهرها يشقها وعلى النهر أرحية كثيرة تدور صيفاً وفي الشتاء يجمد الماء ويجوز عليه الناس والدواب، وبها عقارب قتالة في الحال، وأهلها ذوو أموال ويسار ولهم على أبوابهم علامات تدل على مقادير أموالهم. وأغمات إيلان وهي مدينة كبيرة في أسفل جبل يسكنها يهود تلك البلاد.


(1/54)


فاس: وهي مدينة كبيرة ومدينة صغيرة يشقها نهر كبير يأتي من عيون صنهاجة وعليه أرحاء كثيرة. وتسمى إحدى هاتين المدينتين الأندلس ومياهها قليلة والأخرى القرويس وهي ذات مياه كثيرة يجري الماء في كل شارع منها، وسوق وزقاق وحمام ودار، وفي كل زقاق ساقية متى أراد أهل الزقاق أن يجروها أجروها وإذا أرادوا قطعها قطعوها.

المهدية: مدينة حسنة حصينة بناها المهدي الفاطمي وحصنها وجعل لها أبواباً من حديد، في كل باب ما يزيد على مائة قنطار، ولما بناها وأحكمها قال: أمنت الآن على الفاطميين.


(1/55)


سبتة: مدينة في بر العدو قبالة الجزيرة الخضراء، وهي سبعة أجبل صغار متصلة عامرة ويحيط بها البحر من ثلاث جهاتها. وفيها أسماك عظيمة ليست في غيرها. وبها شجر المرجان الذي لا يفوقه شيء حسناً وكثرة، وبها سوق كبيرة لإصلاح المرجان، وبها من الفواكه وقصب السكر شيء كثير جداً.

طنجة: هي في


(1/58)


العدوة أيضاً وكذلك فاس وباقي المدن المشهورة كافريقية وتاهرت ووهران والجزائر والمقل والقيروان فكلها مدن حسنة متقاربة المقادير. والله سبحانه وتعالى أعلم.

الغرب الأوسط: وهو شرق بلاد البر، ومن مدنه بلاد الأندلس وسميت بالأندلس لأنها جزيرة مثلثة الشكل رأسها في أقصى المغرب في نهاية المعمورة، وكان أهل السوس وهم أهل المغرب الأقصى يضرون أهل الأندلس في كل وقت ويلقون إليهم الجهد الجهيد إلى أن اجتاز بهم الإسكندر فشكوا إليه حالهم فأحضر المهندسين وحضر إلى الزقاق، وكان له أرض جافة، فأمر المهندسين بوزن سطح الماء من المحيط والبحر الشامي، فوجدوا المحيط يعلو البحر الشامي بشيء يسير، فأمر


(1/59)


برفع البلاد التي على ساحل البحر الشامي ونقلها من الحضيض إلى الأعلى، ثم أمر أن تحفر الأرض بين طنجة وبلاد الأندلس فحفرت حتى ظهرت الجبال السفلية وبنى عليها رصيفاً بالحجر والجير بناء محكماً وجعل طوله اثني عشر ميلاً، وهي المسافة التي كانت بين البحرين، وبنى رصيفاً آخر يقابله من ناحية طنجة وجعل بين الرصيفين ستة أميال. فلما أكمل الرصيفين حفر لها من جهة البحر الأعظم وأطلق فم الماء بين الرصيفين ودخل في البحر الشامي. ثم فاض ماؤه فأغرق مدناً كثيرة وأهلك أمماً عظيمة كانت على الشاطئين، وطغى الماء على الرصيفين إحدى عشرة قامة. فأما الرصيف الذي يلي بلاد الأندلس فإنه يظهر في بعض الأوقات إذا نقص الماء ظهوراً بيناً مستقيماً على خط واحد، وأهل الجزيرتين يسمونه القنطرة، وأما الرصيف الذي من جهة طنجة فإن الماء حمله في صدره واحتفر ما خلفه من الأرض اثني عشر ميلاً، وعلى طرفه من جهة الشرق الجزيرة الخضراء، وعلى طرفه من جهة الغرب جزيرة طريف. وتقابل الجزيرة الخضراء في بر العدوة سبتة، وبين سبتة والجزيرة الخضراء عرض البحر.

والأندلس به جزائر عظيمة كالخضراء، وجزيرة قادس، وجزيرة طريف، وكلها عامرة مسكونة آهلة.


(1/60)


ومن مدنه إشبيلية وهي مدينة عامرة على ضفة النهر الكبير المعروف بنهر قرطبة، وعليه جسر مربوطة به السفن، وبها أسواق قائمة وتجارات رابحة وأهلها ذوو أموال عظيمة وأكثر متاجرهم في الزيت، وهي تشتمل على كثير من أقاليم الشرق، واقليم الشرق على تل عال من تراب أحمر مسافته أربعون ميلاً في مثلها، يمشي فيها المسافر في ظل الزيتون والتين، ولها على ما ذكر التجار ثمانية آلاف قرية عامرة بالأسواق العامرة والديار الحسنة والفنادق والحمامات.

ومن أقاليم الأندلس اقليم الكنانية ومن مدنه المشهورة قرطبة وهي قاعدة بلاد الأندلس ودار الخلافة الإسلامية، وهي مدينة عظيمة وأهلها أعيان البلاد،


(1/61)


وسراة الناس في حسن المآكل والملابس والمراكب وعلو الهمة، وبها أعلام العلماء وسادات الفضلاء وأجلاء الغزاة وأمجاد الحروب؛ وهي في نفسها خمس مدن يتلو بعضها بعضاً، وبين المدينة والمدينة سور حصين حاجز، وبكل مدينة منها ما يكفيها من الأسواق والفنادق والحمامات والصناعات، وطولها ثلاثة أميال في عرض ميل واحد، وهي في سفح جبل مطل عليها يسمى جبل القروش.

ومدينتها الثالثة وهي الوسطى، فيها باب القنطرة وبها الجامع الذي ليس في معمور الأرض مثله، طوله ذراع في عرض ثمانين ذراعاً وفيه من السواري الكبار ألف سارية، وفيه مائة وثلاث عشرة ثريا للوقود، أكبرها يحمل ألف مصباح، وفيه من النقوش والرقوم ما لا يقدر أحد على وصفه، وبقبلته صناعات تدهش العقول، وعلى فرجة المحراب سبع قسي قائمة على عمد طول كل قوس فوق القامة، تحير الروم والمسلمون في حسن وضعها. وفي عضادتي المحراب أربعة أعمدة، اثنان أخضران واثنان لازورديان، ليس لها قيمة. وبه منبر ليس على معمور الأرض مثله في حسن صنعته، وخشبه ساج وأبنوس وبقس وعود قاقلي. ويذكر في كتب تواريخ بني أمية أنه أحكم عمله ونقشه في سبع سنين، وكان يعمل فيه ثمانية صناع، لكل صانع في كل يوم نصف مثقال محمدي، وكان جملة ما صرف على المنبر أجرة لا غير عشرة آلاف مثقال وخمسي مثقال. وفي الجامع حاصل كبير ملآن من آنية الذهب والفضة لأجل وقوده. وبهذا الجامع مصحف فيه أربع ورقات من مصحف عثمان


(1/62)


بن عفان رضي الله تعالى عنه بخطه، أي بخط يده، وفيهن نقط من دمه. وله عشرون باباً مصفحات بالنحاس الأندلسي، مخرمات تخريماً يعجز البشر، وفي كل باب حلق، في نهاية الصنعة والحكمة. وبه الصومعة العجيبة التي ارتفاعها مائة ذراع بالملكي المعروف بالرشاشي، وفيها من أنواع الصنائع الدقيقة ما يعجز الواصف عن وصفه ونعته. وبهذا الجامع ثلاثة أعمدة حمر مكتوب على أحدها اسم محمد، وعلى الآخر صورة عصا موسى وأهل الكهف، وعلى الثالث صورة غراب نوح. والجميع خلقة ربانية.

وبمدينة قرطبة القنطرة العجيبة التي فاقت قناطر الدنيا حسناً وإتقاناً، وعدد قسيها سبعة عشر قوساً، كل قوس منها خمسون شبراً وبين كل قوسين خمسون شبراً. ومحاسن هذه المدينة أعظم من أن يحيط بها وصف.


(1/63)


ومن أقاليم جزيرة الأندلس إقليم أشبونة. ومن مدنه أشبونة وهي مدينة حسنة شمالي النهر المسمى باجة، الذي هو نهر طليطلة. والمدينة ممتدة مع هذا النهر، وهي على بحر مظلم وبها أسواق قائمة وفنادق عامرة وحمامات كثيرة، ولها سور منيع ويقابله على ضفة النهر حصن المعدن وسمي بذلك لأن البحر يمتد عند سيحانه فيقذف بالذهب التبر إلى نحو ذلك الحصن وما حوله، فإذا رجع الماء قصد أهل تلك البلاد نحو هذا الحصن فيجدون به الذهب إلى أوان سيحانه أيضاً. ومن أشبونة هذه كان خروج المغرورين في ركوب البحر المظلم الذي في أقصى بلاد الغرب وهو بحر عظيم هائل غليظ المياه كدر اللون شامخ الموج صعب الظهر، لا


(1/64)


يمكن ركوبه لأحد من صعوبته وظلمة متنه وتعاظم أمواجه وكثرة أهواله وهيجان رياحه وتسلط دوابه. وهذا البحر لا يعلم أحد قعره ولا يعلم ما خلفه إلا الله سبحانه وتعالى، وهو غور المحيط ولم يقف أحد من خبره على الصحة ولا ركبه أحد ملججاً أبداً، إنما يمر مع ذيل الساحل لأن به أمواجاً كالجبال الشوامخ، ودوي هذا البحر كعظم دوي الرعد لكن أمواجه لا تنكسر، ولو تكسرت لم يركبه أحد، لا ملججاً ولا مسوحلاً.

حكاية: اتفق جماعة من أهل أشبونة، وهم ثمانية أنفس وكلهم بنو عم، فأنشئوا مركباً كبيراً وحملوا فيه من الزاد والماء ما يكفيهم مدة طويلة وركبوا متن هذا البحر ليعرفوا ما في نهايته ويروا ما فيه من العجائب، وتحالفوا أنهم لا يرجعون أبداً حتى ينتهوا إلى البر الغربي أو يموتوا. فساروا فيه ملججين أحد عشر يوماً، فدخلوا إلى بحر غليظ عظيم الموج كدر الريح مظلم المتن والقعر كثير القروش، فأيقنوا بالهلاك والعطب، فرجعوا مع البحر في الجنوب اثني عشر يوماً فدخلوا جزيرة الغنم وفيها من الأغنام ما لا يحصي عددها إلا الله تبارك وتعالى، وليس بها آدمي ولا بشر، ولا لها صاحب، فنهضوا إلى الجزيرة وذبحوا من ذلك الغنم وأصلحوه وأرادوا الأكل فوجدوا لحومها مرة لا تؤكل: فأخذوا من جلودها ما أمكنهم، ووجدوا بها عين ماء فملئوا منها وسافروا مع الجنوب اثني عشر يوماً آخر، فوافوا جزيرة وبها عمارة فقصدوها، فلم يشعروا إلا وقد أحاط بهم زوارق، بها قوم موكلون بها، فقبضوا عليهم وحملوهم إلى الجزيرة فدخلوا إلى مدينة على ضفة البحر وأنزلوهم بدار، ورأوا بتلك الجزيرة والمدينة رجالاً شقر الألوان طوال القدود، ولنسائهم جمال مفرط خارج عن الوصف، فتركوهم في الدار ثلاثة أيام. ثم دخل عليهم في اليوم الرابع إنسان ترجمان وكلمهم بالعربي وسألهم عن حالهم فأخبروه بخبرهم، فأحضروا إلى


(1/65)


ملكهم فأخبره الترجمان بما أخبروه من حالهم، فضحك الملك منهم وقال للترجمان: قل لهم إني وجهت من عندي قوماً في هذا البحر ليأتوني بخبر ما فيه من العجائب، فساروا مغربين شهراً حتى انقطع عنهم الضوء وصاروا في مثل الليل المظلم، فرجعوا من غير فائدة، ووعدهم الملك خيراً. وأقاموا عنده حتى هبت ريحهم فبعثهم مع قوم من أصحابه في زورق وكتفوهم وعصبوا أعينهم وسافروا بهم مدة لا يعلمون كم هي، ثم تركوهم على الساحل وانصرفوا. فلما سمعوا كلام الناس صاحوا فأقبلوا إليهم وحلوا عن أعينهم وقطعوا كتافهم، وأخبروهم بخبر الجماعة، فقال لهم الناس: هل تدرون كم بينكم وبين أرضكم؟ قالوا: لا قالوا: فوق شهر. فرجعوا إلى بلدهم. ولهم في أشبونة حارة مشهورة تسمى حارة المغرورين إلى الآن.


(1/66)


ومالقة: وهي مدينة كبيرة واسعة الأقطار عامرة الديار، قد استدار بها من جميع جهاتها ونواحيها شجر التين المنسوب إلى زيد، وهو أحسن التين لوناً وأكبره جرماً وأنعمه شحماً وأحلاه طعماً، حتى إنه يقال ليس في الدنيا مدينة عظيمة محيط بها سور من حلاوة. عرض السور يوم للمسافرين إلى مالقة، ويحمل منها التين إلى سائر الأقاليم حتى إلى الهند والصين، وهو مسافة سنة لحسنه وحلاوته وعدم تسويسه ونقاء صحته. ولها ربضان عامران: ربض عام للناس وربض للبساتين. وشرب أهلها من الآبار، وبينها وبين قرطبة حصون عظيمة.

ومن أقاليم جزيرة الأندلس إقليم السيارات ومن مدنه المشهورة غرناطة وهي مدينة محدثة. وما كان هناك


(1/67)


مدينة مقصودة إلا البيرة فخربت وانتقل أهلها إلى غرناطة. وحسن الصنهاجي هو الذي مدنها وبنى قصبتها وأسوارها ثم زاد في عمارتها ابنه باديس بعده، وهي مدينة يشقها نهر الثلج المسمى سيدل وبدؤه من جبل سمكير، والثلج بهذا الجبل لا يبرح.


(1/68)


ومن المدن المشهورة المرية وكانت مدينة الإسلام في أيام التمكين، وكان بها من جميع الصناعات كل غريب، وكان بها لنسج الطرز الحريرية ثمانمائة نول. ولحلل الحرير النفيسة والديباج الفاخر ألف نول وللسفلاطون كذلك، وللثياب الجرجانية كذلك، وللأصبهاني مثل ذلك، وللعنابي والمعاجر المذهبة الستور


(1/69)


والمكللة بالشرج، وكان يصنع بها صنوف آلات الحديد والنحاس والزجاج مما لا يوصف. وكان بها أنواع الفاكهة العجيبة التي تأتيها من وادي بجاية ما يعجز عنه الواصف حسناً وطيباً وكثرة، وتباع بأرخص ثمن، وهذا الوادي طوله أربعون ميلاً في مثلها، كلها بساتين مثمرة وجنات نضرة وأنهار مطردة وطيور مغردة. ولم يكن في بلاد الأندلس أكثر مالاً من أهلها ولا أكثر متاجر ولا أعظم ذخائر، وكان بها من الفنادق والحمامات ألف مغلق إلا ثلاثين، وهي بين جبلين بينهما خندق معمور، على الجبل الواحد قصبتها المشهورة بالحصانة، وعلى الجبل الآخر ربضها. والسور محيط بالمدينة والربض، وغربيهن ربض لها آخر يسمى ربض الحوض، ذو أسواق وحمامات وفنادق وصناعات، وقد استدار بها من كل جهة حصون مرتفعة وأحجار أزلية وكأنما غربلت أرضها من التراب، ولها مدن وضياع متصلة الأنهار.

قرطاجنة: مدينة أزلية كثيرة الخصب، ولها اقليم يسمى القندوق، قليل مثله في طيب الأرض ونمو الزرع. ويقال إن الزرع فيه يكتفي بمطرة واحدة. وكانت هذه المدينة في قديم الزمان من عجائب الدنيا لارتفاع بنائها واظهار القدرة فيه، وبها أقواس من الحجارة المقرنصة، وفيها من التصاوير والتماثيل وأشكال الناس وصور الحيوانات ما يحير البصر والبصيرة. ومن عجيب بنائها الدواميس، وهي أربعة وعشرون داموساً على صف واحد من حجارة مقرنصة طول كل داموس مائة وثلاثون خطوة في عرض ستين خطوة، وارتفاع كل واحد طول مائتي ذراع، بين كل داموسين أثقاب محكمة تصل فيها المياه من بعضها إلى بعض في العلو الشاهق، بهندسة عجيبة وإحكام بليغ، وكان الماء يجري إليها من شوتار وهي عين بقرب القيروان تخرج من جانب جبل، وإلى الآن يحفر في هدمها من سنة ثلثمائة فيخرج منها


(1/70)


من أنواع الرخام والمرمر والجزع الملون ما يبهر الناظر، قاله الجواليقي. ولقد أخبرني بعض التجار أنه استخرج منها ألواحاً من الرخام طول كل لوح أربعون شبراً في عشرة أشبار، والحفر بها دائم على ممر الليالي والأيام لم يبطل أبداً، ولا يسافر مركب أبداً، في البحر في تلك المملكة إلا وفيه من رخامها. ويستخرج منها أعمدة طول كل عامود ما يزيد على أربعين شبراً. وغالب الدواميس قائمة على حالها.

شاطبة: وهي مدينة حسنة يضرب بحسنها المثل، ويعمل بها الورق الذي لا نظير له في الأقاليم حسناً.

قنطرة السيف: وهي مدينة عظيمة، وبها قنطرة عظيمة وهي من عجائب الدنيا، وعلى القنطرة حصن عظيم منيع الذرى.


(1/71)


يتبع



الصورة الرمزية يناير
يناير
عضو
°°°
افتراضي
طليطلة: وهي مدينة واسعة الأقطار عامرة الديار، أزلية من بناء العمالقة الأولى العادية ولها أسوار حصينة لم ير مثلها إتقاناً أو متاعاً، ولها قصبة عظيمة وهي

(1/72)


على ضفة البحر الكبير يشقها نهر يسمى باجة ولها قنطرة عجيبة وهي قوس واحد، والماء يدخل من تحته بشدة جري، وفي آخر النهر ناعورة طولها تسعون ذراعاً بالرشاشي، يصعد الماء إلى أعلى القنطرة فيجري على ظهرها ويدخل إلى المدينة.

وكانت طليطلة دار مملكة الروم، وكان فيها قصر مقفل أبداً، وكلما تملك فيها ملك من الروم أقفل عليه قفلاً محكماً؛ فاجتمع على باب القصر أربعة وعشرون قفلاً، ثم ولي الملك رجل ليس من بيت الملك، فقصد فتح تلك الأموال على عدم فتحها فلم يرجع، وأزال الأقفال وفتح الباب فوجد فيها صور وحذروه وجهدوا به، فأبى إلا فتحها، فبذلوا له جميع ما بأيديهم من نفائس الأموال على عدم فتحها فلم يرجع، وأزال الأقفال الباب فوجد فيها صور العرب على خيلها وجمالها وعليهم العماثم المسبلة متقلدين السيوف وبأيديهم الرماح الطوال والعصي، ووجد كتاباً فيه: إذا فتح هذا الباب تغلب على هذه الناحية قوم من الأعراب على صفة هذه الصور، فالحذر من فتحه الحذر.

قال ففتح في تلك السنة الأندلس طارق بن زياد في خلافة الوليد بن عبد الملك من بني أمية، وقتل ذلك الملك شر قتلة ونهب ماله وسبى من بها وغنم


(1/73)


أموالها، ووجد بها ذخائر عظيمة، من بعضها مائة وسبعون تاجاً من الدر والياقوت والأحجار النفيسة، وإيوناً تلعب فيه الرماحة بأرماحهم قد ملئ من أواني الذهب والفضة مما لا يحيط به وصف، ووجد بها المائدة التي لنبي الله سليمان بن


(1/74)


داود عليهما السلام، وكانت على ما ذكر من زمرد أخضر. وهذه المائدة إلى الآن في مدينة رومية باقية، وأوانيها من الذهب وصحافها من اليشم والجزع. ووجد فيها الزبور بخط يوناني في ورق من ذهب مفصل بجوهر، ووجد مصحفاً محلى فيه منافع الأحجار والنبات والمعادن واللغات والطلاسم وعلم السيمساء والكيمياء.

ووجد مصحفاً فيه صناعة أصباغ الياقوت والأحجار وتركيب السموم والترياقات، وصورة شكل الأرض والبحار والبلدان والمعادن والمسافات، ووجد


(1/75)


قائمة كبيرة مملوءة من الأكسير، يرد الدرهم منه ألف درهم من الفضة ذهباً إبريزاً.

ووجد مرآة مستديرة عجيبة من أخلاط قد صنعت لسليمان عليه السلام، إذا نظر الناظر فيها رأى الأقاليم السبعة فيها عياناً ورأى مجلساً فيه من الياقوت والبهرمان وسق بعير. فحمل ذلك كله إلى الوليد بن عبد الملك، وتفرق العرب في مدنها. وبطليطلة بساتين محدقة وأنهار مغدقة ورياض وفواكه مختلفة الطعوم والألوان، ولها من جميع جهاتها أقاليم رفيعة ورساتيق مريعة وضياع وسيعة وقلاع منيعة، وشمالها جبل عظيم معروف بجبل الإشارات، به من البقر والغنم ما يعم البلاد كثرة وغزراً.


(1/76)


ذكر الغرب الأدنى: وهو الواحات وبرقة وصحراء الغرب والإسكندرية

فأما الواحات: فإن بها قوماً من السودان يسمون البربر، وهم في الأصل عرب مخضرمون وبها كثير من القرى والعمائر والمياه وهي أرض حارة جداً، وهي في ضفة الجبل الحائل بين أرض مصر والصحارى، وينتج بهذه الأرض وما اتصل بها من أرض السودان حمر وحشية منقوشة ببياض وسوداء بزي عجيب لا يمكن ركوبها، وإن خرجت عن أرضها ماتت في الحال. وكان في القديم يزرع بأرضها الزعفران كثيراً وكذلك البليلج والعصفر وقصب السكر، وبها حيات في رمال تضرب الجمل في خفة فلا ينقل حدوة حتى يطير وبره من ظهره وينهري.


(1/77)


شنترية: بها قوم من البربر وأخلاط العرب، وبها معدن الحديد والبريم، وبينها وبين الإسكندرية برية واسعة. يقولون: إن بها مدناً عظيمة مطلسمة من أعمال الحكماء والسحرة، ولا تظهر إلا صدفة.

فمنها ما حكي أن رجلاً أتى عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، وعمر رضي الله عنه يومئذ عامل على مصر وأعمالها، فعرفه أنه رأى في صحراء الغرب


(1/78)


بالقرب من شنترية، وقد أوغل فيها في طلب جمل له ند منه، مدينة قد خرب الأكثر منها وأنه قد وجد فيها شجرة عظيمة بساق غليظ تثمر من جميع أنواع الفواكه، وأنه أكل منها كثيراً وتزود. فقال له رجل من القبط: هذه إحدى مدينتي هرمس الهرامسة وبها كنوز عظيمة. فوجه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه مع ذلك الرجل جماعة من ثقاته واستوثقوا من الزاد والماء عن شهر، وطافوا تلك الصحارى مراراً فلم يقفوا على شيء من ذلك.

ويحكى: إن عاملاً من عمال العرب جار على قوم من الأعراب فهربوا من عنفه وجوره ودخلوا صحراء الغرب ومعهم من الزاد ما يكفيهم مدة، فسافروا يوماً أو بعض يوم فدخلوا جبلاً فوجدوا فيه عنزاً كثيرة وقد خرجت من بعض شعاب الجبل، فتبعوها فنفرت منهم فأخرجتهم إلى مساكن وأنهار وأشجار ومزارع وقوم مقيمين في تلك الناحية قد تناسلوا وهم في أرغد عيش وأنزه مكان، وهم يزرعون لأنفسهم ويأكلون ما يزرعون بلا خراج ولا مقاسمة ولا طلب. فسألوهم عن حالهم فأخبروهم أنهم لم يدخلوا إلى بلاد العرب ولا عرفوها. فرجع هؤلاء القوم


(1/79)


الذين هربوا من العامل إلى أولادهم وأهليم ودوابهم فساقوها ليلاً وخرجوا بهم يطلبون ذلك المكان، فأقاموا مدة طويلة يطوفون في ذلك الجبل فلم يقفوا لهم على أثر، ولا وجدوا لهؤلاء من خبر.

ويحكى أن موسى بن نصير لما قلد الغرب ووليها في زمان بني أمية، أخذ في السير على ألواح الأقصى بالنجوم والأنواء وكان عارفاً بها فأقام سبعة أيام يسير في رمال بين مهبي الغرب والجنوب، فظهرت له مدينة عظيمة لها حصن عظيم بأبواب من حديد، فرام أن يفتح باباً منها فلم يقدر وأعياه ذلك لغلبة الرمل عليها، فأصعد رجلاً إلى أعلاه فكان كل من صعد ونظر إلى المدينه صاح ورمى بنفسه إلى داخلها ولا يعلم ماذا يصيبه ولا ما يراه، فلم يجد له حيلة، فتركها ومضى.

وحكي أن رجلاً


(1/80)


من صعيد مصر أتاه رجل آخر وأعلمه أنه يعرف مدينة في أرض الواحات بها كنوز عظيمة. فتزودا وخرجا، فسافرا في الرمل ثلاثة أيام ثم أشرفا على مدينة عظيمة بها أنهار وأشجار وأثمار وأطيار ودور وقصور، وبها نهر محيط بغالبها وعلى ضفة النهر شجرة عظيمة، فأخذ الرجل الثاني من ورق الشجرة ولفها على رجليه وساقيه بخيوط كانت معه وفعل برفيقه كذلك، وخاضا النهر فلم يتعد الماء الورق ولم يجاوزه، فصعدا إلى المدينة فوجدا من الذهب وغيره ما لا يكيف ولا يوصف، فأخذا منه ما أطاقا حمله ورجعا بسلامة وتفرقا؛ فدخل الرجل الصعيدي إلى بعض ولاة الصعيد وعرفه بالقصة وأراه من عين الذهب، فوجه معه جماعة وزودهم زاداً يكفيهم مدة، فجعلوا يطوفون في تلك الصحارى ولا يجدون لذلك أثراً، وطال الأمر عليهم فسئموا ورجعوا بخيبة.

وأما أرض برقة فكانت في قديم الزمان مدناً عظيمة عامرة، وهي الآن خراب ليس بها إلا القليل من الناس والعمارة، وبها يزرع من الزعفران شيء كثير.

وأما الإسكندرية فهي آخر مدن الغرب، وهي على ضفة البحر الشامي وبها الآبار العجيبة والروم الهائلة التي تشهد لبانيها بالملك والقدرة والحكمة. وهي حصينة الأسوار عامرة الديار كثيرة الأشجار غزيرة الثمار؛ وبها الرمان والرطب والفاكهة والعنب، وهي من الكثرة في الغاية، ومن الرخص في النهاية. وبها يعمل من الثياب الفاخرة كل عجيب، ومن الأعمال الباهرة كل غريب، ليس في معمور


(1/81)


الأرض مثلها؛ ولا في أقصى الدنيا كشكلها، يحمل منها إلى سائر الأقاليم في الزمن الحادث والقديم، وهي مزدحم الرجال ومحط الرحال ومقصد التجار من سائر القفار والبحار، والنيل يدخل إليها من كل جانب، من تحت أقبية إلى معمورها، ويدور بها وينقسم في دورها بصنعة عجيبة وحكمة غريبة، يتصل بعضها ببعض أحسن اتصال لأن عمارتها تشبه رقعة الشطرنج في المثال. وإحدى عجائب الدنيا فيها وهي المنارة التي لم ير مثلها في الجهات والأقطار، وبين المنارة والنيل ميل واحد وارتفاعه مائة ذراع بالشاشي لا بالساعدي، جملته مائتا قامة إلى القبة. ويقال إنه كان في أعلاها مرآة ترى فيها المراكب من مسيرة شهرة، وكان بالمرآة أعمال وحركات لحرق المراكب في البحر، إذا كان عدواً، بقوة شعاعها. فأرسل صاحب الروم يخدع صاحب مصر ويقول: إن الإسكندر قد كنز بأعلى المنارة كنزاً عظيماً من الجواهر واليواقيت واللعب والأحجار التي لا قيمة لها خوفاً عليها، فإن صدقت فبادر إلى استخراجه، وإن شككت فأنا أرسل لك مركباً موسوقاً من ذهب وفضة وقماش وأمتعة، ولا يقوم، ومكني من استخراجه ولك من الكنز ما تشاء. فانخدع لذلك وظنه حقاً فهدم القبة فلم يجد شيئاً مما ذكر، وفسد طلسم المرآة؛ ونقل أن هذه المنارة كانت وسط المدينة؛ وأن المدينة كانت سبع قصبات متوالية وإنما أكلها البحر ولم يبق منها إلا قصبة واحدة وهي المدينة الآن، وصارت المنارة في البحر لغلبة الماء على قصبة المنارة. ويقال إن مساجدها حصرت في وقت من الأوقات فكانت عشرين ألف مسجد.


(1/82)


وذكر الطبري في تاريخه أن عمرو بن العاص رضي الله عنه لما افتتحها أرسل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول: قد افتتحت لك مدينة فيها أثنا عشر ألف حانوت تبيع البقل.

وكان يوقد في أعلى هذه المنارة ليلاً ونهاراً


(1/83)


لاهتداء المراكب القاصدة إليها. ويقولون: إن الذي بنى المنارة هو الذي بنى الأهرام.

وبهذه المدينة المثلثان وهما حجران مربعان وأعلاهما ضيق حاد، طول كل واحد منها خمس قامات وعرض قواعدهما في الجهات الأربع كل جهة أربعون شبراً، عليها خط بالسرياني، حكي أنهما منحوتان من جبل برسم الذي هو غربي ديار مصر، والكتابة التي عليهما: أنا يعمر بن شداد، بنيت هذه المدينة حين لا هرم فاش، ولا موت ذريع، ولا شيب ظاهر، وإذا الحجارة كالطين وإذا الناس لا يعرفون لهم رباً، وأقمت أسطواناتها وفجرت أنهارها وغرست أشجارها، وأردت أن أعمل فيها شيئاً من الآثار المعجزة والعجائب الباهرة فأرسلت مولاي البتوت بن مرة العادي ومقدام بن عمرو بن أبي رغان الثمودي خليفة إلى جبل بريم الأحمر، فاقتطعا منه حجرين وحملاهما على أعناقهما فانكسرت ضلع من أضلاع البتوت، فوددت أن أهل مملكتي كانوا فداء له، وهما هذان. وأقامهما إلى القطن بن جارود المؤتفكي في يوم السعادة، وهذه المثلثة الواحدة في ركن البلد من الجهة الشرقية والمثلثة الأخرى ببعض المدينة.

ويقال إن المجلس الذي بجنوب المدينة المنسوب إلى سليمان بن داود عليهما السلام، بناه يعمر بن شداد المذكور، وأسطواناته وعضاداته باقية إلى الآن، وهو سنة خمس وثمانين وثلاثمائة وهو مجلس مربع في كل رأس منه ست عشرة سارية، وفي الجانبين المتطاولين سبع وستون سارية، وفي الركن الشمالي أسطوانة عظيمة ورأسها عليها، وفي أسفلها قاعدة من الرخام مربعة، جرمها ثمانون شبراً،


(1/84)


وطولها من القاعدة إلى الرأس تسع قامات، ورأسها منقوش مخروم بأحكم صنعة، وهي مائلة من تقادم الدهور ميلاً كثيراً، لكنها ثابتة، وبها عمود يقال عمود القمر، عليه صورة طير يدور مع الشمس.

أرض مصر: وهي غربي جبل جالوت، وهو إقليم العجائب ومعدن الغرائب، وأهله كانوا أهل ملك عظيم وعز قديم، وكان به من العلماء عدة كثيرة وهم متفننون في سائر العلوم مع ذكاء مفرط في جبلتهم وكانت مصر خمساً وثمانين كورة، ومنها أسفل الأرض خمس وأربعون كورة وفوق الأرض أربعون كورة، ونهرها يشقها، والمدن على جانبيه وهو النهر المسمى بالنيل، العظيم البركات المبارك الغدوات والروحات، وهو أحسن الأقاليم منظراً وأوسعها خيراً وأكثرها قرى، وهو من حد أسوان إلى الاسكندرية.

وفي أرض مصر كنوز عظيمة، ويقال إن غالب أرضها ذهب مدفون، حتى قيل إنه ما فيها موضع إلا وهو مشغول بشيء من الدفائن. وبها الجبل المقطم وهو شرقيها، ممتد من مصر إلى أسوان في الجهة الشرقية، يعلو في مكان وينخفض في مكان. وتسمى تلك التقاطيع منه اليحاميم وهو سود، ويوجد فيها المغرة والكلس، وفيه ذهب عظيم، وذلك أن تربته إذا دبرت استخرج منها ذهب خالص، وفيه كنوز وهياكل وعجائب غريبة. ومما يلي البحر الجبل المنحوت المدور الذي لا يستطيع أحد أن يرقاه لملاسته وارتفاعه، وفيه كنوز عظيمة لمقطم الكاهن الذي نسب إليه


(1/85)


هذا الجبل، ولملوك مصر القديمة أيضاً من الذهب والفضة والأواني والآلات النفسية والتماثيل الهائلة والتبر والإكسير وتراب الصنعة ما لا يعلمه إلا الله تعالى.

ومن مدنه المشهورة الفسطاط وهو فسطاط عمرو بن العاص، وهي مدينة عظيمة وبها جامع عمرو بن العاص رضي الله عنه، وكان مكانه كنيسة للروم فهدمها عمرو بن العاص وبناها مسجداً جامعاً، وحضر بناءه جماعة من الصحابة. وشرقي الفسطاط خراب، وذكر أنها كانت مدينة عظيمة قديمة ذات أسواق وشوارع واسعة وقصور ودور وفنادق وحمامات، يقال إنها كان بها أربعمائة حمام


(1/86)


فخربها شاور، وهو وزير العاضد، خوفاً من الفرنج أن يملكوها.

وسمي الفسطاط فسطاطاً لأن عمرو بن العاص نصب فسطاطه أي خيمته هنا مدة إقامته، ولما أراد الرحيل وهدم الفسطاط أخبر أن حمامة باضت بأعلاه فأمر بترك الفسطاط على حاله لئلا يحصل التشويش للحمامة بهدم عشها وكسر بيضها، وأن لا يهدم حتى تفقس عن فراخها وتطيرهم، وقال: والله ما كنا لنسيء لمن لجأ بدارنا واطمأن إلى جانبنا.


(1/87)


وقبالة الفسطاط الجزيرة المعروفة بالروضة، وهي جزيرة يحيط بها بحر النيل من جميع جهاتها، وبها فرج ونزه ومقاصف وقصور ودور وبساتين، وتسمى هذه الجزيرة دار المقياس، وكانت في أيام بعض ملوك مصر، يجتاز إليها على جسر من السفن فيه ثلاثون سفينة وكان بها قلعة عظيمة فخربت، وبها المقياس يحيط به أبنية دائرة على عمد، وفي وسط الدار فسقية عميقة ينزل إليها بدرج من رخام دائرة وفي وسطها عمود رخام قائم وفيه رسوم أعداد الأذرع والأصابع يعبر إليه الماء من قناة عريضة. ووفاء النيل ثمانية عشر ذراعاً وهذا المبلغ لا يدع من ديار مصر شيئاً إلا رواه، وما زاد على ذلك ضرر ومحل لأنه يميت الشجر ويهدم البنيان. وبناء مصر كلها طبقات بعضها فوق بعض يكون خمساً وستاً وسبعاً، وربما سكن في الدار الواحدة الجامعة مائة من الناس ولكل منهم منافع ومرافق مما يحتاج إليه. وأخبر الجواليقي أنه كان بمصر على أيامه دار تعرف بدار ابن عبد العزيز بالموقف، يصب لمن فيها من السكان في كل يوم أربعمائة راوية وفيها خمسة مساجد وحمامات وفرنان.

القاهرة المعزية: حرسها الله تعالى وثبت قواعد أركان دولة سلطانها وجعلها دار إسلام إلى يوم القيامة آمين. وهي مدينة عظيمة أجمع المسافرون غرباً وشرقاً وبراً وبحراً على أنه لم يكن في المعمورة أحسن منها منظراً ولا أكثر ناساً ولا أصح هواء ولا أعذب ماء ولا أوسع فناء، وإليها يجلب من أقطار الأرض وسائر الأقاليم من كل شيء غريب، ونساؤها في غاية الحسن والظرف، وملكها عظيم ذو هيبة وصيت


(1/88)


كثير الجيوش حسن الرأي لا يماثله ملك في زيه وترتيبه، تعظمه ملوك الأرض وتخشى بأسه وترغب في مودته وتترضاه وهو سلطان الحرمين الزاهرين والحاكم على البحرين الزاخرين؛ وهي مدينة يعبر عنها بالدنيا، وناهيك من إقليم يحكم سلطانه على مواطن العبادة في الأرض المشرفة والمدينة الشريفة وبيت المقدس؛ ومواطن الأنبياء ومستقر الأولياء وأهل هذه المدينة في غاية الرفاهية والعيشة الهنية والهيئة البهية، وقد ورد في الخبر: مصر كنانة الله ما رماها أحد بسوء إلا أخرج من كنانته سهماً فرماه به وأهلكه.

عين شمس وهي شرق القاهرة، وكانت في القديم دار مملكة لهذا الإقليم، وبها من الأعمال والأعلام الهائلة والآثار العظيمة، وبها البستان الذي لا ينبت


(1/89)


شيء من الأرض إلا وهو فيه، وهو بستان طوله ميل في ميل، والسر في بئره لأن المسيح عليه السلام اغتسل فيه.

وغربيها مدينة قليوب وهي مدينة عظيمة يقولون إنه كان بها ألف وسبعمائة بستان، ولكن لم يبق إلا القليل. وبها من أنواع الفاكهة شيء كثير في غاية الرخص، وبها السردوس الذي هو أحد نزه الدنيا، يسار فيه يومان بين بساتين مشتبكة وأشجار ملتفة وفواكه فاخرة ورياض ناضرة، وهي حفير هامان وزير فرعون. يقال إنه لما حفرها جعل أهل البلاد يخرجون إليه ويسألونه أن يجريها إليهم ويجعلون له على ذلك ما شاء من المال، ففعل وحصل من أهل البلاد مائة ألف


(1/90)


ألف دينار فحملها إلى فرعون؛ فسأله من أين هذا المال الكثير؛ فأخبره أن أهل البلاد سألوا منه اجراء الماء إلى بلادهم وجعلوا هذا المال مقابلة لذلك فقال فرعون: بئس ما صنعت من أخذ هذه الأموال، أما علمت أن السيد المالك ينبغي له أن يعطف على عبيده ولا يأخذ منهم على إيصال منفعة أجراً ولا ينظر إلى ما بأيديهم؟ اردد المال إلى أربابه ولا تأت بمثلها.

الجيزة: وهي مدينة عظيمة على ضفة النهر الغربية ذات قرى ومزارع، وبها خصب كثير وخير واسع، وبها القناطر التي لم يعمل مثلها وهي أربعون قوساً على سطر واحد، وبها الأهرام التي هي من عجائب الدنيا لم يبن على وجه الأرض مثلها في إحكامها وإتقانها وعلوها، وذلك أنها مبنية بالصخور العظام وكانوا حين بنوها يثقبون الصخر من طرفيه ويجعلون فيه قضيباً من حديد قائم ويثقبون الحجر الآخر وينزلونه فيه ويذيبون الرصاص ويجعلونه في القضيب بصنعة هندسية حتى كمل بناؤها، وهي ثلاثة أهرامات، ارتفاع كل هرم منها في الهواء مائة ذراع بالملكي، وهو خمسمائة ذراع بالذراع المعهود بيننا، وضلع كل هرم من جهاته ذراع بالملكي.


(1/91)


وهي مهندسة من كل جانب محددة الأعالي من أواخر طولها على ثلثمائة ذراع. يقولون إن داخل الهرم الغربي ثلاثين مخزناً من حجارة صوان ملونة مملوءة بالجواهر النفيسة والأموال الجمة والتماثيل الغريبة والآلات والأسلحة الفاخرة التي قد دهنت بدهان الحكمة فلا تصدأ أبداً إلى يوم القيامة. وفيه الزجاج الذي ينطوي ولا ينكسر، وأصناف العقاقير المركبة والمفردة والمياه المدبرة. وفي الهرم الشرقي الهيئات الفلكية والكواكب، منقوش فيها ما كان وما يكون في الدهور والأزمان إلى آخر الدهر. وفي الهرم الثالث أخبار الكهنة في توابيت صوان مع كل كاهن لوح من ألواح الحكمة وفيه من عجائب صناعاته وأعماله. وفي الحيطان من كل جانب أشخاص كالأصنام تعمل بأيدها جميع الصناعات على المراتب. ولكل هرم منها خازن. وكان المأمون لما دخل الديار المصرية أراد هدمها فلم يقدر على ذلك فاجتهد وأنفق أموالاً عظيمة حتى فتح في أحدها طاقة صغيرة، يقال إنه وجد خلف الطاقة من الأموال قدر الذي أنفقه لا يزيد ولا ينقص، فتعجب من ذلك وقال:

انظر إلى الهرمين واسمع منهما ... ما يرويان عن الزمان الغابر


(1/92)


لو ينطقان لخبّرانا بالذي ... فعل الزمان بأوّلٍ وبآخر

وقال غيره:

خليلي ما تحت السماء بنيّةٌ ... تناسب في إتقانها هرمي مصر

بناء يخاف الدهر منه ... وكل على ظاهر الدنيا يخاف من الدهر

وقال آخر:

أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه، ما يومه، ما المصرع؟

تتخلّف الآثار عن أصحابها ... حيناً ويدركها الفناء فتصرع


(1/93)


الفيوم: وهي مدينة عظيمة بناها يوسف الصديق عليه السلام، ولها نهر يشقها. ونهرها من عجائب الدنيا، وذلك أنه متصل بالنيل وينقطع منه في أيام الشتاء وهو يجري على العادة. ولهذه المدينة ثلثمائة وستون قرية عامرة آهلة، كلها مزارع وغلال. ويقال إن الماء في هذا الوقت أخذ أكثرها. وكان يوسف عليه السلام قد جعلها على عدد أيام السنة فإذا أجدبت الديار المصرية كانت كل قرية تقوم بأهل مصر يوماً، وبأرض الفيوم بساتين وأشجار وفواكه كثيرة رخيصة وأسماك


(1/94)


زائدة الوصف، وبها من قصب السكر شيء كثير، ويقال إنه كان على الفيوم وإقليمها كلها سور واحد.

سخا: مدينة حسنة، ولها إقليم واسع، بجامعها حجر أسود عليه طلسم بقلم الطير، إذا أخرج ذلك الحجر من الجامع دخله العصافير، وإذا دخل إليه خرجت العصافير.

وأما أنصنا والأشمونان وأبو صير: فمدن أزلية وبها آثار عجيبة وأعلام هائلة. ويقال إن سحرة فرعون كانوا من مدينة أبي صير، وبها الآن بقية منهم.

وأما أسيوط وأخميم ودندرا: فمدن أزلية بها آثار عجيبة وأعلام هائلة.


(1/95)


وزماخر: وهي مدينة حسنة كثيرة الفواكه يقرب منها جبل الطليمون وهو يأتي من جهة المغرب فيعترض مجرى نهر النيل، والماء ينصب إليه بقوة حتى يمنع المراكب فلا يقدرون على الجواز عليه إلى أسوان. ذكروا أن كرهية الساحرة كانت ساكنة بأعلى هذا الجبل في قصر عظيم، وكانت تتكلم على المراكب المقلعة في البحر فتقف.

وأسوان: وهي آخر الصعيد الأعلى، وهي مدينة صغيرة عامرة كثيرة اللحوم والأسماك والغزلان. وليس يتصل بأسوان من جهة المشرق بلد للإسلام إلا جبل العلاقي، وهو جبل في واد جاف لا ماء به لكن يحفر عليه فيوجد الماء قريباً فيسمى معيناً، وبه معدن الذهب والفضة وعلى جنوبه من النيل جبل في أسفله معدن الزمرد في برية منقطعة عن العمارة ليس في الأرض كلها معدن للزمرد سواه. ويتصل بأسوان من جهة المغرب أرض الواحات، وبديار مصر معدن الملح والنطرون، وهما من عجائب الدنيا.

وأما رمال الضليم: فإنها آية من آيات الله عز وجل، فإنه يؤخذ العظم فيدفن في ذلك الرمل سبعة أيام فيعود حجراً صلداً. وكان على أسوان وأرضها سور محيط من جانبيها فتهدم ويقال له حائط العجوز الساحرة.

أرض القلزم: وهي بين مصر والشام وهو بحر في ذاته، وفيه جبال فوق الماء، وفيه قروش وحيوانات مضرة ظاهرة ومخفية. وكانت القلزم مدينتين عظيمتين فتهدمتا من تسلط العرب على أهلهما وشربهما من عين سدير وهي وسط الرمل، وماؤه زعاق، وبين القلزم وهو منتهى بحر فارس الآخذ من المحيط الشرقي من الصين وبين البحر الشامي مسافة أربع مراحل يسمى بحصين التيه، وهو تيه بني


(1/96)


إسرائيل، وهي أرض واسعة ليس بها وهدة ولا رابية ولا قلعة، ومسافتها خمسة أيام في خمسة.

ومن مدنه المشهورة عقبة أيلة وهي قرية مشهورة على جبل عال صعب المرتقى، يكون ارتفاعه والانحدار منه يوماً كاملاً. وهي طريق لا يمكن أن يجوز فيها إلا واحد واحد، على جانبها أودية بعيدة المهوى.

والحوزى: وهي قرية صغيرة بها معدن البرام، ويحمل منها إلى سائر أقطار الأرض. وشربهم من آبار عذبة. وهي على ساحل بحر القلزم.

مدينة مدين: وهي خراب، وبها البئر التي استسقى منها موسى لغنم شعيب عليهما السلام، وهي الآن معطلة.

أرض البادية: هي ما بين أرض الشام والحجاز وتسمى أرض الحجر.

أرض الشام: وهو إقليم عظيم كثير الخيرات جسيم البركات ذو بساتين وجنات وغياض وروضات وفرج ومنتزهات وفواكه مختلفة رخيصة. وبها اللحوم كثيرة، إلا أنها كثيرة الأمطار والثلوج. وهو يشتمل على ثلاثين قلعة وليس فيها أمنع من قلعة الكرك. وإقليم الشام يشتمل على مثل كورة فلسطين وكورة عمدان بينيا، وكورة يافا، وكورة قيسارية، وكورة طرابلس، وكورة سبيطة، وكورة عسقلان، وكورة حطين، وكورة غزة، وكورة بيت جبريل، وفي جنوبه فحصى التيه وكورة الشويك، وكورة الأردن وكورة لبنان، وكورة بيروت وكورة صيدا، وكورة التبينة،


(1/97)


وكورة السامرة، وكورة عانة، وكورة ناصرة وكورة صور.

وأرض دمشق: من كورها كورة الغوطة وكورة البقاع وكورة بعلبك، وكورة جولان، وكورة ظاهر، وكورة الحولة، وكورة طرابلس، وكورة البلقاء، وكورة جبريل الغور، وكورة كفر طاب، وكورة عمان، وكورة السراة.

ومن مدن الشام الشهيرة دمشق المحروسة وهي أجمل بلاد الشام مكاناً وأحسنها بنياناً وأعدلها هواء وأغزرها ماء. وهي دار مملكة الشام ولها الغوطة التي لم يكن على وجه الأرض مثلها، بها أنهار جارية مخترقة وعيون سارحة متدفقة وأشجار باسقة وثمار يانعة وفواكه مختلفة وقصور شاهقة. ولها ضياع كالمدن.


(1/98)


وبدمشق الجامع المعروف ببني أمية الذي لم يكن على وجه الأرض مثله، بناه الوليد بن عبد الملك وأنفق عليه أموالاً عظيمة، قيل: إن جملة ما أنفق عليه أربعمائة صندوق من ذهب، وكل صندوق أربعة عشر ألف دينار. واجتمع في ترخيمه اثنا عشر ألف مرخم. وقد بني بأنواع الفصوص المحكمة والمرمر المصقول والجزع المكحول. ويقال إن العمودين اللذين تحت قبة النسر اشتراهما الوليد بألف وخمسمائة دينار، وهما عمودان مجزعان بحمرة لم ير مثلهما. ويقال إن غالب رخام الجامع كان معجوناً، ولهذا إذا وضع على النار ذاب. وفي وسط المحيط الفاصل بين الحرم والصحن عمودان صغيران يقال إنهما كانا في عرش بلقيس. ومنارة الجامع الشرقية يقال: إن المسيح ينزل عليها، وعندها حجر يقال إنه قطعة من الحجر الذي ضربه موسى بعصاه فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً. قال بعض السلف الصالح: مكثت أربعين سنة ما فاتتني صلاة من الخمس بهذا الجامع وما دخلته قط إلا وقعت عيني على شيء لم أكن رأيته قبل ذلك من صناعة ونقش وحكمة.

ومن باب دمشق الغربي وادي البنفسج، طوله اثنا عشر ميلاً في عرض ثلاثة أميال، مفروش بأجناس الثمار البديعة المنظر والمخبر، ويشقه خمسة أنهار. ومياه الغوطة كلها تخرج من نهر الزبداني وعين الفيجة، وهي عين تخرج من أعلى جبل وتنصب إلى أسفل بصوت هائل ودوي عظيم، فإذا قرب إلى المدينة تفرق أنهاراً وهي بردى ويزيد وتورة وقناة المزة وقنوات الصوف وقنوات بانياس وعقربا. واستعمال هذا النهر للشرب قليل لأن عليه مصب أوساخ المدينة. وهذا النهر يشق المدينة وعليه قنطرة. وكل هذه الأنهار يخرج منها سواق تخترق المدينة فتجري في شوارعها وأسواقها وأزقتها وحماماتها ودورها وتخرج إلى بساتينها.


(1/99)


والشام خمس شامات هكذا قرر في كتاب العقد الفريد: فالشام الأولى: غزة والرملة وفلسطين وعسقلان وبيت المقدس، ومدينتها الكبرى فلسطين. والشام الثانية: الأردن وطبرية والغور واليرموك وبيسان، ومدينتها الكبرى طبرية. والشام الثالثة الغوطة: ودمشق، وسواحلها. ومدينتها الكبرى دمشق. والرابعة: حمص وحماة وكفر طاب وقنسرين وحلب. والخامسة: أنطاكية والعواصم والمصيصة وطرسوس.

فأما فلسطين فهي أول أجواز الشام من الغرب، وماؤها من الأمطار والسيول وأشجارها قليلة لكنها حسنة البقاع. وهي من رفح إلى اللجون طولاً ومن


(1/100)


يافا إلى زعر عرضاً، وهي مدينة قوم لوط، والبحيرة التي بها يقال لها البحيرة المنتنة. ومنها إلى بيسان وطبرية يسمى الغور لأنها بقعة بين جبلين وسائر مياه الشام تنحدر إليها.

نابلس: هي مدينة السامرية؛ وبها البئر التي حفرها يعقوب عليه السلام، وجلس عليه السلام يطلب من المرأة ماء للشرب. وعلى ذلك المكان كنيسة معهودة.

عسقلان: هي مدينة حسنة، ولها سوران، وهي ذات بساتين وثمار وبها من الزيتون والكروم واللوز والرمان شيء كثير. وهي في غاية الخصب.

بيت المقدس: ويسمى إيلياء وهي حسنة ولها سوران عظيمان بين جبلين. وفي طرفها الغربي باب المحراب وعليه قبة داود عليه السلام. وفي طرفها الشرقي باب


(1/101)


الرحمة، وكان يقفل فلا يفتح من عيد الزيتون إلى عيد الزيتون. ومن الباب الغربي يسار إلى الكنيسة العظمى المسماة بكنيسة القيامة وهي المعروفة بكنيسة قمامة، وتحج إليها الروم من سائر الأقطار. ويقابلها من المشرق كنيسة الحبس الذي فيه المسيح عيسى عليه السلام. وبها مقابر الفرنج وشرقيه المسجد المعظم المسمى بالأقصى، وليس في الدنيا كلها مسجد على قدره إلا جامع قرطبة من بلاد الأندلس. وطول المسجد الأقصى مائتا باع في عرض مائة وثمانين. وفي وسطه قبة عظيمة تسمى قبة الصخرة. ويقال إن سقف جامع قرطبة أكبر من سقف الأقصى وصحن الأقصى أكبر من صحن جامع قرطبة. وبالقرب من باب الأسباط كنيسة حسنة كبيرة


(1/102)


وفيها قبر مريم أم عيسى عليهما السلام وتعرف بالجسمانية. وهناك جبل يقال له جبل الزيتون، وبهذا الجبل قبر العاذر الذي أحياه الله للمسيح عليه السلام. وعلى الميامن من جبل الزيتون قرية منها جلب حمار المسيح. وقريب من قبر عاذر مدينة أريحاء وعلى الأردن كنيسة عظيمة على اسم يوحنا المعمدان. والأردن نهر يخرج من بحيرة طبرية ويحط في بحيرة سدوم وعامودا مدائن لوط. وبجنوب بيت المقدس كنيسة صهيون وهي التي فيها قلاية يقال إن المسيح أكل فيها مع حوارييه من المائدة لما أنزلت عليه؛ ويقال إن المائدة باقية فيها. وهي كنيسة حصينة وفيها على طرف الخندق كنيسة بطروس، وبهذا الخندق عين سلوان وهي التي أبرأ فيها المسيح الضرير الأعمى، ويقرب منها الحقل وهو مقابر الغرباء، وبها بيوت كثيرة منقورة في الصخر، وفيها رجال مقيمون قد حبسوا أنفسهم لله تعالى فيها.

وأما بيت لحم: فهي كنيسة حسنة البناء متقنة الصنعة، وهو الموضع الذي ولد فيه عيسى عليه السلام، وبينه وبين بيت المقدس ستة أميال، وفي وسط الطريق


(1/103)


قبر راحيل أم يوسف الصديق عليه السلام. ويقرب من ذلك مسجد الخليل عليه السلام، وهو قرية ممتدة بها قبر الخليل إبراهيم وإسحق ويعقوب عليهم السلام. وكل صاحب قبر من قبورهم تجاهه امرأته، وهو في وهدة بين جبلين، ملتفة الأشجار كثيرة الثمار.

طبرية: هي مدينة جليلة على جبل مطل، وأسفلها بحيرة عذبة، وبها مراكب سابحة ولها سور حصين ويعمل بها من الحصر السامان كل حسن بديع وبها


(1/104)


حمامات حامية من غير نار وبها حمام يعرف بحمام الدماقر كبير وأول ما يخرج ماؤه يسمط الحدأة والدجاج ويسلق البيض، وهو مالح، وبها اللؤلؤ، وهو أصغر حماماتها وليس فيها حمام يوقد فيه نار إلا الصغير. وفي جنوبها حمام كبير مثل عين يصب إليها مياه حارة من عيون كثيرة، وإنما يقصده أهل البلاد ويقيمون به ثلاثة أيام فيبرؤون.

وأما حمص: فهي مدينة حسنة في مستوى من الأرض حصينة، مقصودة من سائر النواحي، وأهلها في خصب ورغد عيش، وفي نسائها جمال فائق. وكانت في قديم الزمان من أكبر البلاد. ويقال إنها مطلسمة لا يدخلها حية ولا عقرب، ومتى وصلت إلى باب المدينة هلكت. ويحمل من تراب حمص إلى سائر البلاد فيوضع على لسعة العقرب فتبرأ. وبها القبة العالية التي في وسطها صنم من نحاس على صورة انسان راكب على فرس تدور مع الريح كيفما دارت. وفي حائط القبة حجر فيه صورة عقرب، يأتي إليه الملدوغ والملسوع ومعه طين فيطبعه على تلك الصورة ويضعه على اللدغة أو اللسعة فتبرأ لوقتها. وجميع شوارعها وأزقتها مفروشة بالحجر الصلد؛ وبها جامع كبير. وأهلها موصوفون بالرقاعة وخفة


(1/105)


العقل.

وأما بعلبك: فهي مدينة حسنة حصينة على رأس جبل مسفح، والماء يشقها ويدخل كثيراً في دورها. وعلى نهرها أرحية كثيرة وبها أنواع الفاكهة ووجوه الخصب والرخاء، وفيها قلعة من ثلاثة أحجار، وهي أعجوبة الزمان.

وأما حلب: فهي المدينة الشهباء. كانت في قديم الزمان من أوسع البلاد قطراً. قيل أوحى الله عز وجل إلى خليله إبراهيم عليه السلام أن يهاجر بأهله إلى الشونة البيضاء فلم يعرفها، فسأل الله تعالى في ارشاده إليها، فجاءه جبريل عليه


(1/106)


السلام حتى أنزله بالتل الأبيض الذي عليه الآن قلعة حلب المحروسة، حماها الله من الغير والآفات، فاستوطنها وطابت له مدة، ثم أُمر بالمهاجرة إلى الأرض المقدسة فخرج منها، فلما بعد عنها ميلاً صلى هناك. والآن يعرف المكان بمقام الخليل قبلي حلب؛ فلما أراد الرحيل التفت إلى مكان استيطانه كالحزين الباكي لفراقها؛ ثم رفع يديه وقال: اللهم طيب ثراها وهواءها وماءها وحببها لأبنائها. فاستجاب الله دعاءه فيها وصار كل من أقام في بقعة حلب ولو مدة يسيرة أحبها، وإذا فارقها يعز ذلك عليه، وربما إذا فارقها التفت إليها وبكى. وهذا نقله الصاحب كمال الدين بن العديم في تاريخه المسمى بتاريخ حلب.


(1/107)


ولهذه المدينة أعني حلب نهر يأتيها من الشمال يقال له قويق فيخترق أرضها؛ وبها قناة مباركة تخترق شوارعها ودورها وحماماتها وسبلانها، وماؤها عذب فرات. ولها قلعة حصينة راسخة يقال إن في أساسها ثمانية آلاف عمود، وهي ظاهرة الرؤوس بسفحها. ولها قرية تسمى براق يقال إن بها معبداً يقصده أرباب الأمراض وينامون به؛ فإما أن يبصر المريض في نومه من يمسح بيده عليه فيبرأ، وإما أن يقال له استعمل كذا وكذا، فإذا أصبح واستعمله فإنه يبرأ.

وأما حماة: فهي مدينة قديمة على عهد سليمان بن داود عليهما السلام، واسمها باليونانية حاموثا؛ ولما فتحها أبو عبيدة رضي الله عنه جعل كنيستها جامعاً وهو جامع السوق الأعلى، وجدد في خلافة المهدي، وكان فيه لوح من الرخام مكتوب فيه أنه جدد من خارج حمص، وكانت حماة وشيزر من أعمال حلب، وكانت حمص في القديم كرسي هذه البلاد.


(1/108)


وأما بلاد الأرمن: فإقليمها عظيم واسع ممتنع القلاع والحصون، كثير الخصب والخير والفواكه الحسنة اللون والطعم، يقال إن بإقليمها ثلثمائة وستين قلعة، منها ست وعشرون قلعة لا تكاد أن ترام لشدة امتناعها، لا يصل أحد إلى واحدة منها لا بقوة ولا بحيلة البتة. ومن مدنها المشهورة أرمينية وهي أرمينيتان: الداخلة والخارجة، وهي مدينة عظيمة بها بحيرة تعرف ببحيرة كندوان، بها تراب تتخذ منه البوادق التي يسبك فيها.

وخلاط: وهي مدينة حسنة. وكانت في القديم قاعدة بلاد الأرمن فلما تغلبت الأرمن على الثغور انتقلوا إلى سيس. وبها يعمل من التكك البديعة الحسنة


(1/109)


الغالية الثمن كل غريب. وبقرب خلاط حفائر يستخرج منها الزرنيخ الأحمر والأصفر.

مليطية: مدينة عظيمة كثيرة الخير والأرزاق، ليس في بلاد تلك المملكة أحسن منها. وأهلها ذوو ثروة ورفاهية عيش. ذكر أنه كان بها اثنا عشر ألف نول تعمل الصوف، ولكن قد تلاشى أمرها.

ميافارقين: مدينة عظيمة، وهي من حدود الجزيرة وحدود أرمينية.


(1/110)


نصيبين: مدينة حسنة في مستوى من الأرض، وماؤها يشق دورها وقصورها. وإليها ينسب الورد النصيبي، وبها عقارب قتالة. وبأرض الأرمن ال***** الكبيران المشهوران، وهما نهر الرأس ونهر الكرج المعروف بالكر، ومسيرهما من المغرب إلى المشرق، وعليهما مدن كثيرة وقرى متصلة من الجانبين. وبأرض الأرمن بركة فيها سمك كثير وطير عظيم، وماؤها غزير عميق، ويقيم بها الماء سبع سنين متوالية، وينشف منها سبع سنين أيضاً ثم يعود الماء. وهذا دأبه أبداً، وبها جبل يسمى غرغور، وفيه كهف وفي الكهف بئر بعيدة القعر إذا رمي فيها حجر يسمع لها دوي كدوي الرعد ثم يسكن ولا يعلم ما هو. وفي هذا الجبل معدن الحديد المسموم، متى جرح به حيوان مات في الحال.



(1/111)

يتبع

الصورة الرمزية يناير
يناير
عضو
°°°
افتراضي
أرض الجزيرة: وهي جزيرة ابن عمرو، وتشتمل على ديار ربيعة ومضر، وتسمى ديار بكر، وهي ما بين دجلة والفرات وكلها تسمى بالجزيرة، وبها مدن وقرى عامرة. وأكثر أهلها نصارى وخوارج. ومن مدنها المشهورة الموصل وهي قاعدة بلاد الجزيرة، وهي مدينة كبيرة صحية الهواء طيبة الثرى، ولها نهر حسن عميق في عمق ستين ذراعاً. وبساتينها قليلة إلا أن لها ضياعاً ومزارع ورساتيق ممتدة، وكورها كثيرة وهي المدينة التي بعث إليها يونس عليه السلام وهي غربي دجلة.
الرها: مدينة عظيمة قديمة واسعة الأقطار، وكانت عامرة الدير، وتتصل بأرض حران. والغالب على أهلها دين النصرانية، وبها من الكنائس ما يزيد على مائتي كنيسة ودير، ولم يكن للنصارى أعظم منها. وكان بكنيستها العظمى منديل المسيح الذي مسح به وجهه فأثرت فيه صورته فأرسل ملك الروم إلى الخليفة رسولاً وطلبه منه وبذل فيه أسارى كثيرة فأخذه وأطلق الأسارى.
(1/112)
مدينة الخضر: وهي الآن خراب. وكانت مدينة عظيمة في قديم الزمان وكان اسم صاحبها الساطرون، فحاصرها سابور بن أردشير بن بابك أربع سنين فلم يقدر عليها، وكانت مركبة على قناطر يدخل الماء من تحتها، وكان لساطرون ابنة جميلة في غاية الجمال بحيث إذا نظرها أحد حصل في عقله خبل وخلل، وكان اسمها نضيرة. وكانت عادة الروم إذا حاضت المرأة عندهم أنزلوها إلى ربض المدينة، فحاضت ابنة الساطرون فأنزلوها إلى الربض وسابور المذكور محاصر المدينة وهو راكب في جيشه دائر من خارج المدينة فرأت نضيرة بنة الساطرون سابور وهو في غاية الحسن فأحبته لأول نظرة، فأرسلت إليه تقول: إن أنا أخذت لك المدينة وأرحتك من العناء أتتزوج بي؟ فقال سابور: نعم، قالت: فخذ حمامة زرقاء فاخضب رجليها بحيض جارية زرقاء بكر وأطلقها، فإنها تطير وتحط على السور فيسقط في الحال وتأخذ المدينة. ففعل سابور ذلك الأمر كما قالت نضيرة. فدخل المدينة وأخذها وهدم ما بقي من سورها وقتل الساطرون وسبى وغنم وتزوج نضيرة، فنامت عنده ليلة وهي تميل طول الليل إلى الصباح، فنظر سابور فإذا في الفراش ورقة آس فقال لها: كل هذا التميل من هذه الورقة؟ قالت نعم. قال: فما كان أبوك يطعمك؟ قالت كان يطعمني مخ العظم وشهد أبكار النحل والزبد ويسقيني الخمر المصفى أربعين مرة فقال: أهذا كان جزاؤه منك، ثم أمر بها فربطت بين فرسين جموحين، فضرباها حتى تمزقت أعضاؤها.
وأما جزيرة العرب: فهي ما بين نجران والعذيب.
(1/113)
أرض عراق العرب: وهي أرض طيبة ممتدة ذات أقاليم وقرى، وطولها من تكريت إلى عبادان، وعرضها من القادسية إلى حلوان. ومن مدنها المشهورة بغداد وهي مدينة عظيمة قاعدة أرض العراق، بناها المنصور في الجانب الغربي على الدجلة، وأنفق عليها أموالاً عظيمة، يقال إنه أنفق عليها أربعة آلاف دينار، ونقل أبواب واسط وركبها عليها وجعلها مدورة حتى لا يكون بعض الناس أقرب إلى السلطان من بعض، وبنى بها قصراً عظيماً بوسطها يقال إن دوره اثنا عشر ألف قصبة، والجامع في القصر، وقصر المهدي يقابل قصر المنصور في الضفة الأخرى وهما مدينتان يسقيهما نهر الدجلة وبينهما جسر من السفن، وبساتينها في الجانب الآخر الشرقي تسقى بماء النهروان وماء سامر، وهما ***** عظيمان. وأما نهر عيسى فتجري فيه السفن من بغداد إلى الفرات. وأما نهر السراة فلا تركبه سفينة أصلاً لكثرة الأرحية التي عليه.
(1/114)
وكانت بغداد في أيام البرامكة مدينة عظيمة يقال إن حماماتها حصرت في وقت من الأوقات فكانت ستين ألفاً. وكان بها من العلماء والوزراء والفضلاء والرؤساء والسادات ما لا يوصف. قال الطبري في تاريخه: أقل صفة بغداد أنه كان فيها ستون ألف حمام، كل حمام يحتاج على الأقل إلى ستة نفر، سواق ووقاد وزبال وقائم ومدولب وحارس، كل واحد من هؤلاء في مثل ليلة العيد يحتاج إلى رطل صابون لنفسه ولأهله وأولاده، فهذه ثلثمائة ألف رطل وستون ألف رطل صابوناً برسم فعلة الحمامات لا غير، فما ظنك بسائر الناس وما يحتاجون إليه من الأصناف في كل يوم؟
(1/115)
المدائن: وهي مدينة قديمة جاهلية وبها آبار هائلة وبها إيوان كسرى المضروب به المثل في العظم والشماخة والارتفاع والإتقان، واقليمها يعرف بأرض بابل. وكان المنصور لما قصد أن يبني بغداد استشار خالد بن برمك في نقض الإيوان ونقله من المدائن إلى بغداد، فقال له خالد: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فقال له المنصور ملت إلى بقاء آثار أخوالك الفرس، لا بد من هدمه. وأمر المنصور بنقض القصر الأبيض، وهو شيء يسير من جانب الإيوان. فنقضت ناحية من القصر الأبيض فكان ما غرموا على نقضه أكثر من قيمة المنقوض فأزعج ذلك المنصور فقال لخالد: قد عزمت على ترك النقض، فقال له خالد: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فغضب المنصور وقال: أما والله إن أحد رأييك غش. فقال خالد بلى والله كلاهما نصح، فقال: صحح ما قلت، فقال: أما قولي في الأول: لا تنقض، حتى إن كل جيل يأتي في الدهر ويرى الإيوان ويستعظم أمره وأمر بانيه ثم يقول إن أمةً وملوكاً أزالت ملك الفرس وأخذت بلادها وأبادتها لأُمة عظيمة ولملوك عظيمة، فذلك من تعظيم الملة الإسلامية، وأما قولي الآخر: لا تفعل، يعني لا تترك النقض حتى إن من يأتي من الأجيال والخلق ويرى بعض النقض، والنقض أسهل من البنيان، فيقول إن أمة بنت
(1/116)
هذا البنيان فأعجز نقضه من أتى بعدهم لأمة عظيمة فذلك تعظيم للفرس واستهانة بالملة الإسلامية. فلم يلتفت إلى مقاله وترك النقض.
والنيل: وهي مدينة حسنة وهي على الفرات العظمى، بين بغداد والكوفة وأصل تسميتها بالنيل أن الحجاج بن يوسف حفر نهراً من الفرات وسماه النيل باسم نيل مصر، وأجراه إليها وعليه مدن عظيمة وقرى ومزارع.
ونينوى: وهي مدينة أزلية قبالة الموصل وبينهما دجلة. ويقال إنها المدينة التي بعث إليها يونس بن متي عليه السلام.
(1/117)
الكوفة: مدينة علوية بناها علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وهي كبيرة حسنة على شاطئ الفرات، لها بناء حصين وحصن حصين، ولها نخل كثيرة وثمره طيب جداً. وهي كهيئة بناء البصرة وعلى ستة أميال منها. وفيها قبة عظيمة
(1/118)
يقال إن بها قبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وما استدار بتلك القبة مدفن آل علي، والقبة بناء أبي العباس عبد الله بن حمدان في دولة بني العباس.
البصرة: وهي مدينة عمرية بناها المسلمون في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهي مدينة حسنة رحبة. حكى أحمد بن يعقوب أنه كان بالبصرة سبعة آلاف مسجد. وحكى بعض التجار أنه اشترى التمر فيها خمسمائة رطل بدينار، وهو عشرة دراهم. وغربي البصرة البادية وشرقيها مياه الأنهار وهي تزيد على عشرة آلاف نهر تجري فيها السامريات، ولكل منها اسم ينسب إلى صاحبه الذي حفره، وإلى الناحية التي يصل إليها، وبها نهر يعرف بنهر الأيكة وهو أحد نزهات الدنيا، طوله اثنا عشر ميلاً وهو مسافة ما بين البصرة والأيكة، وعلى جانب النهر قصور وبساتين وفرج ونزه كأنها كلها بستان واحد وكأن نخلها كلها قد غرس في يوم واحد، وجميع أنهارها يدخل عليها المد والجزر، والغالب على هذه الأنهار الملوحة. وبين عمارات البصرة وقراها آجام وبطائح ماء معمورة بزوارق وسامريات.
(1/119)
واسط: وهي بين البصرة والكوفة، وهي مدينتان على جانبي دجلة، وبينهما قنطرة كبيرة مصنوعة على جسر من سفن يعبر عليها من جانب إلى جانب، فالغربية تسمى كسكران، والشرقية تسمى واسط العراق، وهما في الحسن والعمارة سواء، وهما أعمر بلاد العراق وعليهما معول ولاة بغداد.
وعبادان: وهي مدينة عامرة على شاطئ البحر في الضفة الغربية من الدجلة، وإليها مصب ماء الدجلة ويقال في المثل: ما بعد عبادان قرية. ومن عبادان إلى الخشبات وهي خشبات منصوبات في قعر البحر بإحكام وهندسة وعليها ألواح مهندسة يجلس عليها حراس البحر ومعهم زوارق، وهو البحر الفارسي شاطئه الأيمن للعراق والأيسر لفارس.
أرض الفرس: وهي بلاد فارس، ومسكنهم وسط المعمورة. وهي مدن عظيمة وبلاد قديمة وأقاليم كثيرة وهي ما دون جيحون ويقال لها إيذان، وأما ما وراء جيحون فهور أرض الترك ويقال لها قزوين. وأرض فارس كلها متصلة العمائر وهي خمس كور: الكورة الأولى: أرجان، وهي أصغرهن وتسمى كورة سابور، والكورة الثانية اصطخر وما يليها، وهي كورة عظيمة وبها أعظم
(1/120)
بلاد الفرس. والكورة الثالثة: كورة سابور الثاني. الكورة الرابعة: الشاذروان وقاعدتها شيراز. الكورة الخامسة: كورة سوس.
أرض كرمان: هي بين أرض فارس وأرض مكران، وهو إقليم واسع ومن مدنها المشهورة يم، وهرمز.
أرض الجبال: أرض واسعة وإقليم عظيم، ويسمى إقليم خراسان وعراق العجم وله نحو خمسمائة مدينة قواعد، خارجة عن القرى والرساتيق، ومن مدنها همذان والسوس وششتر، وزرنج ونيسابور وسرخس
(1/121)
وغزنة ومرو، والطالقان، وبلخ وفاراب وبدخشان وقم وقاشان وأصبهان، وجرجان والبيلقان وراعة، وأردبيل وطوس.
(1/122)
أرض طبرستان: وهي مشتملة على إقليم عظيم ومياه غزيرة وأشجار ملتفة، ومدينتها العظمى تسمى أيضاً طبرستان.
أرض الري: هي آخر الجبال من خراسان، وهو إقليم عظيم كثير القرى والأعمال والرساتيق.
جبال الديلم: وهي ثلاثة جبال منيعة يتحصن أهلوها بها. أحدها يسمى تردوسيان والثاني يسمى المرونج، والثالث يسمى واران. ولكل جبل منها رئيس. والجبل الذي فيه الملك يسمى الكروم وبه رياسة الديلم ومقام آل حسان، وبهذا الجبل والأولين أمم عظيمة من الديلم، وهي كثيرة الغياض والشجر والمطر وهي في غاية الخصب، ولها قرى وشعاب كثيرة وليس عندهم من الدواب ما ينقلون بها.
أرض خوارزم: إقليم عظيم منقطع عن أرض خراسان وبعيد عما وراء النهر، ويحيط به مفاوز من كل جانب، وأول أعماله الظاهرية: خوارزم، وهي قاعدة هذه الأرض، وهي مدينة عظيمة، وفي الوضع مدينتان شرقية وغربية، فالأولى على ضفة نهرها الشرقية تسمى درغاشا، والثانية على ضفته الغربية وتسمى الجرجانية.
(1/123)
بخارى: مدينة عظيمة ومملكة قديمة ذات قصور عالية وجنان متوالية وقرى متصلة العمائر، ودورها سبعة وثلاثون ميلاً في مثلها ويحيط بها جميعاً سور واحد وداخل هذا السور المحيط سور آخر يدور على نفس المدينة ومدائنها من الرساتيق، ولها قلعة حصينة ونهر يشق ربضها وعلى النهر أرحية كثيرة، وأهلها متمولون وذوو ثروة.
سمرقند: وهي مدينة تشبه بخارى في العمارة والحسن، لها قصور عالية شاهقة ونهور دافقة تخترق أزقتها ودورها وتشق جهاتها وقصورها، وقل أن تخلو من بقاعها المياه الجارية ويقال إنها بناء تبع الكبر وأتمها ذو القرنين.
وبحيرة خوارزم دورها ثلاثمائة ميل وماؤها ملح أجاج وليس لها مصب ولا مغيض، ويقع فيها جيحون على الدوام وسيحون وقتاً دون وقت، ويقع فيها أيضاً نهر الشاش ونهر الترك ونهر سرمازعا، وأنهار كثيرة صغيرة غيرها ولا يعذب ماؤها ولا يساغ ولا يزيد بما يقع فيها ولا ينقص. ويجمد نهر جيحون في الشتاء بالقرب من هذه البحيرة حتى تجوز عليه الدواب وعلى شطها جبل يعرف بحفرا نموية، يجمد فيه
(1/124)
الماء فيصير ملحاً لأهل تلك المملكة، وفي هذه البحيرة شخص يظهر في بعض الأوقات عياناً على صورة إنسان يطفو على وجه الماء ويتكلم ثلاث كلمات أو أربع كلمات مقفلات غير مفهومات ثم يغوص في الماء في الحال وظهوره يدل على موت ملك من الملوك الأعزاز.
أرض خورستان: وهي من بلاد الجبال، وهي أرض سهلة معتدلة الهواء كثيرة المياه واسعة الخير والخصب، وبها مدن كثيرة وقرى عامرة. ومن مدنها المشهورة الأهواز وهو القطر الكبير الواسع، المعمور النواحي، وهي قاعدة هذه المملكة وبها أرزاق وخيرات زائدة الوصف، وبها تعمل الثياب الأهوازية التي لا نظير لها في الدنيا وكذلك البسط والحلل والستور وملابس ومراكيب الملوك، وبها يصنع كل نوع غريب.
أرض طخارستان: وهي أرض الهياطلة؛ وإقليمه واسع؛ وهو بين أرض الجبال وبلاد الأتراك، وبها مدن كثيرة وقرى عامرة وخصب.
أرض الصغد: وهي أرض واسعة ذات بساتين وأشجار وفواكه ومياه ومدن عامرة ولها نهر يسمى الصغد يخرج من جبال التيم ويمتد على ظهرها،
(1/125)
ومدينتها العظمى تسمى الصغد وهي ذات قصور عالية وأبنية شاهقة والمياه تخترق أزقتها وشوارعها، وقل أن يكون بها قصر أو دار أو بستان بغير ماء.
أرض أشروسنة: وهي أرض قبل أرض فرغانة؛ وهي إقليم عظيم كالعراق، وبه مدن وقرى وخيرات وافرة وخصب إلى الغاية.
أرض التيم: وهي غربي بلاد فرغانة وهي أرض واسعة وبها جبال شاهقة بها معادن الذهب والفضة والنوشادر والزاج، وبها جبال شاهقة وطرق ممنعة، وفي الجبال خسوف تخرج منه النار في الليل فترى على مسافة خمسة أميال وفي النهار يخرج منه الدخان. وفي جبال التيم حصن شبيك الذي لم يطمع في الوصول إليه من يرومه من الأعداء؛ وهو كثير الخيرات وبه تعمل آلات الحديد والفولاذ وأنواع الأسلحة لتلك المملكة وغيرها.
أرض فرغانة: وهي مجاورة أرض التبت، وهي أرض واسعة ذات كور وأقاليم ومدن وقرى وضياع. ومن مدنها المشهورة فرغانة وهي إقليم واسع وهي قاعدة ذلك الملك وبها أمم عظيمة وأسواق وخيرات.
أرض التبت: إقليم واسع ومدينته تسمى به، وهو آخر مدن خراسان وهو مجاور بلاد الصين وبعض بلاد الهند، وهو بلاد الأتراك التبتية وهو إقليم على نشز من الأرض عال؛ وفي أسفله واد يمر على بحيرة نزوان مشرقاً. ويعمل بها ثياب ثخان
(1/126)
الأجرام لها قيمة غالية. وأهلها يتجرون في الفضة والحديد والحجارة الملونة والمسك التبتي وجلود النمور، وليس على معمور الأرض أحسن ألواناً ولا أنعم أبداناً ولا أجمل أخلاقاً ولا أرق بشرة ولا أذكى رائحة من الترك الذين بتلك البلاد وهم يسرق بعضهم بعضاً ويبيعونه في البلاد.
ومن مدنه المشهورة يتنج وهي مدينة على رأس جبل، وعليها سور حصين ولها باب واحد لا غير، وبها صناعات كثيرة وأعمال بديعة. وبالجبل المتصل بالتبت ينبت السنبل، وفي غياضه دواب المسك ترعى منه وهي كغزلان الفلاة غير أن لها نابين معتقفين كأنياب الفيلة يخرج المسك من سرتها كالدمل فتحك سرتها في الحجر
(1/127)
فينفجر وتجمد فتخرج التجار فتجمعه ويضعونه في النوافج. وبها فأرة المسك وهي فأرة يخرج المسك من سرتها أيضاً. وهذا المسك هو الغاية في قوة الرائحة وغاية الثمن. وبهذا الجبل من الراوند الصيني شيء كثير ويقرب منه جبل معطوف عليه كالدال وبه بئر بعيد القعر يسمع من أسفله خرير الماء ودوي جريانه ولا يدرك له قعر. ويتصل طرفا هذا الجبل بجبال الهند، وفي وسطه أرض وطيئة وفيها قصر عظيم مائل مربع البناء ولا باب له، وكل من قصد ومشى نحوه يجد في نفسه طرباً وسروراً كما يجد شارب الخمر من نشوة الخمر. ويقال إن من تعلق بهذا القصر وصعد إلى أعلاه ضحك ضحكاً شديداً ثم رمى بنفسه إلى داخله لا يدرى لأي شيء، ولا يمكن أحد أن يعلم ما سبب ذلك وما الذي في داخله؟
أرض اللان: وهي أرض واسعة عامرة. ومن مدنه المشهورة برذعة وهي مدينة عظيمة كثيرة الخصب، ويقرب منها موضع يقال له الاندروان مسيرة يوم في يوم، وهو من نزه الدنيا، كله عمارات وقصور وبساتين ومناظر وفواكه وثمار، وبه البندق والشاهبلوط الذي ليس له في الدنيا نظير في الطعم والكثرة حتى لو حمل ذلك إلى البلاد شرقها وغربها لكفاهم، وبها الريعان وهو نوع من العنبر الذي لا يوجد مثله في الدنيا. وهي على نهر الكر. وبها باب يعرف بباب الأكراد له سوق يعرف بسوق الكركي مقداره ثلاثة أميال.
أرض التغزغز: وهي بين أرض التبت والصين كما تقدم. ومن مدنها المشهورة أخوان وهي مدينة عظيمة آخذة من جهة المشرق على ضفة نهر وحولها مياه جارية
(1/128)
ومزارع كثيرة، وهي مرابع الأتراك، وبها يعمل من الآلات الحديد الصيني كل غريب، وبها من الآنية الصينية ما لا يوجد في غيرها.
وأما أرض الصين: فإنها طويلة عريضة، طولها من المشرق إلى المغرب نحو ثلاثة أشهر، وعرضها من بحر الصين إلى بحر الهند في الجنوب، وإلى سد يأجوج ومأجوج في الشمال. وقد قيل إن عرضها أكثر من طولها. وهي تشتمل على الأقاليم السبعة. ويقال إن بها ثلثمائة مدينة قواعد كبار عامرة، سوى الرساتيق والقرى والجزائر. وعندهم معدن الذهب. قال الهروي: أبواب الصين اثنا عشر باباً وهي جبال في البحر، بين كل جبلين منها فرجة تصير إلى موضع بعيد من بلاد الصين فإذا جاوزت السفينة تلك الأبواب جازت في بحر فسيح وماء عذب فلا تزال كذلك حتى تصير إلى الموضع الذي تريد من بلاد الصين.
وأهل الصين أحسن الناس سياسة وأكثرهم عدلاً وأحذق الناس في الصناعات والنقوش والتصوير. وإن الواحد منهم ليعمل بيده من النقش والتصوير ما يعجر عنه أهل الأرض وكان من عادات ملوكهم أن الملك منهم إذا سمع بنقاش أو مصور في أقطار بلاده أرسل إليه بقاصد ومال ورغبه في الإشخاص إليه، فإذا حضر عنده وعده بالمال والرزق والصلات، وأمره أن يصنع تمثالاً مما يعلمه من النقش والتصوير، ويبذل في ذلك غاية جهده ومقدرته ويحضر به إليه، فإذا فعل وأحضره علق ذلك الصنع والتمثال بباب قصر الملك وتركه سنة كاملة، والناس يهرعون إليه في تلك المدة، فإذا مضت السنة ولم يظهر أحد من الناس على عيب به وخلل في صنعه، أحضر ذلك الصانع وخلع عليه وجعله من خواص الصناع في دار الصناعة، وأجرى عليه ما وعده به من المال والصلة والإدرار.
(1/129)
فبلغه عن نقاش ماهر في النقش والتصوير في بلاد الروم فأرسل إليه وأشخصه وأمره بعمل شيء مما يقدر عليه من النقش والتصوير مثالاً يعلقه بباب القصر على العادة فنقش له في رقعة صورة سنبلة حنطة خضراء قائمة وعليها عصفور، وأتقن نقشه وهيئته حتى إذا نظره أحد لا يشك في أنه عصفور على سنبلة خضراء ولا ينكر شيئاً من ذلك غير النطق والحركة. فأعجب الملك ذلك وأمر بتعليقة وبإدرار الرزق عليه إلى انقضاء مدة التعليق فمضت سنة إلا بعض أيام ولم يقدر أحد على إظهار عيب ولا خلل فيه، فحضر شيخ مسن ونظر إلى المثال وقال: هذا مختل وفيه عيب. فأحضر الملك وأحضر النقاش والمثال، وقال: ما الذي فيه من الخلل والعيب؟ فاخرج عما وقعت فيه بوجه ظاهر ودليل وإلا حل بك الندم وما لا خير فيه. فقال الشيخ: أسعد الله الملك وألهمه السداد، مثال أي شيء هذا الموضع؟ فقال الملك: مثال سنبلة من حنطة قائمة على ساقها وفوقها عصفور. فقال الشيخ: أصلح الله الملك: أما العصفور فليس به خلل، وإنما الخلل في وضع السنبلة. فقال الملك: وما الخلل؟ وقد امتزج غضباً على الشيخ. فقال: الخلل في استقامة السنبلة لأن من العرف أن العصفور إذا حط على سنبلة أمالها لثقل العصفور وضعف ساق السنبلة، ولو كانت السنبلة معوجة مائلة لكان ذلك نهاية في الوضع والحكمة. فوافق الملك على ذلك وسلم.
وأهل الصين قصار القدود عظام الرؤوس، ومذاهبهم مختلفة؛ فمنهم أهل أوثان، وأهل نيران، وعباد حيات وغير ذلك. وأشرف ما يتحلون به قرون الكركند، لأنها إذا بشرت ظهرت منها صور مدهشة عجيبة كاملة النقش
(1/130)
والتخطيط، فيتخذون منها مناطق ويفتخرون بها فتبلغ قيمة المنطقة الواحدة أربعة آلاف دينار. وفي تلك القرون المنشورة خاصية عظيمة إذا شدت على الجسم تحت الثياب فإنها إذا دخل على الملك سم قدم إليه طعام فيه سم تحركت على جسمه واختلجت. وأما صين الصين فهي نهاية العمارة في المشرق، وليس وراءها إلا البحر المحيط. ومدينة الصين العظمى تسمى السبلى، وأخبارهم منقطعة عنا لبعدهم. ويحكى أن الملك عندهم إذا لم يكن له مائة زوجة بمهور، وألف فيل برجالها وأسلحتها، لا يسمى بملك. وإذا كان للملك منهم عدة أولاد ثم مات لا يرث ملكه منهم إلا أحذقهم بالنقش والتصوير.
ومن مدن الصين المشهورة خانقو وهي أعظم مدن الصين وهي على نهر عظيم أعظم من دجلة والفرات، وبها أمم لا تحصى كثرة، ولها ملك ذو هيبة على مربطه ما يزيد على ألف فيل، وجنوده كثيرة وهي على خور من البحر الأعظم تدخل فيه المراكب إلى مسيرة شهرين، وبها الأرز والموز الغزير وقصب السكر والنارجيل.
وخانكو: وهي مدينة عظيمة تشبه خانقو في السعة والعمارة وكثرة الخلق. وهي كثيرة الفواكه الفاخرة وهي على خور من البحر. وبهذه البلاد الحيوانات الغريبة الشكل مثل الفيل والكركند والزرافة وغير ذلك من الصندل والأبنوس والكافور والخيزران والعطر وجميع الأفاويه ما لا يوصف، والليل والنهار في هذه البلاد متكافئان.
وباجة: مدينة عظيمة وبها أمم عظيمة، وبها جميع الفواكه إلا العنب والتين فإنهما لا يوجدان بها ولا ببلاد الصين والتبت والهند، وإنما عندهم شجر يسمى الشكى
(1/131)
والبركى، يطرح ثمراً طول الثمرة أربعة أشبار مدور كالمخروط وله قشر أحمر، وهو لذيذ الطعم وفي جوف تلك الثمرة حب مثل حب الشاهبلوط يشوى في النار ويؤكل فيوجد فيه طعم التفاح وطعم الكمثرى وطعم الموز، وفي بلاد الهند شجر يسمى العنباء كشجر الموز وثمرته كالمقل يعمل بالخل فيكون كطعم الزيتون. وهذه المدينة هي سكنى البغبوغ وهو ملك الصين ومعناه ملك الملوك وله في دسته وموكبه زي عظيم.
وجمدان: وهي مدينة عظيمة يشقها نهرها الأعظم المسمى جمدان وأهلها ذوو أموال غزيرة، وهي قاعدة من قواعد الصين.
كاشغر: وهي مدينة عظيمة على ضفة نهر صغير يأتي من شمالها، يقع من جبل، وبهذا الجبل معادن الفضة الطيبة الفائقة السهلة التخلص.
وخيعون: وهي مدينة حسنة ذات بساتين وفرج، وبها غزال المسك الفائق، ودابة الزباد الفاخر، وهي دابة كالهرة في الخلق وأنفس منها في الجسم، يحك الزباد من آباطها بمعلقة فضة وهو عرق يخرج من آباطها.
اسفيريا: مدينة عظيمة على بركة ماء عذب لا يعرف لها قعر، وبه سمك له وجوه مثل البوم على رؤوسها كقلانس الديوك.
وطوخا: مدينة يعمل فيها ثياب
(1/132)
الحرير الطوخية التي لا نظير لها.
وسوسة: وهي المدينة التي بها الفخار الصيني الفاخر الذي لا يعدله شيء من فخار الصين.
وقد ذكرنا من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق من المحيط إلى المحيط. ونرجع الآن إلى ذكر بلاد الجنوب وهي الواقعة بين المشرق والمغرب إن شاء الله تعالى، وهذه البلاد كلها بلاد السودان، وأولها من المغرب الأقصى إلى المشرق الأقصى، على حكم ربع الدائرة. فأول بلادهم من المغرب الأقصى: أرض مغرارة: ومن مدنها المشهورة المعظمة أولينى وهي في البحر، وبها الملاحة المشهورة التي يحمل منها إلى سائر السودان.
وصلي: وهي مدينة كبيرة على نهر النيل، وهي مجتمع السودان، وأهلها ذوو بأس ونجدة، وملكها مؤمن.
وتكرور: وهي في جنوب النيل وغربيه. وهي مدينة كبيرة وبها أمم عظيمة من السودان وهي مقر ملكهم وببلادهم معدن الذهب، ويسافر إليها أهل
(1/133)
الغرب بالصوف والنحاس والخرز والودع، ولا يجلب منها إلا الذهب العين.
ولملم: وهي مدينة متوسطة. وعندهم معدن الذهب.
وباقي أرض مغرارة صحارى وبراري ومفاوز لا عمارة بها ولا مسالك، لقلة الماء والمراعي. وشمالها أرض غانة، وجنوبها الأرض من الربع الخراب.
وأرض نقارة: وهي شرقي أرض مغرارة، ويه أرض واسعة. ومن مدنها المشهورة ونقرة وهي بلاد التبر والطيب، وهي جزيرة على ضفة المحيط، وطولها ثلاثمائة ميل وعرضها مائة وخمسون ميلاً. والبحر محيط بها من جهاتها الثلاث. والنيل في زيادته يغطي أكثر هذه الجزيرة، وإذا نقص الماء عنها خرج أهل تلك البلاد يبحثون في أرضها على التبر، فيحل لكل واحد منهم ما قسمه الله، ويخرجون وهم أغنياء. ولملكهم أرض محمية مختصة لا يدخلها إلا أجناده فيجمعون له كنوزاً لا توصف، فيأتون به إلى مدينة سلجماسة في الغرب بها تبر فيضربونه دنانير ولذلك أهل سلجماسة جميعهم أغنياء بتلك الواسطة.
(1/134)
وسمقارة: وهي مدينة متوسطة، وفي شمالها قوم يقال لهم تعامة برابر، رحالة لا يقيمون في موضع، ويرعون جمالهم وأبقارهم على ساحل نهر يأتي من جهة المشرق يصب فيه النيل، ومعاشهم من اللحم واللبن والسمك.
وغينارة: وهي مدينة على ضفة النيل، وعليها خندق محيط بها، وأهلها ذوو بأس ونجدة، وهم يغيرون على بلاد لملم ويأسرون منهم ويبيعون في البلاد.
أرض الكرك: وهي مملكة عظيمة واسعة ولها ممالك كثيرة، ومدينتهم تسمى باسم إقليمهم كركرة وهي على نهر يخرج من ناحية الشمال، ويجوز عنها بأيام ويفيض في رمال في الصحراء كما يفيض الفرات، وبها من السودان أمم لا تحصى، وملكهم عظيم كثير الجنود، ولهم زي حسن، وحليهم الذهب الإبريز إلا العوام فإن لباسهم الجلود.
وهي متصلة ببلاد معادن الذهب، يقال إن الأرض عندهم كلها ذهب، ولهم خط لا يتجاوزه من وصل إليهم من التجار ومعه متاع، لكن إذا وصلوا إلى الخط وضعوا متاعهم عليه وانصرفوا، فإذا كان الغد أتوا إلى أمتعتهم فيجدون عند كل متاع شيئاً من الذهب، فإن رضي أحدهم أخذ الذهب وترك المتاع وإن لم يرض ترك المتاع والذهب إلى غد، فإن كان الغد وجد زيادة عند متاعه فإن رضي رفع الذهب وترك المتاع وإن لم يرض تركه إلى ثالث يوم، فمن وجد زيادة أخذ الذهب وإلا رفع متاعه وترك الذهب أو أخذ الذهب مع زيادة. وهكذا يفعل تجار القرنفل في بلادهم في القرنفل، وربما يتأخر بعض التجار بعد فراغه من البيع والمعاوضة ويضع النار في الأرض فيسيل منها الذهب فيسرقه ويهرب فإذا فطنوا لهم خرجوا في طلبهم فإن أدركوهم قتلوهم البتة.
وبأرض الكركر عود ينبت يسمى عود الحية، خاصيته أنه إذا وضع على حجر فيه حية خرجت مسرعة ويمسكها بيده فلا تضره أبداً.
(1/135)
أرض الدهام: يسار إليها من كركر على شاطئ البحر مغرباً، وهي مملكة عظيمة ولها ممالك كثيرة وجنود ذوو شدة ونجدة وتحت يد ملكهم ملوك وفي مملكته قلعة عليها سور، وفي أعلاه صورة امرأة يتألهون لها ويعبدونها ويحجون إليها، وهم أمة كالبهائم مهملون في أديانهم، وكلهم عرايا يأكل بعضهم بعضاً.
أرض غانة: وهي شمالي أرض مغرارة وهي مدينة سميت باسم إقليمها، وهي أكبر بلا السودان وأوسعها شجراً وهم في سعة من المال وهي مدينتان في ضفة النيل ويقصدها التجار من سائر البلاد وأرضها ذهب ظاهر. ولهم في النيل زوارق عظيمة وأهلها يستخرجون الذهب يصنعونه كاللبن ويسافر إليها التين والملح والنحاس والودع، ولا يحملون منها إلا الذهب العين، ولها ملك ضخم في جنود وعدد، وله ممالك عديدة فيها ملوك من تحت يده، وله قصر عظيم النيل، وفي قصره تبرة واحدة من ذهب كالصخرة العظيمة، وهي خلقة الله وفيها ثقب كالمربع وهو مربط فرس الملك ويقال إن ملكها مسلم.
أرض قمندوية: وهي شمال أرض مغرارة متصلة بالمحيط وشرقها صحراء ينسر وبهذه الصحراء حيات طوال القدود غلاظ الأجسام في غلظ الخروف السمين وطول الرمح، وأطول وأقصر، ويصيدها ملوك السودان ويسلخونها ويطبخونها بالملح والشيح ويأكلونها. وبها جبل قابان وهو عال جداً يقال إن السحاب يمر دونه وليس به شيء من النبات وفيه أحجار لماعة إذا طلعت الشمس تكاد تخطف الأبصار وليس لأحد سبيل إلى الوصول إلى ذروته ولا سفحه لأنه مزحلق، وفي أسفله عيون عذبة كأن مياهها قد مزجت بالعسل.
(1/136)
أرض الكاتم: وهي أرض منبسطة واسعة على شاطئ النيل، وأهلها مسلمون إلا القليل منهم، وهم على مذهب مالك رضي الله عنه.
أرض النوبة: أرض واسعة واقليم كبير ومسيرة مملكتهم ثلاثة أشهر، وهي في حدود مصر، وكثيراً ما يغزوهم عسكر مصر. ويقال: إن لقمان الحكيم الذي كان مع داود عليه الصلاة والسلام وهو المذكور في القرآن العظيم من النوبة، وأنه ولد بأيلة. ومنها ذو النون المصري رضي الله عنه، وبلال بن رباح خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومؤذنه.
(1/137)
وعندهم معدن الذهب ودينهم النصرانية، وملكهم ملك جليل كثير الجنود، وهم فرقتان فرقة يقال لها علوة ومدينتهم العظمى ويلولة وهي مدينة عظيمة وبها من السودان أمم لا تحصى، والفرقة الأخرى يقال لها النوبة ومدينتهم العظمى دنقلة وهي مثل ويلولة على ضفة النيل من غربيه، وأهلها أحسن السودان وجوهاً وأعدلهم شكلاً وفي بلادهم الفيلة والزرافات والقرود والغزلان.
ومن مدن النوبة المشهورة نوابية ويقال لها نوبة. وهي مدينة وسط وبينها وبين النيل أربعة أيام، وشرب أهلها من الآبار. وفي نساء هذه المدينة الجمال الفائق والحسن الكامل. ولهم حسن النطق وحلاوة اللفظ وطيب النعمة وليس في سائر السودان من شعورهم مسبلة غيرهم وبعض الهنود وبعض الحبوش لا غير. وقيمة الجارية الحسناء منهن ثلثمائة دينار وما فوقها.
وحكي أنه كان عند الوزير أبي الحسن المروف بالمصحفي جارية منهن لم ير أكمل منها قدراً ولا أحسن خلقاً ولا أملح شكلاً ولا أنعم جسماً ولا أحلى منطقاً ولا أتم محاسن، وكانت إذا تكلمت سحرت الألباب بمنطقها وحلاوة ألفاظها فاشتراها الصاحب بن عباد منه بأربعمائة دينار وأحبها حباً عظيماً ومدحها في
(1/138)
بعض أشعاره. وقيل عنه إنه قبل مشتراها كانت همته قد ذهبت وشهوته انقطعت فلما اشتراها وضاجعها انبعثت شهوته ونهضت همته وتراجعت قوته، لطيب ما وجد عندها.
وطرمي: وهي مدينة كبيرة على البطيحة التي يجتمع بها ماء النيل. وعلى ضفة هذه البطيحة صنم كبير من حجر رافع يده إلى صدره يقال إنه كان رجلاً ظالماً فمسخ حجراً.
ويلاق: وهي مدينة كبيرة وهي مجتمع تجار النوبة وتجار الحبشة ومن ويلاق إلى جبل الجنادل ستة أيام، وإلى هذا الجبل تصل مراكب مصر والسودان.
الحبشة: وبلادهم تقابل بلاد الحجاز وبينهم البحر، وأكثرهم نصارى وهي أرض طويلة عريضة، مادة من شرقي النوبة إلى جنوبها، وهم الذين ملكوا اليمن قبل الإسلام في أيام الأكاسرة، وخصيان الحبشة أفضل خصيان، وفي نسائهم أيضاً جمال وحلاوة وحسن نغمة. ومن مدنها المشهورة كعبر وهي مدينتها العظمى وهي دار مملكة النجاشي رحمه الله تعالى، وبها من شجر الموز كثير، وأهل تلك البلاد لا يأكلون الموز ولا الدجاج أصلاً.
أرض الزيلع: وهي تجاور الحبشة من
(1/139)
الشمال إلى الجنوب، وهم أمم عظيمة والغالب عليهم الإسلام والصلاح والانقياد إلى الخير.
أرض البجة: وأهلها تجاور الحبشة من الشمال وهي بين الحبشة والنوبة وهم السواد، عراة الأجسام يعبدون الأوثان. ولهم عدة ممالك، وهم أهل أنس مع التجار، وفي بلادهم معدن الذهب، وليس بأرضهم قرى ولا خصب وإنما هي بادية جدبة تصعد التجار منها إلى وادي العلافي، وهو واد فيه خلق كثير كالبلد الجامع، وفيه آبار عذبة يشربون منها. ومعدن الذهب عندهم متوسط في صحراء لا جبل حوله بل رماله لينة وسباسب سيالة، فإذا كان أولى ليالي الشهر العربي خاض الطلاب في تلك الرمال فينظرون التبر يضيء بين الرمال ويعلمون مواضعها ويصيحون فيجيء كل منهم إلى الكوم الرمل الذي علمه فيحمله على هجينة ويمضي إلى آبار فيغسله ويصوله ويستخرج منه التبر، ويلغمه بالزئبق ثم يسبكه في
(1/140)
البوادق، فمن ذلك بلاغهم ومعاشهم وقد انضاف إليهم جماعة من العرب من ربيعة بن نزار وتزوجوا منهم.
عيذاب: وما يتصل بها من الصحراء المنسوبة إلى عيذاب وليس لها طريق معروفة إلا رمال سيالة، ولا يستدل عليها إلا بالحبال والكدي وربما أخطأها الدليل وهو ماهر. وعيذاب مدينة حسنة وهي مجمع التجار براً وبحراً، وأهلها يتعاملون بالدراهم عدداً ولا يعرفون الوزن، وبها وال من قبل البجة ووال من قبل سلطان مصر، يقسمان جباياتها نصفين، وعلى عامل مصر القيام بطلب الأوراق وعلى عامل البجة حمايتها من الحبشة. واللبن والعسل والسمن بها كثير، وبينها وبين الحجاز عرب البحر وبين النوبة قوم يقال لهم البليون أهل عزم وشجاعة يهابهم كل من حولهم من الأمم ويهادنونهم وهم نصارى خوارج على مذهب اليعقوبية.
(1/141)
أرض بربرة: وهي تتصل بأرض النوبة على البحر، وهي مقابلة اليمن، بها قرى عامرة متصلة وبها جبل يقال له قانوني وهو جبل له سبعة رؤوس خارجة وتمتد في البحر أربعة وأربعين ميلاً، وعلى رؤوس هذه الجبال بلاد صغيرة يقال لها الهاوية، وبعض أهل بربرة يأكلون الضفادع والحشرات والقاذورات ويتصيدون في البحر عوماً بشباك صغيرة.
ويلي هذه الأرض أرض الزنج وهي مقابل أرض السند وبينهما عرض بحر فارس، وهم أشد السودان سواداً وكلهم يعبدون الأوثان، وهل أهل بأس وقساوة، ويحاربون راكبين على بقر، وليس في بلادهم خيل ولا بغال ولا جمال. قال المسعودي: ولقد رأيت هذه البقرة تبرك كما تبرك الجمال ويحملونها وتثور كالجمال، ومساكنهم من حد الخليج المنصب إلى سفالة الذهب.
وواق الواق: وأرضهم واسعة وقراهم عامرة وكل قرية على خور وهي أرض كثيرة الذهب والخصب والعجائب، ولا يوجد البرد عندهم أصلاً ولا المطر، وكذلك غالب بلاد السودان، وليس لهم مراكب بل تدخل إليهم المراكب من عمان، والتجار يشترون أولادهم بالتمر ويبيعونهم في البلاد، وأهل بلاد الزنج كثيرون في العدد قليلون في العدد ويقال إن ملكهم يركب في ثلثمائة ألف راكب، كلهم على
(1/142)
البقر. والنيل ينقسم فوق بلادهم عند جبل المقسم وأكثرهم يحددون أسنانهم ويبردونها حتى ترق، ويبيعون أنياب الفيلة وجلود النمور والحديد، ولهم خزائن يخرجون منها الودع ويتحلون به وبييعونه فيما بينهم بثمن له قيمة، ولهم ممالك واسعة.
أرض الدمادم: وبلادهم على النيل مجاورة للزنج، والدمادم هم تتر السودان، يخرجون عليهم كل وقت فيقتلون ويأسرون وينهبون وهم مهملون في أمر أديانهم وفي بلادهم الزرافات كثيرة، ومنهم يفترق النيل إلى أرض مصر إلى جهة الزنج.
أرض سفالة الذهب: وهي تجاور أرض الزنج من المشرق، وهي أرض واسعة وبها جبال فيها معادن الحديد يستخرجه أهل تلك البلاد. والهنود تأتي إليهم ويشترون منهم بأوفر ثمن مع أن في بلاد الهنود معادن الحديد، لكن معادن سفالة أطيب وأصح وأرطب، والهنود يصفونه فيصير فولاذاً قاطعاً. وبهذه البلاد معادن لضرب السيوف الهندية وغيرها ومع ذلك لا يتحلون إلا بالنحاس ويفضلونه على الذهب. وأرض سفالة متصلة بأرض واق الواق.
أرض الحجاز: وهي تقابل أرض الحبشة وبينهما عرض البحر. ومن مدنها المشهورة مكة المشرفة وهي مدينة
(1/143)
قديمة. روى الحافظ أبو الفرج بن الجوزي في كتاب البهجة قصة بناء البيت الحرام، قال: وهو حرم مكة وكعبة الإسلام وقبلة المؤمنين، والحج إليه أحد أركان الدين.
(1/144)
ابتداء البيت الحرام
واختلف العلماء في ابتداء بناء البيت الحرام على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الله تعالى وضعه، ليس ببناء أحد. ثم في زمان وضعه إياه قولان: أحدهما قبل خلق آدم عليه السلام. قال أبو هريرة رضي الله عنه: وكانت الكعبة خشفة على الماء وعليها ملكان يسبحان الله تعالى، الليل والنهار، قبل خلق الأرض بألفي عام. والخشفة الأكمة الحمراء.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما كان عرش الرحمن على الماء قبل أن يخلق السموات والأرض بعث الله ريحاً فصفقت الماء فأبرزت عن خشفة في موضع البيت كأنها قبة، فدحا الأرض من تحتها. وقال مجاهد: لقد خلق الله عز وجل موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئاً من الأرض بألفي عام، وإن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى. وقال كعب الأحبار رضي الله عنه: كانت الكعبة غشاء على الماء قبل أن يخلق الله الأرض والسموات بأربعين سنة. وقد روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كان قبل هبوط آدم عليه السلام ياقوتة حمراء من
(1/145)
يواقيت الجنة فلما هبط آدم إلى الأرض أنزل الله عليه الحجر الأسود فأخذه فضمه إليه استئناساً به. وحج آدم فقالت له الملائكة: لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. فقال آدم: رب اجعل له عماراً من ذريتي. فأوحى الله تعالى إليه: إني معمره ببناء نبي من ذريتك اسمه إبراهيم.
القول الثاني: أن الملائكة بنته. قال أبو جعفر الباقر رضي الله عنه: لما قالت الملائكة: " أتجعلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها " غضب الرب عز وجل عليهم فلاذوا بالعرش مستجيرين يطوفون حوله، يسترضون رب العالمين فرضي سبحانه وتعالى عنهم فقال عز وجل ابنوا لي بيتاً في الأرض يعوذ به كل من سخطت عليه كما فعلتم أنتم بعرشي.
القول الثالث: أن آدم لما أُهبط من الجنة أوحى الله إليه أن ابن لي بيتاً واصنع حوله كما صنعت الملائكة حول عرشي، وافعل كما رأيتهم يفعلون، فبناه.
أبو صالح عن ابن العباس، وروى عطية عنه أيضاً، قال: بنى آدم البيت في خمسة أجبل: لبنان وطورسينا وطوزيتا والجردى وحراء. قال وهب ابن منبه: لما مات آدم بناه بنوه بالطين والحجارة فنسفه الغرق. قال مجاهد: وكان موضعه بعد الغرق أكمة حمراء لا تعلوها السيول، وكان يأتيها المظلوم ويدعو عندها المكروب. وقال عز وجل: " وإذ
(1/146)
يرفع إبراهيمُ القواعدَ من البيت وإسماعيلُ " وهما أول من بنى البيت بعد الطوفان على القواعد الأزلية الأولية، فنسب بناء البيت إلى إبراهيم الخليل وإسماعيل عليهما السلام، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(1/147)
يثرب: وهي مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ودار هجرته الشريفة، وبها قبره صلى الله عليه وسلم وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم طيبة وهي مدينة في غاية الحسن في مستوى من الأرض، وعليها سور قديم. وحولها نخل كثير وتمرها في غاية
(1/148)
الطيب والحلاوة. ولها مخاليف وحصون، منها وادي العقيق. وبها نخل مزارع أيضاً وقبائل من العرب، والبقيع كذلك. ووادي القرى وهو حصين بين الجبال وبه بيوت منقورة في الصخور، وتسمى تلك النواحي الأثالب وبها كانت ثمود، وبها الآن بئر ثمود ودومة الجندل، وهو حصن منيع. وتبوك وهي قرية حسنة ولها حصن من حجر. وفدك كانت خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدين مقر شعيب عليه السلام.
أرض نجد: وهي أرض عظيمة واسعة كثيرة الخير، وهي بين الحجاز واليمن، وبها مياه جارية وثمار وأشجار في غاية الرخص.
وأما أرض اليمن: فهي تقابل أرض البربر وأرض الزنج وبينهما عرض البحر. واليمن على ساحل بحر القلزم من الغرب، وكان بين هذا البحر وأرض
(1/149)
اليمن جبل يحول بينهما وبين الماء، وكان بين اليمن والبحر مسافة بعيدة فقطع بعض الملوك ذلك الجبل بالمعاول ليدخل منه خليجاً فيهلك بعض أعدائه وأطلق البحر في أرض اليمن، فاستولى على ممالك عظيمة ومدن كثيرة وأهلك أمماً عظيمة لا تحصى، وصار بحراً هائلاً.
ومن مدنها المشهورة زبيد وهي مدينة كبيرة عامرة على نهر صغير، وهي مجتمع التجار من أرض الحجاز والحبشة وأرض العراق ومصر، ولها جبايات كثيرة على الصادر والوارد.
وصنعاء: وهي مدينة متصلة العمارات كثيرة الخيرات معتدلة الهواء والحر والبرد، وليس في بلاد اليمن أقدم منها عهداً ولا أوسع قطراً ولا أكثر خلفاً وبها قصر غمدان المشهور، وهو على نهر صغير يأتي إليها من جبال هناك. وشمالي صنعاء جبل يقال له جبل المدخير وعلوه ستون ميلاً، وبه مياه جارية وأشجار وثمار ومزارع كثيرة وبها من الورس والزعفران كثير جداً.


يتبع

الصورة الرمزية يناير
يناير
عضو
°°°
افتراضي
(1/150)
عدن: وهي مدينة لطيفة، وإنما اشتهر اسمها لأنها مرسى البحرين، ومنها تسافر مراكب السند والهند والصين وإليها تجلب بضائع هذه الأقاليم من الحرير والسيوف، والكيمخت والمسك والعود والسروج، والأمتعة والأهليجات والحرارات والعطريات، والطيب والعاج والأبنوس، والحلل والثياب المتخذة من الحشيش الذي يفخر على الحرير والديباج والقصدير، والرصاص واللؤلؤ والحجارة المثمنة والزباد والعنبر، إلى ما لا نهاية لذكره. ويحيط بها من شمالها جبل دائر من البحر إلى البحر، وفي طرفيه بابان يدخل منهما ويخرج، وبينهما وبين اليابس مدينة الزنج مسيرة أربعة أيام.
تهامة: وهي قطعة من اليمن بين الحجاز واليمن، وهي جبال مشتبكة، حدها من الغرب بحر القلزم، ومن الشرق جبال متصلة، وكذا من الجنوب الشمالي وبأرض تهامة قبائل العرب. ومن مدنها المشهورة هجر.
أرض حضرموت: وهي شرقي اليمن وهي بلاد أصحاب الرس وكانت لهم مدينة اسمها الرس سميت بأسم نهرها. ومن أرض حضرموت المشهورة سبأ
(1/151)
التي ذكرها الله تعالى في القرآن وكانت مدينة عظيمة؛ وكان بها طوائف من أهل اليمن. وعمان تسمى مدينة مأرب، وهو اسم ملك البلاد وبهذه المدينة كان السد الذي أرسل الله إليه سيل العرم.
وكان من حديثه أن أمرأة كاهنة رأت في منامها أن سحابة غشيت أرضهم فأرعدت وأبرقت ثم صعقت فأحرقت كل ما وقعت عليه؛ فأخبرت زوجها بذلك وكان يسمى عمراً، فذهب إلى سد مأرب فوجد الجرذ وهو الفأر يقلب برجليه حجراً لا يقلبه خمسون رجلاً؛ فراعه ما رأى وعلم أنه لا بد من كارثة تنزل بتلك الأرض، فرجع وباع جميع ما كان له بأرض مأرب وخرج هو وأهله وولده. فأرسل الله تعالى الجرذ على أهل السد الذي يحول بينهم وبين الماء فأغرقهم، وهو سيل العرم، فهدم السد وخرج أهل تلك الأرض فأغرقها كلها.
وهذا السد بناه لقمان الأكبر بن عاد، بناه بالصخر والرصاص، فرسخاً في فرسخ، ليحول بينهم وبين الماء وجعل فيه أبواباً ليأخذوا من مائه بقدر ما يحتاجون إليه. وكانت أرض مأرب من بلاد اليمن مسيرة ستة أشهر متصلة العمائر والبساتين، وكانوا يقتبسون النار بعضهم من بعض، وإذا أرادت المرأة الثمار وضعت على رأسها مكتلها وخرجت تمشي بين تلك الأشجار وهي تغزل، فما ترجع إلا والمكتل ملآن من الثمار التي بخاطرها، من غير أن تمس شيئاً بيدها البتة.
(1/152)
وكانت أرضهم خالية من الهوام والحشرات وغيرها فلا توجد فيها حية ولا عقرب ولا بعوض ولا ذباب ولا قمل ولا براغيث. وإذا دخل الغريب في أرضهم وفي ثيابه شيء من القمل أو البراغيث هلك من الوقت والحين وذهب ما كان في ثيابه من ذلك بقدرة القادر.
وأذهب الله تعالى جميع ما كانوا فيه من النعيم الذي ذكره في كتابه ولم يبق بأرضهم إلا الخمظ والأثل وهو الطرفاء والأراك وشيء من سدر قليل وقد قال الله تعالى: " وبدّلناهم بجَنَّتَيْهِمْ جنتين ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ " الآية وذلك بأنهم كفروا بنعمة الله تعالى وجحدوها فنزل بهم ما نزل من العذاب، قال الله جل ذكره " ذلك جزَيْناهم بما كفروا وهل نُجازي إلا الكفور ". وسبأ الآن خراب وكان بها قصر سليمان بن داود عليهما السلام، وقصر بلقيس زوجته، وهي ملكة تلك الأرض التي تزوجها سليمان، وقصتها مشهورة، وبأرضها جبل منيع صعب المرتقى لا يصعد إلى أعلاه إلا بالجهد العظيم، وفي أعلاه قرى كثيرة عامرة وبساتين وفواكه
(1/153)
ونخل مثمر وخصب كثير، وبهذا الجبل أحجار العقيق وأحجار الحمشت وأحجار الجزع وهي مغشاة بأغشية ترابية لا يعرفها إلا طالبها والعارف بها، ولهم في معرفتها علامات فتصقل فيظهر حسنها.
الأحقاف: هي التلال من الرمل التي بين حضرموت وعمان، وهي قرى متفرقة. وروي عن عبد الله بن قلابة رضي الله عنه أنه خرج في طلب ابل له شردت فبينما هو في صحارى بلاد اليمن وأرض سبأ إذ وقع على مدينة عظيمة بوسطها حصن عظيم، وحوله قصور شاهقة في الجو، فلما دنا منها ظن أن بها سكاناً أو أناساً يسألهم عن إبله، فإذا هي قفر ليس بها أنيس ولا جليس، قال: فنزلت عن ناقتي وعقلتها ثم استللت سيفي ودخلت المدينة ودنوت من الحصن، فإذا ببابين عظيمين لم ير في الدنيا مثلهما في العظم والارتفاع، وفيهما نجوم مرصعة من ياقوت أبيض وأصفر يضيء بها ما بين الحصن والمدينة، فلما رأيت ذلك تعجبت منه وتعاظمني الأمر فدخلت الحصن وأنا مرعوب ذاهب اللب، وإذا الحصن كمدينة في السعة، وبه قصور شاهقة وكل قصر منها معقود على عمد من زبرجد وياقوت، وفوق كل قصر منها غرف، وفوق الغرف غرف أيضاً وكلها مبنية بالذهب والفضة مرصعة باليواقيت الملونة والزبرجد واللؤلؤ، ومصاريع تلك القصور كمصاريع
(1/154)
الحصن في الحسن والترصيع. وقد فرشت أراضيها باللؤلؤ الكبار وبنادق المسك والعنبر والزعفران. فلما عاينت ما عاينت من ذلك ولم أر مخلوقاً كدت أن أصعق فنظرت من أعالي الغرف فإذا بأشجار على حافات أنهار تخرق أزقتها وشوارعها، منها ما أثمرت ومنها ما لم تثمر، وحافات الأنهار مبنية بلبن من فضة وذهب. فقلت: لا شك أن هذه الجنة الموعود بها في الآخرة، فحملت من تلك البنادق واللؤلؤ ما أمكن وعدت إلى بلادي وأعلمت الناس بذلك.
فبلغ الخبر معاوية بن أبي سفيان وهو الخليفة يومئذ بالشام فكتب إلى عامله بصنعاء أن يجهزني إليه فوفدت عليه فاستخبرني عما سمع من أمري فأخبرته فأنكر معاوية إخباري فدفعت له من ذلك اللؤلؤ وقد اصفر وتغير، وكذلك بنادق العنبر والزعفران والمسك، ففتحها فإذا فيها بعض رائحة، فبعث معاوية رضي الله عنه إلى كعب الأخبار فلما حضر قال له: يا كعب إني دعوتك لأمر أنا من تحقيقه على قلق ورجوت أن يكون علمه عندك. فقال: ماذا يا أمير المؤمنين؟ قال معاوية: هل بلغك أن في الدنيا مدينة مبنية من ذهب وفضة عمدها من زبرجد وياقوت وحصباؤها لؤلؤ وبنادق مسك وعنبر وزعفران؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، هي إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، بناها شداد بن عاد الأكبر.
(1/155)
قال معاوية: حدثنا من حديثها، قال كعب: إن عاداً الأول كان له ولدان شديد وشداد، فلما هلك ملكا بعده البلاد، ولم يبق أحد من ملوك الأرض إلا دخل في طاعتهما. فمات شديد بن عاد، فملك شداد الملك بعده على الانفراد، وكان مولعاً بقراءة الكتب القديمة، وكلما مر به ذكر الجنة وما فيها من القصور والأشجار والثمار، وغيرها مما في الجنة، دعته نفسه أن يبني مثلها في الدنيا عتواً على الله عز وجل فأصر على ابتنائها، ووضع مائة ملك تحت يد كل ملك ألف قهرمان. ثم قال: انطلقوا إلى أطيب فلاة في الأرض وأوسعها فابنوا لي مدينة من ذهب وفضة وزبرجد وياقوت ولؤلؤ، واجعلوا تحت عقود تلك المدينة أعمدة من زبرجد وأعاليها قصوراً وفوق القصور غرفاً مبنية من الذهب والفضة، واغرسوا تحت تلك القصور في أزقتها وشوارعها أصناف الأشجار المختلفة والثمار وأجروا تحتها الأنهار في قنوات من الذهب والفضة النضار، فإني أسمع في الكتب القديمة والأسفار صفة الجنة في الآخرة والعقبى وأنا أحب أن أجعل لي مثلها في الدنيا. فقالوا بأجمعهم: كيف نقدر على ما وصفت؟ وكيف لنا بالزبرجد والياقوت الذي ذكرت؟ فقال لهم، ألستم تعلمون أن ملك الدنيا كلها لي وبيدي وكل من فيها طوع أمري؟ قالوا: نعم، نعلم ذلك، قال: فانطلقوا إلى معادن الزبرجد والياقوت واللؤلؤ والفضة والذهب فاستخرجوها واحتفروا ما بها ولا تبقوا مجهوداً في ذلك، ومع ذلك فخذوا ما في أيدي العالم من أصناف ذلك ولا تبقوا ولا تذروا واحذروا وأنذروا.
(1/156)
وكتب كتبه إلى كل ملك في الدنيا وجهاتها وأقطارها يأمرهم فيها أن يجمعوا ما في بلادهم من أصناف ما ذكر، وأن يحتفروا معادنها ويستخرجوها من التراب والصخور والمعادن والأحجار وقعور البحار، فجمعوا ذلك في عشر سنين وكان عدد الملوك المبتلين بجمع ذلك ثلثمائة وستين ملكاً وخرج المهندسون والفعلة والحكماء والصناع من سائر البلاد والبقاع والبراري، وتبددوا في البراري والقفار والجهات والأقطار حتى وقفوا على صحراء عظيمة فيحاء نقية خالية من الآكام والجبال والأودية والتلال، وإذا بها عيون مطردة وأنهار متجعدة، فقالوا: هذه صفة الأرض التي أمرنا بها ونبذنا إليها. فاختطوا بفنائها بقدر ما أمرهم به شداد ملك الأرض من الطول والعرض، وأجروا فيها قنوات الأنهار ووضعوا أساسات على المقدار، وأرسلت إليهم ملوك الأقطار بالجواهر والأحجار واللؤلؤ الكبار والعقيان النضار على الجمال في البراري والقفار وفي البحر أوسقوا بها السفن الكبار ووصل إليها من تلك الأصناف ما لا يوصف ولا يعد ولا يحصى ولا يكيف.
فأقاموا في عمل ذلك ثلثمائة سنة جداً من غير تعطيل أبداً؛ وكان شداد قد عمر في العمر تسعمائة سنة. فلما فرغوا من عمل ذلك أتوه وأخبروه بالإتمام، فقال لهم شداد انطلقوا فاجعلوا عليها حصناً منيعاً شاهقاً رفيعاً واجعلوا حول الحصن قصوراً، عند كل قصر ألف غلام ليكون في كل قصر منها وزير من وزرائي.
فمضوا وفعلوا ذلك في عشر سنين ثم حضروا بين يدي شداد وأخبروه بحصول القصد والمراد فأمر وزراءه وهم ألف وزير، وأمر خاصته ومن يثق بهم من
(1/157)
الجنود وغيرهم، أن يستعدوا للرحلة ويتهيئوا للنقلة إلى إرم ذات العماد تحت ركاب ملك الدنيا شداد، وأمر من أراد من نسائه وحرمه وجواريه وخدمه أن يأخذوا في الجهاد. فأقاموا في أخذ الأهبة لذلك عشرين سنة. ثم سار شداد بمن معه من الأحشاد مسروراً ببلوغ المراد حتى إذا بقي بينه وبين إرم ذات العماد مرحلة واحدة أرسل الله عليه وعلى من معه من الأمة الكافرة الجاحدة صيحةً من سماء قدرته، فأهلكتهم جميعاً بسوط عظمته وسطوته. ولم يدخل شداد ومن معه إليها ولا رأوها ولا أشرفوا عليها. ومحا الله آثار طرقها ومحجتها، فهي مكانها حتى الساعة على هيئتها.
فتعجب معاوية من إخبار كعب بهذا الخبر، وقال: هل يصل إلى تلك المدينة أحد من البشر؟ فقال: نعم، رجل من أصحاب محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وهو بصفة هذا الرجل الجالس بلا شك ولا إبهام.
وروى الشعبي عن علماء حمير من اليمن أنه لما هلك شداد ومن معه من الصيحة، ملك بعده ابنه شداد الأصغر، وكان أبوه شداد الأكبر استخلفه على ملكه بأرض حضرموت وسبأ، فأمر بحمل أبيه من تلك المفازة إلى حضرموت، وأمر فحفرت له حفيرة في مفازة فاستودعه فيها على سرير من ذهب، وألقى سبعين حلة منسوجة بقضبان الذهب ووضع عند رأسه لوحاً عظيماً من ذهب، وكتب فيه هذا الشعر:
اعتبر بي أيها المغ ... رور بالعمر المديد
(1/158)
أنا شدّاد بن عاد ... صاحب الحصن العميد
وأخو القوّة والقد ... رة والملك الحشيد
دان أهل الأرض لي من ... خوف قهري ووعيدي
وملكت الشرق والغر ... ب بسلطانٍ شديد
وبفضل الملك والعدّ ... ة أيضاً والعديد
فأتى هودٌ وكنّا ... في ضلال قبل هود
فدعانا لو قبلنا ... منه للأمر السديد
فعصيناه ونادينا ... ألا هل من محيد
فأتتنا صيحة تد ... وي من الأفق البعيد
فترامينا كزرعٍ ... وسط بيداء حصيد
قال الثعلبي: ولقد وقع على هذه المفازة أيضاً رجل من حضرموت يقال له بسطام، ومعه رجل آخر ذكراً أنهما دخلا هذه المفازة فوجدا في صدرها درجاً فنزلا فيه فإذا هي مقدار مائة درجة، كل درجة قامة، وأسفلها أزج معقود في الجبل طوله مائة ذراع وعرضه أربعون ذراعاً وارتفاعه مائة ذراع، وفي صدر الأزج سرير من ذهب وعليه رجل عظيم الجسد قد أخذ طول السرير وعرضه، وعليه الحلى والحلل المنسوجة بقضبان الذهب والفضة، وعلى رأسه لوح من ذهب وعليه كتابة فأخذا ذلك اللوح وحملا ما أطاقا من قضبان الذهب ونظرا إلى طاقة في أسفل الأزج يدخل منها ضوء، فقصداها وخرجا منها فإذا هما على ساحل البحر، فقعدا هناك إلى أن عبر بهما مركب فأشارا إليه ولوحا لأهله، فأتوا إليهما وسألوهما عن أمرهما فأخبرا بالحال، فحملوهما حتى قربوا من أرضهما، فوصلا وأخبرا بما اتفق لهما فتعجبوا منه.
(1/159)



عمان: وأرضها مجاورة لأرض الشمال، وهي أرض عامرة كثيرة الخلائق والبساتين والفواكه، إلا أنها بلاد حارة جداً. وببلاد عمان حية تسمى العربد، وتسمى الكرام، تنفخ ولا تؤذي، فإذا أُخذت وجعلت في إناء وثيق، وأُوثقت رأس ذلك الإناء وسد سداً محكماً، ووضعت في إناء آخر ثان، وأخرجت من بلاد عمان، عدمت من الإناء ولا توجد فيه ولا يعرف كيف ذهبت. وهذا من أعجب العجب. وبهذه الأرض دويبه صغيرة تسمى القراد، إذا عضت الإنسان انتفخ مكانها ودود، ولا يزال الدود يسعى في باطن الإنسان المعضوض حتى يموت. وبجبال أرض عمان قرود كثيرة تضر بأهلها ضرراً كثيراً وربما لا تندفع في بعض الأوقات إلا بالسلاح والعدد الكثيرة لكثرتها؛ وفي أرض عمان مغاص اللؤلؤ الجيد؛ وفي بحر عمان جزيرة قيس طولها اثنا عشر ميلاً في مثلها. وصاحب هذه الجزيرة تصل مراكبه إلى بلاد الهند ويغزوهم في غالب الأوقات ويغير على كفار الهند.

ويحكى أن عنده في الجزيرة المذكورة على مرسى البحر من المراكب التي تسمى السفينات مائتي مركب، وهذه المراكب من عجائب الدنيا وليس على وجه الأرض ومتن البحور مثلها أبداً؛ وهي أن المركب الواحد منها منحوت من خشبة واحدة؛ قطعة واحدة، والمركب الواحد منها يسع مائة رجل وخمسين، وبهذه الجزيرة دواب ومواشي وأشجار وفواكه.


(1/160)


اليمامة: هي بلاد طسم وجديس، وهي بلاد الزرقاء المعروفة بزرقاء اليمامة وأخبارها مشهورة منها: أن طسما وجديسا كانا ابني عم وهم العرب العاربة. وكان الملك في طسم اسمه عمليق، وكان جباراً ظالماً طاغياً، بلغ من طغيانه وتجبره أنه ألزم جديسا أن لا تزف بكر من بناتها إلى بعلها حتى يأتوا بها ليلاً أو نهاراً ووقت زفافها إلى عمليق حتى يفترعها ويأخذ بكارتها ثم يمضوا بها إلى زوجها العريس، وفي صبيحة زفافها يعملون وليمة لعمليق ولأصحابه من طسم. فمكث زماناً على هذا الحال وكان من أكابر جديس رجل يقال له الأسود، وله أخت حسناء مبدعة تدعى سعاد وكانت بكراً، فزوجت برجل من أولاد عمها: فلما حضرت ليلة زفافها ذهبوا بها إلى عمليق فافترعها على العادة ثم خرجت من عنده ودمها ظاهر على أثوابها؛ فنظرت فإذا أكابر جديس وأعيان قومها وأخوها الأسود جلوس في ناحية


(1/161)


من الحي يتشاورون في أمر الوليمة للملك في صبيحة تلك الليلة؛ فما أحسوا بها إلا وهي في وسطهم ثم مزقت أثوابها من طوقها إلى أذيالها وكشفت عن بطنها وفرجها، وأظهرت دمها ونظرت يميناً وشمالاً وقالت:

لا أحدٌ أذلّ من جديس ... أهكذا يفعل بالعروس

يرضى بذا يا قوم بعلٌ حرّ ... من بعد ما ساق وسيق المهر

يقبضه الموت إذاً بنفسه ... حتفا ولا يصنع ذا بعرسه

فقام الأسود أخوها ورمى بثوبه عليها وسترها وبكى وأمر بردها إلى بيتها، فلم تفعل، وقالت وهي تحرض على قتل عمليق والقوم يسمعون:

أترضون ما يعزى إلى فتياتكم ... وأنتم رجال فيكم عدد النّمل

وتمشي سعاد في الدماء غريقة ... جهاراً وقد زفّت عروساً إلى بعل

فلو أننا كنا رجالاً وكنتم ... نساءً لكنا لا نقرّ بذا الفعل

وإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه ... فكونوا نساءً لا تعدّمن الفحل

ودونكم طيب العروس فإنما ... خلقتم لأثواب العروس وللذل

فبعداً وسحقاً للذي ليس ينتخي ... ويختال يمشي بيننا مشية الرجل

قال فأخرجوها من بينهم ودبت في رؤوس القوم خمرة النخوة والمروءة فقاموا جميعاً إلى مكان آخر، فابتدأ الأسود أخو سعاد وقال: يا إخوتاه ويا بني عماه، قد رأيتم ماذا يصنع ببناتكم وقد اتفق لأختي ما اتفق لمن تقدمها فما الرأي؟ قالوا: ما ترى، فقال الأسود لو اجتمع رأيكم على واحد من بينكم وليتموه أمركم لا نكشف عنكم العار وانتصفتم من الأغيار، قالوا جميعاً: أنت ذلك الواحد فلا مخالف ولا معاند، وتحالفوا، فقال ائتوني بالغنم والبقر والإبل وانحروا وأكثروا من الذبح


(1/162)


وأوقدوا النيران وعلقوا القدور وأشغلوا النساء بالطبخ ثم ائتوني بسيوفكم تحت ثيابكم. ففعلوا فمضى بهم إلى المكان المعروف بالضيافة وكل أراضيهم رمال.

وكان من عادة عمليق أن كل بكر يفترعها يقف وليها خلف ظهره وهو جالس على السماط في مكان الضيافة لتعلم طسم كلها من هو ولي العروس وتتحققه مبالغة في إهانته.

قال: فدفن الأسود سيفه في الرمل خلف مجلس عمليق وقال لقومه من جديس هكذا فافعلوا، فإذا جلس الملك وقفت خلفه وسيفي تحت قدمي، فإذا اشتغل بالأكل وأخذت سيفي وضربت عنق عمليق يفعل كل منكم بمن هو فوق رأسه كما فعلت، فلا يفلت أحد من القوم. فقالوا. سمعاً وطاعة.

فأصبح عمليق سكران، وكذا أعيان قومه وأنى إلى مكان الضيافة في أعظم زينة وهم مسرورون منشرحون. فلما أخذوا مجالسهم قدموا الضيافة فرأى عمليق ما لم يره من كثرة الضيافة، فشكر الأسود وبش له. فقال واحد من قوم عمليق حين مد يده إلى الأكل: رب أكلة تمنع أكلات. فما استتم كلامه حتى قتل عمليق، وكل من كان معه جالساً على الأكل وحضر الضيافة، قتلةً واحدة وامتلأت الجفان والمناسف بدماء القتلى. وقد قيل: إنه قتل في تلك الساعة من طسم ما يزيد عن ثمانين ألفاً، وما بقي من طسم رجل إلا من غاب عن الوليمة. ووضعت جديس سيوفها فيمن بقي من الرجال ونهبت وسبت وفتكت في طسم فتكاً ذريعاً وهربت شرذمة من طسم إلى حسان بن تبع ملك حمير باليمن فاستغاثت به فأغاثها.

وتوجه حسان بعساكره


(1/163)


قاصداً لجديس وإعانةً لطسم، وكانت امرأة اسمها الزرقاء التي تقدم ذكرها تنظر الراكب مسيرة ثلاثة أميال. فلما كان حسان في أثناء الطريق وهو سائر بعساكره قال رجل من طسم لحسان: أيها الملك أدام الله سعدك إن امرأة من جديس اسمها الزرقاء تنظر الراكب من مسيرة ثلاثة أميال فربما تنظر عساكر الملك وتخبر قومها بذلك فيكيدوا لك كيداً عظيماً. فقال حسان: وما الرأي عندك؟ فقال: الرأي أن تقطع الأشجار فيأخذ كل راكب أمامه شجرة، فإذا رأت الزرقاء تقول لقومها: إن أشجاراً تسير إليكم على الخيل والنجائب فيكذبونها ويهملون أمرها، فتصبحهم وتبلغ الغرض.

فاقتلعوا الأشجار وحمل كل واحد أمامه شجرة وساقوا سوقاً حثيثاً فرأتهم الزرقاء فقالت لقومها: إني لأرى الشجر يسير إليكم سيراً سريعاً، وإني لأرى رجلاً من وراء شجرة يخصف نعلاً وآخر يشرب ماء وآخر ينهش كتفاً. فكذبوها فصبحهم حسان بعساكره وجموعه فأبادهم قتلاً وسبياً. وهرب الأسود فنزل على طيئ فأجاروه، وجيء بزرقاء اليمامة إلى حسان فأمر ينزع عينيها فإذا فيهما عروق سود مملوءة من الأثمد الجيد الخالص.


(1/164)


وأما السند: فهو إقليم عظيم مجاور للبحرين غربي الهند، وهو قسمان، قسم على جانب البحر. ويقال لتلك البلاد بلاد اللان، والمسلمون غالبون على هذا القسم. ومن مدنه المشهورة المنصورة وهي مدينة طولها ميل في ميل، وبها خلق كثير وتجار كثيرون والأرزاق بها دارة ووزن درهمهم خمسة دراهم وليس بها إلا النخل والقصب وتفاح شديد الحموضة. وهي مدينة حارة جداً وسميت هذه المدينة بالمنصورة لأن أبا جعفر المنصور الخليفة من بني العباس بنى أربع مدن على


(1/165)


أربع طوالع يقال إنهم لا يخربون أبداً إلا بخراب الدنيا إحداهن المنصورة هذه، وبغداد بالعراق، والمصيصة على بحر الشام، والرافقة بأرض الجزيرة.

والموليان: ويقال لها المليان وهي مجاورة لبلاد الهند وهي على قدر المنصورة وتسمى فرح بيت الذهب لأن محمد بن يوسف الحجاج وجد بها في بيت واحد أربعين بهاراً من الذهب، والبهار ثلثمائة وثلاثون مناً. وبها صنم كبير تعظمه أهل الهند والسند ومن في أراضيهم، ويحجون إليه ويتصدقون عليه بأموال جمة وحلي وجواهر وله خدم. ويزعمون أن لهذا الصنم مائتي ألف سنة يعبد، وعيناه جوهرتان لا قيمة لهما، وعلى بابه إكليل من ذهب مرصع بأنواع الجواهر الفاخرة.

أرض الهند: أرض واسعة عظيمة في البر والبحر والجنوب والشمال، وملكهم يتصل بملك الزنج في البحر وهي مملكة المهراج، ومن عادة أهل الهند أنهم


(1/166)


لا يملكون عليهم ملكاً حتى يبلغ أربعين سنة، ولا يكاد الملك عندهم يظهر للناس أبداً إلا نادراً في السنة.

وللهند ممالك كثيرة، فمنها مملكة المناكير واللادوت، ومملكة الفتوح، وهي مملكة عظيمة واسعة، ولأهلها أصنام يتوارثونها خلفاً عن سلف، ويزعمون أن لها مائتي ألف سنة تعبد، وملكها عظيم الملك كثير الجنود كثير الفيلة، وليس عند ملك من ملوك الأرض ما عنده من الفيلة، ويقال إن على مربطه ألف فيل، منها مائة فيل بيض كالقرطاس، ومنها ما ارتفاعه خمسة وعشرون شبراً. وقيل مات له فيل فوزن نابه الواحد فكان أربعين مناً.

ومن ممالك الهند مملكة قمار: وهي مملكة عظيمة واسعة، وإليها ينسب العود القماري. ومنها مملكة صيمور: ولها ممالك غير ما ذكر نحو اثنتي عشرة مملكة.

تمت الجهة الجنوبية ولنشرع الآن إن شاء الله تعالى في ذكر الجهة الشمالية وبلادها من المشرق إلى المغرب.

فأول بلاد هذه الجهة من المغرب الأقصى أرض الفرنج: وهي أمم عظيمة كثيرة لا تحصى، وهم غالبون على معظم جزائر الأندلس، ولهم في بحر الروم جزائر عظيمة


(1/167)


مشهورة مثل جزيرة صقلية وقبرص وجزيرة أقريطش وجزيرة كشميلي وجزيرة الخضراء وعدة جزائر، وغيرها.

فأما صقلية: فهي فريدة الزمان وأجمع المسافرون على تفضيلها وحسنها وعظم ملوكها وضخامة دولها. وفي هذه الجزيرة مائة وثلاثون مدينة أمهات قواعد خارجة عن القرى والضياع والرساتيق. فمن مدنها المشهورة يلزم وهي مدينتها العظمى وكرسي السلاطين وموطن الجيوش، وهي على ساحل البحر من الجانب الغربي وهي مدينة حسنة المباني بديعة الإتقان، وهي على قسمين قصور وربض، وهي على ثلاث قصبات: فالقصبة الوسطى تشتمل على قصور رفيعة ومنازل شامخة ومعابد وفنادق وحمامات، والقصبتان الأخريان قصور سامية وأبنية عالية وأسواق، وبها الجامع الأعظم الذي فيه من بدائع الصنعة المتقنة ومن أصناف التصاوير وأنواع التزاويق ما يعجز عن وصفه كل لسان، وليس بعد جامع قرطبة أحسن منه.

وأما الربض: فهو مدينة أخرى محدقة بالمدينة من جميع جهاتها. وبه المدينة القديمة المسماة بالخاصة التي كانت سكنى السلطان. والمياه بجميع جهات صقلية مخترقة والعيون بها متدفقة، وبها بساتين وجنات وفرج ومتنزهات وخارج الربض نهر عباس، وهو نهر عظيم وعليه أرحية كثيرة. ومن مدنها مدينة مسينا وهي مدينة عظيمة وبجبلها معدن عظيم للحديد يحمل منه إلى سائر البلاد.

ومنها أرض


(1/168)


طبرمين: وهي مدينة عظيمة ذات قصور منارة؛ وبساتين وفواكه، وبها جبل يسمى بطور الآيات. وبها معدن الذهب.

ومنها سر قوسة: وهي مدينة عظيمة يقصدها التجار من سائر الأقطار، والبحر محدق بها من جميع جهاتها. والدخول إليها والخروج منها على طريق واحدة.

ومنها نوطس: وهي من أرفع البلاد خصباً واسعة الديار عامرة الأقطار.

ومنها أرض طرلنس: وهي مدينة أهلية والبحر محيط بها من جميع جهاتها، ويوصل إليها على قنطرة، وبها أسماك يعجز الواصف عنها. وببحرها يصاد المرجان، وهو نبت في أرض هذا البحر كالشجر، وبها قنطرة عجيبة طولها ثلاثمائة ذراع في عرض عشرين ذراعاً.

جزيرة قبرص: وهي جزيرة كبيرة مقدار ستة عشر يوماً، بها مدن كثيرة وقرى عامرة ومزارع وأنهار وأشجار وثمار؛ وبها معادن الزاج القبرصي الذي ليس في البلاد مثله شيء، وبها من المواشي ما يكفي بلاد الفرنج.

ومن مدن الفرنج


(1/169)


المشهورة افرنسة: وهي مدينة عظيمة مجاورة لجزيرة الأندلس، وهي للفرنج كرومية للروم، كرسي ملكهم ومجتمع أمرهم وبيت ديانتهم، وبها أمم عظيمة لا تحصى كثرة.

أرض الجلالقة: وهي شمالي الأندلس؛ وهي أرض واسعة؛ وبها أمم لا تحصى كثرةً، ومدن عظيمة وقرى عامرة. والغالب على أهلها الجهل والحمق. ومن زيهم أنهم لا يغسلون ثيابهم أبداً بل يلبسونها وسخة إلى أن تبلى؛ ويدخل أحدهم بيت الآخر بغير إذنه، وهم مهملون في أديانهم كالبهائم بل أضل.

أرض الباشقرد: وهي بلاد الألمان وبلاد الإفرنجة؛ وهي أرض كبيرة واسعة وبها مدن.

أرض الكرج: وهي مجاورة لأرض خلاط، آخذها إلى الخليج القسطنطيني، ممتدة إلى نحو الشمال وهي أرض واسعة، وبها مدن عظيمة وبلاد كثيرة


(1/170)


وجبال شاهقة وقلاع منيعة وأرضهم في غاية الخصب والبركة؛ وبيت الملك عندهم محفوظ يرثه الرجال والنساء.

أرض الروم: وهو إقليم واسع الأقطار فسيح الديار، وبه مدن عامرة وضياع ورساتيق وأشجار وفواكه وثمار؛ وبه الخير الغامر والخصب الوافر؛ وكلها على جانبي البحر القسطنطيني ومن جهة بلاد الأرمن، له أحد عشر عملاً، منها عمل حربية وفيه خمسة حصون، وعمل العصاة وفيه ثلاثة حصون، وعمل الأرسيق وفيه خمسة عشر حصناً، وعمل الأفشين وفيه أربعة حصون وعمل حرسنون وفيه أربعون حصناً، وعمل البلقان وفيه ستة عشر حصناً. وهذه الأرض كانت في القديم بلاد اليونان فغلبت الروم عليها؛ ومن جملة أعمالها عمل كرميان وفيه عشرة حصون، وعمل الفنادق وفيه ثمانية عشر حصناً.

وببلاد الروم أيضاً مائة جزيرة كلها في البحر، وكلها عامرة آهلة. ومن مدن الروم المشهورة قسطنطينية وهي مثلثة الشكل، منها جانبان في البحر وجانب في البر وفيه باب الذهب. وطول هذه المدينة تسعة أميال وعليها سور حصين ارتفاعه واحد وعشرون ذراعاً، ويحيط به سور آخر يسمى الفصيل، ارتفاعه عشرة أذرع، لها مائة باب أكبرها الباب المصمت وهو مموه بالذهب، وبها القصر وهو من عجائب الدنيا وذلك أن فيه بديرون وهو كالدهليز إلى القصر، وهو زقاق يمشى فيه بين صفين من صور مفرغة من نحاس بديع الصنعة على صور الآدميين والخيل والفيلة والسباع وغير ذلك، وهي أكبر من الأشكال الموضوعة على أمثالها. وبالقصر وما دار به ضروب من العجائب.


(1/171)


وفي المدينة منارة موثقة بالحديد والرصاص إذا هبت الريح مالت يميناً وشمالاً وخلفاً وأماماً من أصلها، ويوضع الخزف تحتها فتطحنه كالهباء. وفيها أيضاً منارة من نحاس قد قلبت قطعة واحدة وليس لها باب، وبها أيضاً منارة قريبة من مارستانها قد ألبست جميعها من نحاس أصفر كالذهب محكم الصنعة والتخريم، وعليها قصر قسطنطين باني القسطنطينية، على قبره صورة فرس من نحاس، وعلى الفرس شخص على صورة قسطنطين وهو راكب وقوائم الفرس محكمة بالرصاص ما عدا يده اليمنى فهي موقوفة في الجو؛ وقد فتح كفه يشير نحو بلاد المسلمين، ويده اليسرى فيها كرة. وهذه المنارة ترى على مسيرة يوم في البحر، ونصف يوم في البر. ويقولون إن في يده طلسماً يمنع العدو. وقيل إن على الكرة مكتوباً بالرومي: ملكت الدنيا حتى بقيت في يدي مثل هذه الكرة، وخرجت منها هكذا لا أملك منها شيئاً؛ وبها منارة في سوق استبرين من الرخام الأبيض من رأسها إلى أسفلها صور مبنية ودار يزينها قطعة واحدة من النحاس، وبها طلسم إذا طلع الإنسان عليها نظر. إلى سائر المدينة، وبها قنطرة وهي من عجائب الدنيا سعتها يعجز الواصف عن ذكرها حتى يخرج الواصف إلى حد التكذيب، وبها من النقوش ما لا يحده وصف.


(1/172)


رومية الكبرى: مدينة عظيمة، دورها أيضاً تسعة أميال كالقسطنطينية، ولها أسوار محكمة. لها سوران منيعان من حجر، عرض كل سور منهما وسمكه مقدار معين، فأحدهما وهو الداخلي المحيط بالمدينة عرضه أحد عشر ذراعاً وارتفاعه اثنان وسبعون ذراعاً. وهناك أسطوانات من نحاس أصفر وقواعدها ورؤوسها مفرغ منها. وبها نهر يشقها، وهذا النهر كله مفروش ببلاط من نحاس كهيئة اللبن الكبار. وداخل المدينة كنيسة عظيمة طولها ثلاثمائة ذراع وارتفاعها ثلاثمائة ذراع وأركانها من نحاس مفرغ مغطى كلها بالنحاس الأصفر؛ وبرومية ألف ومائة كنيسة وجميع شوارعها وأسواقها مفروشة بالرخام الأبيض والأزرق، وبها ألف حمام وألف فندق، وبها كنيسة هائلة بنيت على هيئة بيت المقدس وبها مذبح، ظهره كله مرصع بالزمرد الأخضر؛ وعلى هذا المذبح تمثال من الذهب الإبريز طوله ذراع بالرشاشي يكون سبعة أذرع ونصف ذراع بذراعنا المعهود، وعيناه من ياقوت أحمر. ولهذه الكنيسة مائة باب، منها أبواب عشرة مصفحة بالذهب وباقيها مصفحة بالنحاس المحكم. وبها قصر الملك المسمى البابا، وهو قصر عظيم أجمع المسافرون على أنه لم يبن مثله على وجه الأرض؛ ورومية أكبر من أن يحاط بوصفها ومحاسنها ولها مدن قواعد مشهورة منها قشمير: وهي مدينة كبيرة تشبه رومية في الحسن والبنيان، ويقال إنها مدينة أهل الكهف.


(1/173)


وأما أصحاب أهل الكهف: فهم في كهف في رستاق بين عمورية ونيقية، وهم في جبل عال علوه نحو ألف ذراع، وله سرب من وجه الأرض كالمدرج يتعدى إلى الموضع الذي هم فيه. وفي أعلى الجبل كهف يشبه البئر ينزل منه إلى باب السرب ويمشى مقدار ثلاثمائة خطوة، ثم يفضى إلى ضوء هناك فيه رواق على أساطين منقورة فيها عدة بيوت، منها بيت مرتفع العتبة مقدار قامة، وعليه باب من حجر، وفيه أصحاب الكهف وهم سبعة نيام على جنوبهم، وأجسامهم مطلية بالصبر والكافور، وعند أرجلهم كلب راقد مستدير، رأسه عند ذنبه، ولم يبق منه إلا رأسه وعجزه. وفقار الظهور، ووهم أهل الأندلس في أصحاب الكهف حيث زعموا أنهم الشهداء الذين في مدينة لوشة، قال بعض الثقات: لقد رأيت القوم وكلبهم في هذا الكهف بين عمورية ونيقية سنة عشر وخمسمائة.


(1/174)


القرم: مدينة عظيمة بها أسواق ومساجد وفنادق وحمامات، وهي فرضة مملكة الترك وما حولها، وبها اللحم والسمك والعسل واللبن كثير جداً، وبيوتها غالباً خشب.

وأما ما على البحر النيطشي من بلاد الروم فمدن عظيمة مثل أطرابدية وخزية، وقابية وقمانية السوداء، وسميت بذلك لأن لها نهراً يدخل في شعب جبل وماؤه أبيض كالزلال ويخرج منه أسود كالدخان، وقمانية البيضاء وتسمى مطلوقة وماطر خاروسية وأردبيس وفلبسين، وكلها مدن عظام قواعد بلاد الروم، وبين أردبيس وحصن زيادة شجرة عظيمة لا يعرف أحد ما هي وما اسمها؟ ولها حمل يشبه اللوز ويؤكل بقشره وهو أحلى من العسل.

أرض الصقالبة: وهي أرض كبيرة واسعة من ناحية الشمال وبها مدن وقرى ومزارع، ولهم بحر حلو يجري من ناحية المغرب إلى المشرق، ونهر آخر يجري من


(1/175)


ناحية البلغار ليس لهم بحر ملح لأن بلادهم بعيدة عن الشمس، ولهم على البحر مدن وبلاد وقلاع منيعة.

أرض الجنوبة: وهي أرض واسعة، وبها مدن وبلادهم غربي قسطنطينية على بحر الروم. ومن مدنهم المشهورة جنوة وهي مدينة حصينة ذات أسوار.

أرض البنادقة: وهي إقليم عظيم ومدينتهم العظمى تسمى بندقية وهي على خليج يخرج من بحر الروم ويمتد نحو سبعمائة ميل في جهة الشمال، وهي قريبة من جنوة بينها وبين جنوة في البر ثمانية أيام، وأما في البحر فبينهما أما بعيد أكثر من شهرين، والبندقية مقر خليفتهم واسمه البابا وهي شمال الأندلس. ومدنهم كلها على جانبي الخليج البندقي، وهي مدن وقرى عامرة ورساتيق.

أرض برجان: وهي أرض عظيمة واسعة، وبها من البرجان أمم لا تحصى، وهي أمة طاغية قاسية وبلادهم واغلة في الشمال.


(1/176)


الباب والأبواب: وهي شمالي أرض الفرس: أما الباب: فبناها أنوشروان على بحر الخزر، وبها بساتين وفواكه، وبها مرسى الخزر وغيره، وعليها سلسلة تمنع الداخل والخارج.

وأما الأبواب: فهي شعاب في جبل القبق، واسم هذا الجبل في كتب التواريخ القديمة جبل الفتح، وفيها حصون كثيرة، منها باب صول وباب اللان، وباب السابران، وباب الأزقة وباب سجسجي، وباب صاحب السرير، وباب قيلان شاه، وباب كوريان، وباب إيران شاه، وباب ليان شاه، وجبل الفتح هذا المذكور هو جبل عظيم شامخ. وزعم أبو الحسن المسعودي أن فيه ثلاثمائة بلد، كل بلد له لسان لا يشبه الآخر.

قال الجواليقي: وكنت أنكره حتى تحققته، وهذا الجبل فيه كثير من الممالك فمنها: مملكة شروان شاه، وهي ملكة واسعة لها إقليم ومدن وقرى وعمارات.

ومنها مملكة الكر: وهي مملكة واسعة ذات أقاليم ومدن وقرى وعمارات وأمم عظيمة جبارة كفار لا ينقادون لأحد، ومملكة لايذان شاه، ومملكة الموقانية، ومملكة الدودانية وأهلها أخبث العالم، ومملكة طبرستان، ومملكة حيدان، ومملكة عتيق، ومملكة زنكوان، ومملكة الجندخ، ويقال إن لهذه المملكة اثني عشر ألف قرية، ومملكة اللان ومملكة الأنجاز، ومملكة الخزرجية، ومملكة السخطا، وهم قوم جبارون لا ينقادون لأحد، ومملكة الصعاليك ومملكة كشك، ويقال إن أهل هذه المملكة ليس في الممالك أحسن من رجالهم ولا من نسائهم ولا أكمل محاسن ولا أجمل أوصافاً ولا أطيب خلوة ولا مضاجعة لنسائها، من الحسن والتيه والصلف واللذة الزائدة الوصف التي لم توجد في سائر نساء الدنيا، ويبلغ الرجل منهم المائة


(1/177)


وقوته في نفسه وفي مجامعته باقية، وإذا جامع الواحد منهم امرأة فإنه ينسى الدنيا وما فيها إلى أن ينفصل عن المجامعة، ونساؤها إذا بلغت المرأة خمسين سنة أو ستين أو سبعين فلا تتغير محاسنها عما كانت عليه وهي ابنة عشرين سنة، فسبحان الخالق البارئ المصور الفتاح الرزاق.

ومملكة السبع بلدان، ومملكة إرم، وفي هذا الجبل صحراء كالكهف نحو من مائة ميل بين جبال أربعة ذاهبة في الهواء. وفي وسط هذه الصحراء دائرة منقورة كأنها قد خطت ببيكار منحوتة من حجر صلد استدارتها خمسون ميلاً قطعها قائم كأنه حائط مبنى، بعد قعرها نحو من ستة أميال بالتقريب، لا سبيل إلى الوصول إلى مستوى تلك الدائرة، ويرى فيها بالليل نيران عظيمة في جهات مختلفة، ويرى بها أنهار مادة ولكن كرقة الأصابع، ويرى فيها بالنهار وقت الظهيرة أناس لطاف الأجسام جداً كالذباب، ويرى فيها دواب كالنمل، ولا يعلم من البشر هم أم من غيرهم، ولا يزال الضباب عليها والأبخرة تتصاعد منها. وعند الله علمها.

ومن وراء تلك الدائرة دائرة أخرى صغيرة قريبة العقر فيها آجام وغياض، وفيها نوع من القرود منتصبات القامات والقدود مدورات الوجوه كالآدميين، إلا أنهم ذوو شعور، وهم في غاية الفهم والذكاء، وإذا وقع القرد الواحد منهم لأحد من تلك الأرض حمله إلى من شاء من الملوك فيحصل له بواسطة ذلك الخير الكثير، لأن الملوك يرغبون في تلك القرود لخاصية فيها ويبذلون المال الكثير في القرد الواحد منها. فمن ذكائه وخاصيته أنه يقف على رأس الملك بالمذبة ليلاً ونهاراً ينش عليه ولا يضجر ولا يفتر، وإذا قدم إلى الملك طعام وضع منه في إناء وقدم إليه فإن تناوله القرد وأكله أكل الملك من ذلك الطعام وإن تناوله ورده ولم يأكل منه شيئاً علم الملك أن الطعام مسموم.


(1/178)


ويقال إن بين الخزر وبين بلاد المغرب أربع أمم من الترك يرجعون إلى أب واحد وهم ذوو بأس شديد وقوة، ولكل أمة منها ملك وهي: قحلى، ويجعود، ويحناك، وأبو جردد، ويقال إن الفرس لما فتحت تلك البلاد بنى قباذ مدينة البيلقان وبردغة وسد البر، وبنى أنوشروان وابنه مدينة السابران وكسكر والباب، والأبواب، وعمل على أبواب جبل القيق الذي يقال إنه جبل الفتح من خارجه ثلاثمائة وستين قصراً مما يلي أرض الخزر.

أرض الروس: وهي أرض واسعة الأقطار إلا أن العمارات بها منقطعة لا متصلة، وبين البلد والبلد مسافة بعيدة، وهم أمم عظيمة لا ينقادون لأحد من الملوك ولا لشريعة من الشرائع وعندهم معدن الذهب؛ ولا يدخل إليهم غريب إلا قتلوه في الوقت والحال: وأرضهم بين جبال محيطة بها وتخرج من هذه الجبال عيون كثيرة تقع كلها في بحيرة تعرف بطوهي وهي بحيرة كبيرة في وسطها جبل عال فيه وعول كثيرة وتبر كثير؛ ومن طرفها يخرج نهر ديانوس.

وغربي أرض الروس جزيرة دار موشة؛ وفي هذه الجزيرة أشجار أزلية كثيرة منها أشجار إذا دار حول ساقها عشرون رجلاً ومدوا باعاتهم على ساق الشجرة


(1/179)


الواحدة فلا يحرشوا بها. وأهلها يوقدون النار في بيوتهم نهاراً لبعد الشمس عنهم وقلة الضوء. وبهذه الجزيرة قوم مستوحشون يعرفون بالبراري رؤوسهم لاصقة بأكتافهم ولا أعناق لهم، ودأبهم ينحتون الأشجار الكبار، ويتخذون أجوافها بيوتاً يأوون إليها، وأكلهم البلوط. وبها من الحيوان المسمى بالببر شيء كثير، وهو حيوان غريب الوصف ولا يوجد ولا يعيش إلا في تلك الأمكنة.

والروس ثلاث طوائف طائفة تسمى كركيان ومدينتهم تسمى كركانية؛ وطائفة تسمى أطلاوة ومدينتهم تسمى طلو؛ وطائفة تسمى أرتى ومدينتهم تسمى أرتى.

أرض التركش: وهي طويلة عريضة متاخمة لسد يأجوج ومأجوج، ويجلب من جهتها السنجاب الفاخر، والسمور والحرير والمسك وجلود النمر.

أرض الخزر: وهي أرض واسعة وبها أمم لا تحصى؛ ومن مدنها المشهورة سمندو وهي مدينة حسنة؛ وكانت في القديم مدينة عظيمة وكان بها من الكروم ما يخرج عن حد الوصف، فخربتها الروس. وآخر أعمالها أول أعمال صاحب السرير، وهي مدينة عظيمة وتسمى صاحب السرير؛ لأن صاحبها اتخذ سريراً من ذهب مرصعاً بالجواهر يقصر عنه الوصف صنع له في عشر سنين؛ فلما تغلبت الروم على بلده بقي السرير على حاله، وقيل إنه باق إلى الآن.

أثل: وهي مدينة كبيرة عامرة، وأكثر بيوتها خركاوات ولبود، وهي ثلاث قطع يقسمها نهر عظيم يرد من أعالي البلاد التركية ويسمى نهر أثل يتشعب من هذا النهر ثم يمر نحو بلاد التغزغز، ويصب في بحر نيطش وهو بحر الروس،


(1/180)


ويتشعب من هذا النهر نيف وسبعون نهراً، وليس من الملوك التي في تلك النواحي من عنده جند مرتزقة غير ملك الخزر.

برطاس: أرض طويلة مقدار خمسة عشر يوماً وهم متاخمون الخزر وبيوتهم خركاوات ولبود. ونهر برطاس يأتي من نحو بلاد التغزغز، وعليه مدن كثيرة وبلاد عامرة. ومن بلاد برطاس تحمل جلود الثعالب السود التي تسمى البرطاسي. قال المسعودي؛ تبلغ الفروة السوداء منها إلى مائة دينار. وفي أرض الخزر جبل يسمى باثرة وهو معترض من الجنوب إلى الشمال وفيه معادن الفضة السهلة المأخذ ومعادن الرصاص. وليس على بحر الخزر من الضفة الشرقية عمارة.

أرض البلغار: وهي واسعة ينتهي قصر النهار فيها عند البلغار والروس في الشتاء إلى ثلاث ساعات ونصف ساعة. قال الجواليقي: ولقد شهدت ذلك عندهم فكان طول النهار مقدار ما أصلي أربع صلوات، كل صلاة في عقيب الأخرى مع الأذان وركعات قلائل والإقامة والتسبيح. وعماراتها متصلة بعمارة الروم وهم أمم عظيمة ومدينتهم تسمى بلغار وهي مدينة عظيمة يخرج واصفها إلى حد التكذيب.

أرض الغزية: وهي غربي أرض الأدكش، وهي أرض واسعة متصلة العمائر من جهة الشمال والغرب والشرق ولهم جبال منيعة وعليها حصون حصينة، وينزل إليهم نهر من جبل مرغان، يوجد في هذا النهر إذا زاد التبر الكثير ويخرج من قعره


(1/181)


حجر اللازورد، وفي غياضه التبر الكثير. وبها ثعالب صفر لونها لون الذهب يتخذ منها فراء لملوك تلك الناحية، تبلغ الفروة منها جملة من المال، ولا يدعون أحداً يخرج بشيء منها إلى البلاد، ومن خرج بشيء من ذلك خفية استباحوا دمه وماله، كل ذلك بخلاً بها واستحساناً وافتخاراً بها.

أرض الأدكش: وأهلها صنف من الترك عراض الوجوه كبار الرؤوس صغار العيون كثيرو الشعور، وأرضهم عريضة طويلة واسعة كثيرة الخيرات والخصب، وهي شرقي الغزية، وبها من المواشي واللبن والعسل شيء لا يوصف، حتى إن الرجل يذبح الشاة ولا يجد من يأكلها، وأكثر أكلهم لحوم الخيل وشربهم ألبانها.

وجنوبها بحيرة تهامة وهي بحيرة عظيمة دورها مائتان وخمسون ميلاً وماؤها شديد الخضرة إلا أن ريحه ذكي وطعمه عذب جداً. وبها سمك عريض جداً إذا وقعت هذه السمكة في شبكة الصياد انتشر في الحال ذكره وقام على حيله وأنعظ إنعاظاً شديداً، ولا يزال كذلك حتى يخرج السمكة من شبكته، ولونها مرقش فيه من كل لون عجيب حسن. وتزعم الأتراك أن الشيخ الهرم إذا أكل من لحم هذه السمكة أمكنه أن يفتض الأبكار لقوة خاصية هذه السمكة.

وفي وسط هذه البحيرة أرض كالجزيرة وفي وسط الجزيرة بئر محفورة لا يحس لها قعر ولا منتهى، وليس بها شيء من الماء، وبهذه الجزيرة أنهار كثيرة كبار منها نمامة وهو نهر عميق وخروجه من ثلاث عيون دفاعة. وأهل تلك البلاد يقصدون هذا النهر بأولادهم يغمسونهم فيه قبل البلوغ والاحتلام فلا يصيبهم بعد ذلك من أمراض الدنيا شيء البتة، إلا ما جاء من قبل الموت. وإذا مرض عندهم أحد من هؤلاء المغموسين علموا أن موته في تلك المرضة، صح لهم ذلك في تجاربهم. وإذا سقي العليل من مائه برأ من علته، كائنةً ما كانت، بعد سبعة أيام من وقت شربه.


(1/182)


وإذا غسل الإنسان رأسه بالغاً كان أو غيره، لم يحصل لرأسه صداع في تلك السنة. وقد أكثروا الكلام في هذا النهر حتى إنهم قالوا أشياء يجب السكوت عنها، وقدرة الله عز وجل صالحة لكل شيء خارق.

وشرقي هذه البحيرة جبل مراد وهو جبل مرتفع لا يمكن الصعود إليه من حيث الظاهر بوجه من الوجوه لأنه كالحائط القائم الأملس، وفي أسفله باب كبير فيه بيت متسع يتوصل منه إلى جوف هذا الجبل فيه مدرج يصعد منه إلى أعلى الجبل حيث المدينة. وبوسط هذه المدينة عين نابعة يشربون منها ويفيض باقي مائها فيصب في حفيرة على سور المدينة، لا يعلم أين يذهب ولا أين يستقر.

وشمالي أرض الأدكش جبل مرغان وهو جبل طوله من المشرق إلى المغرب نحو من ثماني عشرة مرحلة، في وسطه موضع عال مستدير كالقبة، وفي وسطه بركة ماء لا يقدر أحد على العوم فيها، لا من انسان ولا من حيوان، لأن كل شيء نزل فيها ابتلعته، حتى إنهم رأوا فيها أخشاباً كباراً أو صغاراً تبتلعها في الحال. ويقال إن في تلك البركة أسفل الجبل مغارة يسمع فيها دوي عظيم هائل، يعلو دويه في وقت وينخفض في وقت، ومتى تقدم أحد إليها من انسان أو غيره لم ير بعد ذلك، يقال إنه يخرج منها ريح جاذبة للمعترض لها، فتأخذه إلى داخل المغارة. وقد حكى صاحب كتاب العجائب والغرائب عن هذه المغارة أشياء لا يمكن ذكرها ويجب السكوت عنها لعدم قبول العقل لها، ونشهد أن الله على كل شيء قدير.

أرض سحرت: وهي أرض واسعة، وبها جبل إرجيفا، وبها معادن النحاس يعمل فيها أكثر من ألف صانع لصاحب سحرت، ويعمل في هذه الأرض من الفخار والبرام شيء عجيب، وبساحل بحرها ألوان من الحجارة الملونة المثمنة.

أرض خزخيز: وهي متصلة بأرض التغزغز من المشرق شمالاً مما يلي البحر الصيني، وهي أرض واسعة كثيرة المياه وافرة


(1/183)


الخصب، بها نهر يجري إليهم من نحو الصين، وعليه أرحاء وبه أنواع السمك المسمى بالسطرون الذي يفعل في قوة الجماع ما لا يفعله السقنقور وليس له شوك.

وبقربها جزيرة الياقوت ويحيط بهذه الجزيرة جبل صعب المرتقى لا يوصل إلى ذروته إلا بجهد جهيد، ولا يوصل إلى أسفل الجزيرة أصلاً لأن بها حيات قتالة، وبأرضها حجارة الياقوت، وأهل تلك الأرض يتحيلون عليه بأن يذبحوا الدواب ويقطعوها وهي حارة ويلقوا بها في تلك الجزيرة، فتقع على الأحجار ويتعلق بها ما قسم، فيخطفها الطير ويخرج بها من الجزيرة فيتبعون محط الطير فيجدون ما يجدون. وهذه الأمة تحرق موتاها بالنار.

أرض الكيماكية: هي شمال أرض التغزغز، وهم أمم عظيمة وأرضهم عامرة كثيرة الخصب وبأرضهم مفاوز عظيمة ولهم قلعة حصينة وشربهم من الآبار المنقورة. وجميع ساحل الكيماكية يوجد فيه التبر عند هيجان البحر فيجمعونه ويصولونه من الزئبق ويسكبونه في أرواث البقر فيأخذ الملك حصة من ذلك والباقي لصاحبه. وأهل المدينة هذه المعروفة بكيماكية يلبسون الحرير الأصفر والأحمر ويعبدون الشمس، لا إله إلا الله محمد رسول الله.

أرض الخلخية: أرض واسعة ولها قلعة حصينة في رأس جبل شاهق، والماء قد عم ذلك الحصن مستديراً به من جميع جهاته وأهلها ذوو عدد وعدد.

أرض الخزلجية: شمالي بلاد التبت وغربي بلاد التغزغز وهي طويلة عريضة، وبها أمم عظيمة من الترك ومدينتهم العظمى تسمى خاقان الخزلجية وهي في غاية الحصانة ولها اثنا عشر باباً من الحديد الصيني.


(1/184)


الأرض المنتنة: وهي أرض ممتدة طولها عشرة أيام في عرض عشرة وهي خرساء الأطناب سوداء الإهاب، وأهلها جرد الثياب، وماؤها غائر ودليلها جائر ورائحتها منتنة وأهويتها وخمة، وهي غربي الأرض الخراب التي خربها يأجوج ومأجوج، وهي بلاد موحشة.

أرض الخراب: بلاد واسعة الأقطار خالية الديار لا يدخلها سالك، ومن دخلها وقع في المهالك لكثرة وبائها ووحشة أرضها وتغير هوائها وكثرة الأمطار وعدم الساكن والسالك ووجود الأخطار. وقيل إنها في هذا الوقت قد عمرت.

أرض يأجوج ومأجوج: والجبل الذي يحيط بهم يسمى فزنان وهو جبل قائم الجنبات لا يصعد عليه أحد وبه ثلوج منعقدة لا تنحل عنه أبداً، وبأعلاه ضباب لا يزول أبداً، وهو ماد من بحر الظلمات إلى آخر المعمورة لا يقدر أحد صعوده، وخلق هذا الجبل من بلاد يأجوج ومأجوج عدد لا يحصى. وفي هذا الجبل حيات وأفاع عظام جداً، وربما رقي هذا الجبل في النادر من يريد أن ينظر إلى ما وراءه فلا يصل إليه ولا يمكنه الرجوع فيهلك، وربما رجع من الألف واحد فيخبر أنه رأى خلف الجبل نيراناً عظيمة.

يقال إن يأجوج ومأجوج كانا أخوين شقيقين تناسلا وكانت لهم غارات على من جاورهم قبل وصول ذي القرنين إليهم، فأخلوا كثيراً من البلاد وأهلكوا غزيراً من العباد، وكانت منهم طائفة عفيفة ينكرون ذلك عليهم، فلما وصل ذو القرنين إليهم وأغار بجيوشه عليهم شكت الطائفة العفيفة إليه يأجوج ومأجوج وما فعلوه في البلاد والأمم المجاورة لهم من الفساد وأنهم على خلاف مذهبهم وبريئون من معتقدهم ومفتعلهم، وشهدت لهم قبائل كثيرة بذلك، فمال إليهم وتركهم خارج السد، وأقطعهم تلك الأراضي يعمرونها ويأكلونها، وهم الخزلجية والسنية


(1/185)


والخزخيزية والتغزغزية والكيماكية والجاجانية والأدكش والتركش والخفشاخ والجليخ والغز والبلغار، وأمم عظيمة يطول ذكرها، وسد على المفسدين. وكل المفسدين قصار القدود لا يتجاوز أحدهم ثلاثة أشبار، ووجوههم في غاية الاستدارة وعليهم شعور مثل الزغب وآذانهم مستديرة مسترخية، تلحق أذن الرجل منهم طرف منكبيه. وألوانهم بيض وحمر وكلامهم صفير وفيهم زنا فاحش، وبلادهم ذات أشجار ومياه وثمار وخصب كثير ومواش كثيرة إلا أنها بلاد ثلج ومطر وبرد على الدوام.

حكي عن سلام الترجمان، وكان عارفاً بألسن كثيرة حتى قيل: إنه كان يعرف أربعين لغة ويجاري فيها، أنه رأى هذا السد عياناً وذلك أن أمير المؤمنين الواثق بالله من خلفاء بني العباس بعثه إليه ليراه ويتحقق كيفيته


(1/186)


ويخبره بصفته عن حقيقته، فمشى إليه وعاد بعد سنتين وأربعة أشهر فأخبره أنه سار ومن معه حتى وصلوا إلى صاحب السرير بكتاب أمير المؤمنين فأكرمهم وأرسل معهم أدلاء فمضوا حتى دخلوا إلى تخوم سحرت وساروا إلى أرض طويلة ممتدة كريهة الرائحة فقطعوها في عشرة أيام وكان معهم شيء يشمونه لأجل تلك الرائحة التي في تلك الأرض فإنها تأخذ بالقلب، وانفصوا من تلك الأرض ووقعوا في أرض خراب لا حسيس بها ولا أنيس مسيرة شهر، وخرجوا منها إلى حصون بالقرب من جبل السد، وأهل تلك الحصون يتكلمون بالعربية والفارسية.

وهناك مدينة عظيمة اسم ملكها خاقان أتكش، فسألونا عن حالنا فأخبرناهم أن أمير المؤمنين الخليفة على المسلمين أرسلنا لنرى السد عياناً ونرجع إليه بصفته فتعجب هو ومن عنده منا ومن قولنا أمير المؤمنين الخليفة ولم يعرفوا ما هو؟ وبقي السد عنا فرسخين من هذه المدينة.

ثم سرنا ومعنا أناس منهم حتى سرنا إلى باب بين جبلين عظيمين عرضه مائة وخمسون ذراعاً وفيه باب من حديد طوله مائة وخمسون ذراعاً وقد اكتنفه عضادتان، عرض كل عضادة منهما خمسة وعشرون ذراعاً وارتفاعها مائة وخمسون ذراعاً، وعلى أعلاها دروند من حديد طوله مائة وخمسون ذراعاً وهي العتبة العليا، وفوقه شرافات من حديد، في طرف كل شرافة قرنان من حديد منثنيان إلى الشرافة الأخرى يتصل بعضها ببعض، وكل ذلك من لبن حديد مغيب في نحاس مذاب، وللباب مصراعان مغلقان عرض كل مصراع خمسون ذراعاً في ثخن أربعة أذرع، وقائمتان في


(1/187)


ذروتي الجبلين على قدر الدروند. وعلى الباب قفل من حديد طوله سبعة أذرع في غلظ ذراع ونصف وارتفاع القفل من الأرض أربعون ذراعاً وفوق القفل بخمسة أذرع حلقة أطول من القفل بخمسة أذرع، وعليها مفتاح معلق طوله ذراع ونصف، وله اثنتا عشرة سنة من الحديد، معلق في حلقة طولها وعرضها ذراع في ذراع بسلسلة من الحديد المصفى. وعتبة الباب السفلى سمك عشرة أذرع وطولها مائة ذراع من حديد مغموسة الطرفين تحت العضادتين، وكلها بالذراع الرشاشي.

ورئيس تلك الحصون يركب في كل جمعة في كبكبة عظيمة حتى يأتي الباب، وبأيديهم مرزبات من حديد فيضربون بها على ذلك الباب، فتدوي تلك الأرض ليسمع من خلف الباب من يأجوج ومأجوج، فيعلمون أن هناك حفظة وحراساً. وبعد ضرب الباب ينصتون بآذانهم مستمعين فيسمعون من وراء الباب دوياً كدوي الرعد.

وبقرب هذا السد حصن طوله عشرة أذرع في عشرة، ومع هذا الباب من الجانبين حصنان كل واحد منهما مائة ذراع في مائة ذراع. وبين هذين الحصنين عين ماء عذب. وفي أحد الحصنين بقية من آلات البناء، وهي قدور من حديد ومغارف من حديد، وهي فوق دكك مرتفعة، وعلى كل دكة أربع قدور وهي أكبر من قدور الصابون. وهناك أيضاً بقايا من اللبن الحديد وقد لصق بعضها ببعض من الصدأ، طول كل لبنة ذراع ونصف في عرض ذراع وارتفاع شبرين. وأما الباب المذكور والدروند الذي في أعلاه، والقفل، فكأنما فرغ الصانع من عمله الآن، وهي غير صدئة ولا بالية، قد دهنت بأدهان الحكمة المانعة من الصدأ.


(1/188)


قال سلام الترجمان: سألت من هناك هل رأيتم قط أحداً منهم؟ فأخبروا أنهم رأوا منهم عدداً كثيراً فوق شرفات السد، فهبت بهم ريح عاصف فرمت منهم ثلاثة، كل واحد منهم طوله دون ثلاثة أشبار، ولهم مخاليب موضع الأظفار، وأنياب وأضراس كالسباع، وإذا أكلوا بها يسمع لأكلهم حركة قوية، ولهم أذنان عظيمتان يفترشون الواحدة ويلتحفون الأخرى.

فكتب سلام هذه الصفات كلها في كتاب ورجع إلى الخليفة الواثق بالله.

وقد ذكر بعض أهل العلم أن يأجوج ومأجوج يرزقون التنين، يقذفه عليهم السحاب فيأكلونه، وإنما يقذف عليهم ذلك في أيام الربيع في كل عام، فإذا تأخر ذلك عن وقته المعهود استمطروه كما يستمطر الناس الغيث. وحكى صاحب كتاب العجائب أن في داخل بلاد يأجوج ومأجوج نهراً يسمى المسهر لا يعرف له قعر، وإذا تقاتلوا وأُسر بعضهم طرحوا الأسرى في ذلك النهر فيرون عند ذلك طيوراً عظاماً تخرج إلى من يطرح في ذلك النهر من كهوف هناك في جانبي الوادي، فتخطفهم قبل أن يصلوا إلى الماء وترتفع بهم إلى تلك الكهوف فتأكلهم هناك. ويقال إن بهذا الوادي ناراً تتأجج طول الزمان بقدرة الله تعالى وليس وراء يأجوج ومأجوج إلا المحيط والله سبحانه وتعالى أعلم: " وما يعلمُ جنودَ ربِّك إلا هو وما هيَ إلا ذِكرى للبشَر ". " ويخلُق ما لا تعلمون، وعلى اللهِ قَصْدُ السبيل ".

انتهى فصل البلدان والأقطار ولنسرع الآن في ذكر الجبال والبحار والجزائر والآبار وما بها من العجائب للاعتبار.


(1/189)


يتبع



الصورة الرمزية يناير
يناير
عضو
°°°
افتراضي
فصل في المحيط وعجائبه
اعلم أن المحيط هو البحر الأعظم الذي منه مادة سائر البحار المتصلة والمنقطعة وهو بحر لا يعرف له ساحل ولا يعلم عمقه إلا الله عز وجل، والبحار على وجه الأرض خلجان منه. وفي هذا البحر عرش إبليس لعنه الله وفيه مدائن تطفو على وجه الماء وفيها أهلها من الجن في مقابلة الربع الخراب من الأرض، وفيه حصون وفيه قصور على وجه الماء طافية ثم تغيب، وتظهر فيه الصور العجيبة والأشكال الغريبة، ثم تغيب في الماء وفيه الأصنام التي وضعها أبرهة ذو المنار الحميري، قائمة على وجه البحر وهي ثلاثة أصنام: أحدها أخضر، وهو يومئ بيده كأنه يخاطب من ركب البحر يأمره بالرجوع، والصنم الثاني أحمر كأنه يشير إلى نفسه ويخاطب من ركب هذا البحر أن يقف عنده ولا يجاوزه. والصنم الثالث أبيض يومئ بأصبعه إلى البحر: من جاء وجاوز هذا المكان هلك. وعلى صدر كل صنم مكتوب بالأسود: هذا وضعه أبرهة ذو المنار تبع الحميري لسيدته الشمس تقرباً غليها. وفي البحر ينبت شجر المرجان كسائر الأشجار في الأرض، وفيه من الجزائر المسكونة والخالية ما لا يعلمه إلا الله تعالى.


(1/190)


قال أبو الريحان الخوارزمي: إن المحيط الذي في المغرب على ساحل الأندلس يسمى بالمظلم أيضاً، لا يلج إليه أحد أبداً، وإنما يمر بالقرب من ساحله. يخرج منه خليج يعرف بنيطش وطربزندة، ماراً في جهة الشمال وهو بحر القرم يمر على سور قسطنطينية، ويتضايق حتى يقع في بحر الشام ثم يمتد نحو الشمال وعلى محاذاة أرض الصقالبة، ويخرج منه خليج في شمال الصقالبة، فإذا وصل إلى قرب أرض المسلمين وبلادهم انحرف إلى نحو الشرق. وبين ساحله وبين أرض الترك أرض وجبال مجهولة وخراب غير مسكونة ولا مسلوكة. ثم يتشعب منه أعظم الخلجان وهو الخليج الفارسي المسمى في كل اقليم ومكان من المحيط باسم ذلك الإقليم والمكان للمحاذاة له، فيكون أولاً بحر الصين ثم بحر التبت ثم بحر الهند ثم بحر السند ثم بحر فارس، ثم يخرج من أصل هذا البحر المذكور خليجان عظيمان أحدهما بحر مكران وكرمان وخوزستان وعبادان، وهو الخليج الشرقي الشمالي، والآخر بحر الزنج والحبشة وسفالة الذهب والبربر والقلزم واليمن وبلاد السودان، حتى ينتهي إلى بلاد مصر، وهو الخليج الجنوبي الغربي. وفي هذا البحر أعني الخليج الشرقي بجملته من الجزائر العامرة والغامرة والمسكونة والمعطلة ما لا يعلم ذلك إلا الله عز وجل.


(1/191)


وسنذكر كل بحر على حدته، وما فيه من الجزائر والآثار والعجائب على الترتيب إن شاء الله تعالى.

أما البحر الأول: من هذا الخليج الشرقي فهو بحر الصين وبحر التبت وبحر الهند والسند، لأنه يمر أولاً بالصين ثم بالتبت ثم بالهند ثم بالسند ثم على جنوب اليمن، وهناك ينتهي إلى باب المندب طولاً فيكون مسافة طوله من مبدئه من المحيط في الشرق إلى باب المندب في الغرب أربعة آلاف فرسخ. يتشعب من هذا البحر الصيني الخليج الأخضر، وهو بحر فارس والأُبلة ومكران، إلى أن ينتهي إلى الأُبلة حيث عبادان، فهناك ينتهي آخره ثم يعطف راجعاً إلى جهة الجنوب فيمر ببلاد البحر واليمامة ويتصل بعمان وأرض الشجر واليمن، وهناك اتصاله بالبحر الهندي، وطول هذا البحر أربعمائة فرسخ وأربعون فرسخاً.

ويتشعب من هذا البحر الصيني أيضاً: خليج القلزم ومبدؤه من باب المندب المتقدم ذكره، حيث انتهى البحر الهندي آنفاً فيمر في جهة الشمال مغرباً قليلاً، فيتصل بغربي اليمن ويمر بتهامة والحجاز إلى مدين وأبلة وفاران. وينتهي إلى مدينة القلزم وإليها ينساب وينعطف راجعاً إلى جهة الجنوب فيمر في بلاد الصعيد إلى حوم الملك، إلى عيذاب، إلى جزيرة سواكن، إلى زيلع في البجعة إلى بلاد الحبشة ويصل بالبحر الهندي، وطول هذا البحر ألف وأربعمائة ميل والله أعلم.

البحر الثاني: الخليج الغربي الآخذ من المحيط الغربي المظلم وهو بحر الغرب والشام والروم ومبدؤه من الإقليم الرابع، ويسمى هناك البحر الزقاق لأن سعته هناك ثمانية عشر ميلاً كالزقاق، وكذلك طول الزقاق أيضاً من طريف إلى الجزيرة


(1/192)


الخضراء ثمانية عشر ميلاً فيمر مشرقاً في جهة بلاد البربر وبشمال المغرب الأقصى، إلى أن يمر بالمغرب الأوسط ويصل أرض أفريقية إلى وادي الرمل إلى أرض برقة وأرض لوقيا ومراقيا والإسكندرية، إلى شمال أرض التيه، إلى فلسطين إلى سائر ساحل بلاد الشام، إلى أن ينتهي طرفه إلى السويدية، وهناك نهايته ثم ينحرف مغرباً راجعاً إلى جهة المغرب فيتصل بالخليج القسطنطيني، إلى جزيرة بليونس وكمشيلي، إلى أدرنة، وهناك يخرج إلى الخليج البندقي ويتصل إلى أرض مجاز صقلية إلى بلاد رومية إلى بلاد ستومة وأرمونة، ويجتاز بجبال اليونان فيمر شرقي الأندلس، من جهة جنوبها، من حيث ابتدأ، وطول هذا البحر ألف ومائة وستة وستون فرسخاً. ويخرج من هذا البحر الشمالي خليجان: أحدهما خليج البنادقة: ومبدؤه من شرقي بلاد تلودية من بلاد الروم عند مدينة أدرنة، فيمر في جهة الشمال عن تغريب يسير إلى ساحل شنت، ثم يأخذ في جهة المغرب إلى أن يمر بساحل البنادقة وينتهي إلى بلاد أزكالية، ومن هناك ينعطف راجعاً مع الشرقي على بلاد جرواسية والماسية إلى أن يتصل بالبحر الشامي من حيث ابتدأ نيطش، وطول هذا البحر ألف ومائة ميل.

والخليج الآخر: نيطش، ومبدؤه من البحر الشامي حيث فم أيدة، وعرض فوهته رمية سهم، ويمر بينه مجاز رمية سهم، فيتصل بالقسطنطينية فيكون هناك عرضه ستة أميال، ويمر نحو نيطش من جهة الشرق فيتصل في جهة الجنوب بأرض قلعية إلى سواحل أطرابدية إلى أرض أشكلة إلى أرض لايته، وينتهي طرف هذا الخليج هناك حيث الخزرية، ومن هناك ينعطف راجعاً إلى مطرحه ويتصل ببلاد الروسية وبلاد برحان، ولا يزال حتى ينتهي إلى مضيق فم خليج قسطنطينية ويتصل به ويمر شرقي مقدونية إلى أن يتصل بالموضع الذي منه ابتدأ، وبين ساحله وبين أرض الترك أرضون وجبال مجهولة. وطول بحر نيطش وهو بحر القلزم من فم المضيق إلى حيث انتهاؤه ألف وثلاثمائة ميل.


(1/193)


وأما بحر جرجان والديلم: فهو بحر الخزر، فإنه يخرج منقطعاً لا يتصل بشيء من البحار المذكورة وتقع فيه أنهار وعيون دائمة الجريان. وذكر الجواليقي أن هذا البحر مظلم القعر، وأنه يتصل ببحر نيطش من تحت الأرض، ويتصل بهذا البحر من جهة الغرب بلاد أذربيجان ومن جهة الجنوب بلاد طبرستان، ومن جهة الشرق أرض العرب، ومن جهة الشمال أرض الخزر وطوله ألف ميل وعرضه من ناحية جرجان إلى وضع نهر أيلة ستمائة ميل وخمسون ميلاً، وفي كل بحر من هذه البحور جزائر وأمم مختلفة ونباتات وحيوانات مختلفة وجبال وغير ذلك. ونحن نفصل ما وصل إليه علم الناس إن شاء الله تعالى.


(1/194)


فصل في بحر الظلمة

وهو بالحر المحيط الغربي

ويسمى المظلم، لكثرة أهواله وصعوبة متنه فلا يمكن أحداً من خلق الله أن يلج فيه، إنما يمر بطول الساحل لأن أمواجه كالجبال الرواسي وظلامه كدر، وريحه ذفر، ودوابه متسلطة، ولا يعلم ما خلفه إلا الله تعالى ولا وقف منه بشر على تحقيق خبر، وفي ساحل هذا البحر يوجد العنب الأشهب الجيد، وحجر البهت وهو حجر من حمله أقبل الخلق عليه بالمحبة والتعظم وفضيت حوائجه وسمع كلامه وانعقدت عنه ألسنة الأضداد. ويوجد أيضاً بساحله حجارة مختلفة الألوان يتنافس أهل تلك البلاد في أثمانها ويتوارثونها ويذكرون لها خواص عظيمة. وفي البحر من الجزائر العامرة والخراب ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وقد وصل الناس منها إلى سبع عشرة جزيرة.

فمنها الخلدتان: وهما جزيرتان فيهما صنمان مبنيان بالحجر الصلد طول كل صنم مائة ذراع، وفوق كل صنم صورة من نحاس تشير بيدها إلى خلف، يعني: ارجع فما ورائي شيء. بناهما دو المنار الحميري من التبابعة، وهو ذو القرنين المذكور في القرآن.

ومنها جزيرة العوس: بها أيضاً صنم وثيق البناء لا يمكن الصعود إليه بناه أيضاً ذو القرنين المذكور. وبهذه الجزيرة مات الباني وقبره بها في هيكل مبنى بالمرمر والزجاج الملون. وبهذه الجزيرة دواب هائلة تنكرها المسامع.

ومنها جزيرة السعالي: وهي جزيرة عظيمة بها خلق كالنساء إلا إن لهم أنياباً طوالاً بادية، وعيونهم كالبرق الخاطف ووجوههم كالأخشاب المحترقة،


(1/195)


يتكلمون بكلام لا يفهم ولا فرق بين الرجال والنساء عندهم إلا بالذكر والفرج، ولباسهم ورق الشجر ويحاربون الدواب البحرية ويأكلونها.

وجزيرة حسرات: وهي جزيرة واسعة فيها جبل عال، وفي سفحه أناس سمر قصار لهم لحى طوال تبلغ ركبهم، وجوههم عراض ولهم آذان كبار وعيشتهم من الحشيش، وعندهم نهر صغير عذب.

وجزيرة العرر: وهي جزيرة طويلة عريضة، كثيرة الأعشاب والنباتات والأشجار والثمار.

جزيرة المستشكين: وتعرف بجزيرة التنين. وهي عظيمة بها أشجار وأنهار وثمار، وبها مدينة عظيمة، وكان بها التنين العظيم الذي قتله الاسكندر. وكان من حديثه أنه ظهر بها تنين عظيم، فكاد أن يهلك الجزيرة وما بها من السكان والحيوان، فاستغاث الناس منه إلى الإسكندر وكان الإسكندر قد قارب تلك الأرض، وشكوا إليه أن التنين قد أكل مواشيهم وأتلف أموالهم وقطع الطريق على الناس وأن له عليهم في كل يوم ثورين عظيمين ينصبونهما فيأتي إليهما كالسحابة السوداء وعيناه تتوقدان كالبرق الخاطف، والنار والدخان يخرجان من فيه فيبتلع الثورين ويرجع إلى مكانه.


(1/196)


فسار الإسكندر إلى المدينة وأمر بالثورين فسلخا وحشا جلودهما زفتاً وكبريتاً وزرنيخاً وكلساً ونفطاً وزئبقاً، وجعل مع ذلك كلاليب من حديد وأقامهما في المكان المعهود، فجاء التنين من الغد إليهما على العادة فابتلعها، فأضرمت النار في جوفه وتعلقت الكلاليب بأحشائه، وسرى الزئبق في جسده ورجع مضطرباً إلى مقره. فانتظروه من الغد فلم يأت ولم يخرج، فذهبوا إليه فإذا هو ميت وقد فتح فاه كأوسع قنطرة وأعلاها. ففرحوا وشكروا سعي الإسكندر إليهم وحملوا إليه هدايا عجيبة منها دابة عجيبة يقال لها المعراج مثل الأرنب، أصفر اللون وعلى رأسه قرن واحد أسود لم يرها شيء من السباع الضواري والوحوش الكاسرة إلا هرب منها.

جزيرة قلهات: وهي جزيرة كبيرة وبها خلق مثل خلق الإنسان، إلا أن وجوههم وجوه الدواب يغوصون في البحر فيخرجون ما يقدرون عليه من الدواب البحرية فيأكلونها.

جزيرة الأخوين الساحرين: أحدهما شرهام والآخر شبرام، وكانا بهذه الجزيرة يقطعان الطريق على التجار، فمسخا حجرين قائمين في البحر، وعمرت الجزيرة بعدهما.

جزيرة الطيور: ويقال إن فيها جنساً من الطيور في هيئة العقبان، حمر ذوات مخاليب تصيد دواب البحر. وبهذه الجزيرة ثمر يشبه التين، أكله ينفع من جميع السموم. حكى الجواليقي أن ملكاً من ملوك فرنجة أخبر بذلك فوجه إليها مركباً ليجلب له من ذلك الثمر ويصاد له من تلك الطيور، لأنه كان عالماً بمنافع تلك


(1/197)


الطيور ودمها وأعضائها ومرائرها، فانكسرت المركب في البحر وهلكت السفينة ومن فيها ولم بعد إليه أحد.

جزيرة الصاصيل: طولها خمسة عشر يوماً في عرض عشرة. وكان بها ثلاث مدن مسكونه عامرة وكان التجار يسيرون إليها ويشترون منها الأغنام والأحجار الملونة المثمنة، فوقع الشر بين أهلها حتى فني غالبهم وبقي منهم قليل، فانتقلوا إلى بلاد الروم.

جزيرة لاقة: وهي جزيرة كبيرة وبها شجر العود كالحطب وليس له هناك قيمة ولا رائحة حتى يخرج من تلك الأرض فيكتسب الرائحة؛ وكانت عامرة مسكونة والآن قد خرجت فيها حيات كبار وتغلبت على أرضها فخربت بمثل ذلك.

جزيرة ثورية: بها أشجار وأنهار ولكنها خالية الديار، وبهذا البحر دواب عظيمة مختلفة الأشكال هائلة المنظر، يقال إن السمكة يمر رأسها كالجبل العظيم الشامخ ثم يمر ذنبها بعد مدة، ويقال إن مسافة ما بين رأسها وذنبها أربعة أشهر.

بحر الصين وجزائره وما به من العجائب والغرائب: ويسمى هذا البحر بأسماء عديدة: بحر الصين وبحر الهند صنجي، وهو متصل بالمحيط من المشرق: وليس على وجه الأرض بحر أكبر منه إلا المحيط، وهو كثير الموج عظيم الاضطراب بعيد القعر، فيه المد والجزر، كما في بحر فارس؛ ويستدل على هيجان هذا البحر بأن يطفو السمك على وجهه قبل هيجانه بيوم واحد، ويستدل على سكونه ببيض طائر معروف يبيض على وجه الماء في مجتمع القذى، وهو طائر لا يأوي الأرض أبداً ولا يعرف إلا لجة البحر، في هذا البحر مغاص اللؤلؤ يطلع منه الحب الجيد الذي لا قيمة له، وفي هذا البحر من الجزائر ما لا يعلمه إلا الله عدداً إلا أن بعضها مشهور يصل


(1/198)


إليه الناس، قيل إن فيه اثني عشر ألف جزيرة عامرة مسكونة وبها عدة ملوك، وفي بعض جزائره ينبت الذهب ويكثر في بعض السنين ويقل في بعضها كالنبات.

فمن جزائره جزيرة زانج وتشمل جزائر كثيرة في آخر حدود الصين وأقصى بلاد الهند، عامرة خصبة ليس فيها خراب، يسافرون فيها بلا ماء ولا زاد لكثرة الخصب والعمارة، وهي نحو مائة فرسخ.

قال محمد بن زكريا: وملك هذه الجزيرة يسمى المهراج، وله جباية تقطع في كل يوم ثلاثمائة من من الذهب، في كل من ستمائة درهم فيتحصل له في كل يوم ما يزيد على مائة ألف مثقال وخمسة وعشرين ألف مثقال، يتخذ منها لبناً ويطرحه في البحر وهو خزانته.

وقال ابن الفقيه: بهذه الجزيرة سكان تشبه الآدميين إلا أن أخلاقهم بالوحوش أشبه، ولهم كلام لا يفهم، وعندهم أشجار وهم يطيرون من شجرة إلى شجرة وبها نوع من السنانير الوحشية حمر منقطة ببياض، أذنابها كأذناب الظباء؛ وبها أيضاً نوع من السنانير المذكورة ولها أجنحة كأجنحة الخفاش، وبها أبقار وحشية حمر منقطة ببياض أيضاً ولحومها حامضة وبها دابة الزباد وهي كالهرة، وفأرة المسك، وبها جبل يقال له النصان مشهور به، وبه حيات عظام تبتلع الفيلة، وبه قردة كأمثال الجواميس


(1/199)


والكباش الكبار؛ ومن القردة ما هو أبيض ومنها ما هو كالقرطاس، ومنها ما هو أبيض الظهر أسود البطن وبالعكس؛ ومنها ما هو أسود كالفأر. وبها من الببغاء وهي الدرة شيء كثير بيض وحمر وصفر وخضر، ويتكلمون مع الناس بأي لسان سمعوه منهم. وبها خلق على صورة الإنسان وهم بيض وسود وشقر وخضر يأكلون ويشربون ويتكلمون بكلام لا يفهم، ولهم أجنحة يطيرون بها.

حكى ابن السيرافي قال: كنت ببعض جزائر الزانج فرأيت ورداً كثيراً أحمر وأبيض وأزرق وأصفر وألواناً شتى، فأخذت ملاءة وجعلت فيها شيئاً من ذلك الورد الأزرق. فلما أردت حملها رأيت ناراً في الملاءة فأحرقت جميع ما كان فيها من الورد، ولم تحترق الملاءة، فسألت الناس عن ذلك فقالوا: إن في هذا الورد منافع كثيرة ولا يمكن اخراجه من هذه الغياض بوجه أبداً.

وفي هذه الجزيرة شجر الكافور وهو شجر عظيم هائل تظل كل شجرة مائة انسان وأكثر. وفي هذه الجزيرة قوم يعرفون بالمخرمين، مخرمة أنوفهم. وفيها حلق بها سلاسل إذا جاءهم عدو لمحاربتهم قدموا أولئك المخرمين متسلحين، ويأخذ كل رجل بطرف سلسلة من تلك الرجال المخرمة، يمنعه بها من التقدم إلى العدو، فإن انتظم صلح بين العدو وأهل الجزيرة فلا يفلتون من السلاسل وإن لم ينتظم صلح لفت تلك السلاسل في أعناقهم وأطلقوهم على العدو فيحطمون العدو حطمة واحدة ويأكلون منهم كل من وقعت أعينهم عليه، ولا يثبت لحطيمهم أحد أبداً.


(1/200)


جزيرة رامي: وهي جزيرة عظيمة طويلة عريضة طيبة التربة معتدلة الهواء أبداً، بها معاقل ومدن وقرى وطولها سبعمائة فرسخ. قال ابن الفقيه: بهذه الجزيرة عجائب كثيرة. منها أناس حفاة عراة، رجال ونساء، على أبدانهم شعور تغطي سوآتهم، ومآكلهم من الثمار، ويستوحشون من الناس وينفرون منهم إلى الغياض، وطول أحدهم أربعة أشبار، وبشعرهم زغب أحمر، وهم لا يلحقون لسرعة جريهم. وبساحل هذه الجزيرة قوم يلحقون المراكب في البحر سباحةً، وهي تجري في تيارها فيبيعونهم العنبر بالحديد، ويحملون الحديد في أفواههم ويرجعون إلى الجزيرة ولا يدرى ما يصنعون به.

وحكى الجهاني: أن بهذه الجزيرة الكركند، وهو حيوان على شكل الحمار إلا أن على رأسه قرناً واحداً وهو منعقف. وفيه منافع كثيرة منها أنه يصنع منه أنصبة لسكاكين الملوك وتحط على المائدة، فإن كان الطعام مسموماً عرق ذلك النصاب واختلج، ويصنع منه حلية للمناطق تبلغ قيمة المنطقة المحلاة بقرن الكركند أربعة آلاف مثقال من الذهب. وأكثر هذه المناطق تعمل ببلاد الصين، وفي رقبة هذا الحيوان اعوجاج كاعوجاج رقبة الجمل أو دونه؛ وبهذه الجزيرة جواميس بغير أذناب؛ وبها شجر الكافور والبقر والخيزران وعرقه دواء من سم الحيات والأفاعي، وبها طيب عطر ومعادن كثيرة.

جزيرة الرخ: وهذا الرخ الذي تعرف به هذه الجزيرة طير عظيم غريب مهول الهيئة حتى قيل إن طول جناحه الواحد نحو عشرة آلاف باع؛ ذكر ذلك


(1/201)


الحافظ ابن الجوزي رحمه الله في كتابه المسمى بكتاب الحيوان، وكان قد وصل إليه رجل من أهل الغرب ممن سافر إلى الصين وأقام به وبجزائره مدة طويلة وحضر بأموال عظيمة وأحضر معه قصبة ريشة من جناح فرخ الرخ وهو في البيضة لم يخرج منها للوجود، فكانت تلك القصبة من ريش ذلك الفرخ تسع قربة ماء، وكان الناس يتعجبون لذلك، وكان هذا الرجل يعرف بالصيني لكثرة اقامته هناك، واسمه عبد الرحمن المغربي وكان يحدث بالغرائب، منها ما ذكر أنه سافر في بحر الصين فألقتهم الريح في جزيرة عظيمة كبيرة واسعة فخرج إليها أهل السفينة ليأخذوا الماء والحطب ومعهم القوس والحبال والقرب وهو معهم، فرأوا في الجزيرة قبة عظيمة بيضاء لماعة براقة أعلى من مائة ذراع، فقصدوها ودنوا منها فإذا هي بيضة الرخ فجعلوا يضربونها بالقوس والصخور والخشب حتى انشقت عن فرخ الرخ كأنه جبل راسخ فتعلقوا بريشة من جناحه ولم تكمل خلقة الريشة فقتلوه.

قال: وحملوا ما أمكنهم من لحمه وقطعوا أصل الريش من حد القصبة ورحلوا. وكان بعض من دخل الجزيرة قد طبخ من اللحم وأكل، وكان فيهم مشايخ بيض اللحى فلما أصبح المشايخ وجدوا لحاهم قد اسودت ولم يشب بعد ذلك أحد من القوم الذين أكلوا فكانوا يقولون إن العود الذي حركوا به ما في القدر من لحم فرخ الرخ كان من شجرة الشباب والله أعلم.

قال: فلما طلعت الشمس والقوم في السفينة وهي سائرة بهم إذ أقبل الرخ يهوي كالسحابة العظيمة، وفي رجليه قطعة جبل كالبيت العظيم وأكبر من السفينة، فلما حاذى السفينة من الجو ألقى ذلك الحجر عليها وعلى من بها، وكانت السفينة مسرعة في الجري فسبقت الحجر فوقع الحجر في البحر، وكان لوقوعه هول عظيم في البحر، وكتب الله لنا السلامة ونجانا من الهلاك.


(1/202)


ومنها جزيرة القرود: وهي كبيرة وبها غياض، وقرود كثيرة، وللقرود ملك تنقاد إليه ويجعلونه على أكتافهم وأعناقهم، وهو يحكم عليهم حكماً لا يظلم به أحداً، ومن وصل إليهم في المراكب عذبوه بالعض والخمش والرجم، ويتحيل عليهم أهل جزيرة خرتان ومرتان فيصيدونها ويبيعونها بالثمن الغالي. وأهل اليمن يرغبون فيها ويتخذونها في حوانيتهم حرساً كالعبيد، وهم في غاية الذكاء.

وجزيرة البيمان: وهي جزيرة عامرة وبها مدينة كبيرة، وأهلها ذوو بأس وشدة؛ ومن سننهم أنه إذا خطب الرجل عندهم امرأة لا يزوجونه حتى يذهب فيأتيهم برأس مقطوع فحينئذ يزوجونه امرأة بغير صداق ولا مهر، وإن أتاهم برأسين زوجوه بامرأتين، وإن أتى بثلاث زوجوه ثلاثة، وإن أتى بعشرة فعشر، فيصير عندهم معظماً مهيباً جليلاً. وبها من شجرة البقم والخيزران وقصب السكر ما لا يوصف، وبها مياه جارية وأنهار عذبة وثمار مختلفة.

وجزيرة الواق واق: وهي جزيرة كبيرة، وعندهم ذهب كثير بلا وصف حتى إنهم يتخذون سلاسل الكلاب والدواب من الذهب، وأما أكابرهم فيصنعون لبناً من الذهب ويبنون به قصوراً أو بيوتاً باتقان وإحكام.


(1/203)


ومن جزائرها جزيرة البنات بها قوم عراة الأبدان بيض الألوان حسان الصور يأوون إلى رؤوس الأشجار ويتصيدون الناس فيأكلونهم، ووراء هذه الجزيرة جزيرتان عظيمتان فيهما أناس عظام الأجسام حسان الوجوه سود الألوان، شعورهم مسلسلة مختلفة وأقدامهم أطول من ذراع، لهم أخلاق صعبة عادية. وهذه الجزيرة متصلة بالزانج والمسير إليها بالنجوم، وهي ألف وسبعمائة جزيرة عامرة والذهب بها كثير.

وملكة هذه الجزائر امرأة تسمى دمهره، وتلبس حلة منسوجة بالذهب، ولها نعلان من ذهب، وليس يمشي في هذه الجزائر أحد بنعل غيرها. ومتى لبس غيرها نعلاً قطعت رجليه. وتركب في عبيدها وجيوشها بالفيلة والرايات والطبول والأبواق والجواري الحسان، ومسكنها جزيرة تسمى أنبونة، وأهل هذه الجزيرة حذاق بالصنائع حتى إنهم ينسجون القمصان قطعة واحدة بأكمامها وأبدانها، ويعملون السفن الكبار من العيدان الصغار ويعملون بيوتاً من الخشب تسير على وجه الماء. هذا ما نقله الجواليقي.

وأما ما ذكره عيسى بن المبارك السيرافي فإنه قال: دخلت على هذه الملكة فرأيتها عريانة على سرير من الذهب، وعلى رأسها تاج من الذهب، وبين يديها أربعة آلاف وصيفة أبكار حسان، وهن على مذهب المجوس وهن مكشوفات، ومنهن من


(1/204)


تتخذ الأمشاط، اثنين وثلاثة وأربعة إلى عشرين. ولهذه الملكة جبايات كثيرة تتصدق بها على صعاليك أرضها ويتحلون بالودع ويدخرونه عندهم وفي خزائنهم. وبهذه الجزيرة شجر تحمل ثمراً كالنساء بصور وأجسام وعيون وأيد وأرجل وشعور وأثداء وفروج كفروج النساء، وهن حسان الوجوه، وهن معلقات بشعورهن، يخرجن من غلف كالأجربة الكبار، فإذا أحسسن بالهواء والشمس يصحن: واق واق، حتى تتقطع شعورهن فإذا انقطعت ماتت. وأهل هذه الجزيرة يفهمون هذا الصوت ويتطيرون منه.

وفي كتاب الحوالة أنه من تجاوز هؤلاء وقع على نساء يخرجن من الأشجار أعظم منهن قدوداً وأطول منهن شعوراً، وأكمل محاسن وأحسن أعجازاً وفروجاً، ولهن رائحة عطرة طيبة، فإذا انقطعت شعورها ووقعت من الشجرة عاشت يوماً أو بعض يوم وربما جامعها من يقطعها أو يحضر قطعها فيجد لها لذة عظيمة لا توجد في النساء.

وأرضهن أطيب الأراضي وأكثرها عطراً وطيباً، وبها أنهار أحلى ماءً من العسل والسكر المذاب، وليس بها أنيس ولا عامر إلا الفيلة وربما بلغ ارتفاع الفيل في هذه الجزيرة أحد عشر ذراعاً.


(1/205)


وبها من الطير شيء كثير. وليس يعلم ما وراء هذه الجزيرة إلا الله تعالى. ويخرج من بعض هذه الجزائر سيل عظيم يسيل كالقطرة يصب في البحر فيحرق السمك في البحر فيطفو على الماء.

وجزيرة جالوس: وهي جزيرة بها قوم مستوحشون عراة يأكلون الناس وليس لهم ملك ولا دين، وأكلهم الموز والنارجيل وقصب السكر. وفي هذه الجزيرة جبل ترابه فضة كالبرادة الناعمة.

وجزيرة الموجة: وهي جزيرة عظيمة وبها عدة ملوك. وأهلها بيض شقر مخرومون الآذان كأهل الصين، وعندهم الخيول البحرية يركبونها. وعندهم دابة المسك ودابة الزباد؛ ونساؤهم أجمل النساء وأحسنهن خلقاً وخلقاً، وأرحامهن كالحلقة لاصقة، وإذا وقفت المرأة الطويلة على قدمها ومشت تسحب شعرها خلفها على الأرض. وهذه النساء من أعظم النساء أعجازاً وأدقهن خصوراً، باديات الوجوه ساحبات الشعور، لا يستترن من أحد أصلاً.

وجزيرة السحاب: وهي جزيرة كبيرة سميت بهذا الاسم لأنه يطلع عليها سحاب أبيض ويعلو عن المراكب في البحر، ويخرج منه لسان طويل دقيق مع ريح عاصف حتى يلتصق ذلك اللسان بالبحر فيغلي البحر كالقدر الفائر ويضطرب كالزوبعة الهائلة، فإذا أدرك المراكب ابتلعها، وبهذه الجزيرة تلول إذا أضرمت فيها النار سالت منها الفضة الخالصة.

وجزيرة هلائي: وهي جزيرة كبيرة من أعظم الجزائر وأوسعها قطراً وأعظمها عمارة، وهي معترضة من المشرق إلى المغرب، ولأهلها قصور وبيوت يتخذونها من الخشب على وجه الماء وأرحاء تدور بالريح على الماء؛ وبها أنواع الطيب والعطر


(1/206)


الفاخر وعندهم الموز والأرز والنارجيل وقصب السكر؛ وبها معدن الذهب والفيلة البيض والكركند؛ ولها ملك عظيم مهيب كثير الجيوش والجنود؛ وله المراكب البهية من الخيل والفيلة العجيبة.

جزيرة القمر: وهي جزيرة طويلة عريضة، طولها من المشرق أربعة أشهر؛ وبها مدينة تسمى: لان؛ وهي سكن الملك، وهي مخصبة؛ بها أشجار وثمار وأنهار وغياض؛ وبها النارجيل وقصب السكر؛ وبهذه الجزيرة تصنع ثياب الحشيش الغريبة النوع التي لا نظر لها في الدنيا ولا بهجة للحرير والديباج عندها، ويصنع بها نوع من الحصر المرقومة المنقوشة التي تأخذ بالأبصار وتذهب بالعقول حسناً وبهجة، تلبسها الملوك فوق البسط الحرير ويعمل بها مراكب منحوتة من قطعة واحدة وخشبة واحدة؛ وطول كل مركب ستون ذراعاً بالرشاشي، تحمل مائتي مقاتل وتسمى السفينات.

وحكى بعض التجار أنه رأى هناك مائدة يأكل عليها مائة وخمسون رجلاً وهي قطعة واحدة مستديرة. وملك هذه المدينة لا يقوم بخدمته إلا المخنثون ويلبسون الثياب النفيسة، ويتحلون مثل النساء واسمهم النتيانة. ويتزوجون بالرجال كالنساء؛ يخدمون الملك بالنهار ويرجعون إلى أزواجهم بالليل من غير أن يعارضوا في ذلك.

جزيرة السعالي: وهي جزيرة عظيمة بها شخوص مشوهة الخلق منكرة الصور لا يدرى ما هم، وزعم قوم أنها شياطين تتولد من الجن والإنس تأكل من وقع لهم من الإنس.


(1/207)


جزيرة التمسح: وهي جزيرة بها قوم أذنابهم كالكلاب وأبدانهم كأبدان الإنسان، ولهم ملك منهم.

جزيرة أطوران: وهي كبيرة وبها أنواع من القردة كالحمر عظماً، وبها الكركند الكثير. ذكر أن مراكب الإسكندر وصلت إليهم وإلى جزيرة أخرى بها قوم على أشكال أبدان الإنسان، ووجوههم ورؤوسهم كالسباع، فلما قربوا منهم غابوا عن أبصارهم ولم يعلموا كيف ذهبوا؟.

جزيرة النساء: وهي جزيرة عظيمة وليس بها رجل أصلاً. ذكروا أنهن يلقحن ويحملن من الريح ويلدن نساء مثلهن. وقيل إن بأرض تلك الجزيرة نوعاً من الشجر فيأكلن منه فيحملن وإن الذهب في أرضها عروق كعروق الخيزران، وترابها كله ذهب ولا التفات للنساء إلى ذلك.

وذكر بعضهم أن رجلاً ساقه الله إلى تلك الجزيرة فأردن قتله فرحمته امرأة منهن وحملته على خشبة وسيبته في البحر فلعبت به الأمواج فرمته في بعض بلاد الصين فأخبر ملك تلك الجزيرة بما رأى من النساء وكثرة الذهب، فوجه مراكب ورجالاً معه فأقاموا زمناً طويلاً في البحر يطوفون على تلك الجزيرة فلم يقعوا لها على أثر.


(1/208)


جزيرة سرنديب: وهي جزائرة كثيرة، وفي هذه الجزائر مدن كثيرة، وفيها الجبل الذي أهبط عليه آدم عليه السلام، ويسمى جبل الراهون وعليه أثر قدم آدم عليه السلام؛ وعلى القدم نور لماع يخطف البصر. وأسفل هذا الجبل توجد سائر الأحجار الثمينة النفيسة. ولهذه الجزائر بحر فيه مغاص اللؤلؤ الفاخر ويجلب منها الدر والياقوت والسنباذج والألماس والبلور وجميع أنواع العطر؛ وتسافر المراكب فيها الشهر والشهرين بين غياض ورياض. ولملك هذه الجزائر صنم من الذهب مكلل بالجواهر وليس عند أحد من الملوك ما عنده من الدر والجواهر النفيسة لأن أصنافها كلها في بلاده وجباله، ويحمل إليه الخمس من كل ما يوجد ويستخرج من عراق العجم وفارس، ويقال إن بهذه الجزائر مساكن وقباباً بيضاً تلوح للناس من بعد فإذا قربوا منها تباعدت حتى ييأسوا منها.

وأما عجائب هذا البحر: فمنها ما ذكروا أنه إذا كثرت أمواجه ظهرت أشخاص سود طول كل واحد منهم أربعة أشبار كأنهم أولاد الأحابيش، يصعدون إلى


(1/209)


المراكب من غير ضرورة ولا أذى، وظهورهم يدل على خروج ريح مهلك يسمى الخب.

وحكي أيضاً أنهم يرون في هذا البحر طائراً يطير وهو من نور لا يستطيع أحد النظر إليه، فإذا ارتفع على صاري المركب سكنت الريح وهدأت أمواج البحر وهو دليل السلامة، ويفقدونه ولا يعلمون أين يذهب؟.

ومن العجائب: أن طائراً في هذا البحر يسمى خرشنة أكبر من الحمام، ذكر في كتاب تحفة الغرائب أن هذا الطائر إذا طار يأتي طائر آخر يقال له كركر ويطير فاتحاً فاه يتوقع ذرق خرشنة ليقع في فيه فيأكله، وليس له قوت سواه ولا يذرق خرشنة هذا إلا وهو طائر.

ومنها دابة المسك البحري، وهي دابة تخرج من البحر كل سنة في وقت معلوم بكثرة عظيمة، فتصاد وتذبح فيوجد المسك في سرتها كالدم، وهذا المسك هو أفخر الأنواع غير أنه في مكانه وبلده لا ريح له أبداً، فإذا خرج من حد بلاده ظهر ريحه وكلما بعد زاد ريحه.

ومنها دابة تسمى ملكان تستوطن جزيرة هناك لها رؤوس كثيرة ووجوه مختلفة وأنياب معلقة ولها جناحات وهي تأكل دواب البحر، وقيل إنا تصادف برسم مراكب الملوك إذا ركب الملك قادوها أمام موكبه وألبسوها الجلال الحرير ويزينونها.

ومنها سمكة تزيد على خمسمائة ذراع توجد عند جزيرة واق واق المذكورة، إذا رفعت جناحها كانت كالجبل العظيم، يخاف على السفن منها، فإذا رأوها صاحوا وضربوا الطبول وأضرموا المكاحل النفطية حتى تهرب عنهم.


(1/210)


ومنها سلاحف كبار استدارة كل سلحفاة أربعون ذراعاً بذراعهم، تبيض كل واحدة ألف بيضة وظهرها الدبل الفاخر، وأهل اليمن يتخذون من ظهورها قصعاً كباراً وجفاناً هائلة لغسلهم ومأكلهم.

ومنها سمكة تسمى سيلان تقعد على البر يومين حتى تموت، فإذا جعلت في القدر وكان رأس القدر مغطى نضجت واستوت، وإن كان رأس القدر مكشوفاً طارت منه وتختفي فلا يعلم أين تذهب.

ومنها سمكة تسمى الأطم ووجهها كوجه الخنزير، ولها فرج كفرج المرأة، ولها مكان الفلوس شعر، وهي طبقة لحم وطبقة شحم، ويرغبون في أكلها لطيب لحمها.

ومنها سرطانات قدر كل واحد كالترس الصغير، يخرج من الماء بسرعة، فإذا سار في البر انعقد حجراً في الحال.

ومنها حيات عظام تخرج من البحر فتبتلع الفيل العالي الهائل، وتنطوي على شجرة عظيمة تجذبها أو على صخرة فتنكسر عظام الفيل في بطنها وتسمع قعقعة ذلك على بعد.

ومنها سمكة تسمى هبير، من رأسها إلى صدرها مثل الترس، ولها عيون كثيرة تنظر بها وباقي بدنها طويل مثل الحية في مقدار ثلاثين ذراعاً، ولها أرجل كثيرة، ومن صدرها إلى ذنبها مثل أسنان المنشار كل سنة منها في طول شبر كالحديد في الصلابة أو الفولاذ في القطع، ولا تتصل بشيء من المراكب إلا شقته ولا تضرب شيئاً إلا


(1/211)


قطعته نصفين ولا تنطوى على شيء إلا أهلكته وتسمى أيضاً القرش، وفي هذا البحر الدردور، وهو إذا وقعت فيه سفينة لا تنجو منه.

حكى بعض التجار قال: ركبنا في هذا البحر ومعنا جمع من التجار فهبت علينا ريح عاصفة صرفت المركب عن القصد، وكان رئيس المركب شيخاً أعمى إلا أنه حاذق بالرياسة، وكان معه في السفينة حبال كثيرة فكان رجاله يقولون له: لو كان موضع هذه الحبال ركاب لانتفعنا بأجرتهم، وكان يسأل التجار في كل وقت ماذا ترون فيقولون: ما نرى شيئاً. ولم يزل كذلك حتى قالوا له: نرى طيوراً سوداً على وجه الماء، فصاح الشيخ ولطم وجهه وقال: هلكنا والله لا محالة؛ فلما سألناه عن السبب قال: سترون ذلك عياناً. فما كان مقدار ساعتين حتى وقعنا في الدردور، وإذا بالذي كنا نراه كالطيور السود مراكب وبها أناس موتى؛ قال: فتحيرنا وانقطع رجاؤنا من الخلاص والحياة؛ فقال الشيخ: هل لكم أن تجعلوا لي نصف أموالكم وأنا أتحيل في خلاصكم إن شاء الله تعالى؟ فقلنا: نعم قد رضينا! قال: فأعطانا قنينتين قد ملئتا بالدهن فأدليناهما في البحر فاجتمع عليهما من السمك ما لا يعد ولا يحصى ثم أمرنا أن نطرح تلك الموتى الذين في المراكب إلى البحر بعد شدهم بالحبال التي كانت عنده في المراكب ففعلنا ورمينا بهم وأطراف الحبال مشدودة بمركبنا؛ فابتلع السمك


(1/212)


الموتى ثم أمرنا بالصياح وضرب الطبول والصنوج والأخشاب ففعلنا ذلك فتفرقت الأسماك وأطراف الحبال في بطونها مشدود بها الموتى، وإذا بالمركب قد تحرك من مكانه وأقلع وجرى ولم يزل يجري حتى خرجنا من الدردور، فصاح الرئيس: اقطعوا الحبال عاجلاً فقطعناها ونجونا بقدرة الله من الهلاك، فقال الرئيس للجماعة: تلومونني على حمل هذه الحبال فانظروا كيف كانت سبباً لحياتكم وسلامتكم، فحمدنا الله تعالى وشكرنا الرئيس لنظره في العواقب.


يتبع

الصورة الرمزية يناير
يناير
عضو
°°°
افتراضي




ومنها بحر الهند: وهو أعظم البحار وأوسعها وأكثرها خيراً ومالاً، ولا علم لأحد بكيفية اتصاله بالبحر المحيط لعظمته وسعته وخروجه عن تحصيل الأفكار، وليس هو كالبحر الغربي، فإن اتصال البحر الغربي بالمحيط ظاهر. ويتشعب من هذا البحر الهندي خليجان أعظمهما بحر فارس ثم بحر القلزم، فالآخذ نحو الشمال بحر فارس والآخذ نحو الجنوب بحر الزنج. قال ابن الفقيه: بحر الهند مخالف لبحر فارس، وفي هذا جزائر كثيرة وقيل إنها تزيد على عشرين ألف جزيرة وفيها من الأمم ما لا يعلمه إلا الله تعالى فأما ما وصل إليه الناس فأقل قليل.

فمن جزائره جزيرة كله: وهي جزيرة عظيمة بها أشجار وأنهار وثمار، ويسكنها ملك بني جابة الهندي، وبها معادن القصدير وشجر الكافور وهو شبيه بالصفصاف وهي تظل مائة رجل وأكثر، وبها الخيزران، وفي عجائب هذه الجزيرة ما يقع واصفها في حد التكذيب.


(1/213)


جزيرة جابة: وهي كبيرة وبها الموز والنارجيل والأرز والقصب السكري الفائق، وبها العود، ويسكنها قوم شقر وجوههم، على صدورهم شعورهم، وأبدانهم كالناس. وبها جبل عظيم يرى عليه في الليل نار عظيمة ترى من خمسة عشر فرسخاً وبالنهار دخان، ولا يدنو أحد من ذلك الجبل على خمسة فراسخ إلا هلك.

وملك هذه المدينة اسمه جابة، وهو يلبس من الحلل حلة الذهب وتاجاً من ذهب مكللاً بالدر والياقوت والجواهر النفيسة، ودراهمه ودنانيره مطبوعة على صورته وهيئته، وهو يعبد صنماً، وصلاتهم غناء وتلحين وتصفيق بالأكف واجتماع الجواري الحسان ولعبهن بأنواع من التكسر والتخلع بين يدي المصلي، والكنيسة التي فيها الصنم فيها جوار حسان راقصات متخلعات معدودة لذلك، وذلك إن المرأة إذا ولدت عندهم بنتاً حسنة أخذتها أمها إذا كبرت وألبستها أفخر الملابس والحلي وذهبت إلى الكنيسة وتصدقت بها على الصنم وحولها أهلها وأقاربها من النساء والرجال، ويسلمها الخدمة إلى أناس عارفين بالرقص، والتخلع والتكسر فيعلمونها. ولهذا الملك جزائر كثيرة منها جزيرة هريج وجزيرة سلاهط وجزيرة مايط.

فأما جزيرة هريج: فإن بها خسفة متسعة نحو عشرة أميال مستديرة لا يعرف أحد قعرها ولا وقف أحد على قرارها وهي من عجائب الدنيا.

وجزيرة سلاهط: يجلب منها الصندل والسنبل والكافور. وذكر المسافرون أن بجزائر الكافور قوماً يأكلون الناس ويأخذون قحوفهم فيجعلون فيها الكافور والطيب ويعلقونها في بيوتهم ويعبدونها، فإذا عزموا على أمر وقصد سجدوا لتلك القحوف وسألوها عما يريدون ويقصدون، فتخبرهم عن كل ما يسألونها عنه من خير أو شر.


(1/214)


وبهذه الجزيرة عين يفور منها الماء وينزل في ثقب في الأرض فيطلع له رشاش فأي شيء وقع من ذلك الرشاش على وجه الأرض صار حجراً، فإن كان ليلاً صار حجراً أسود، أو بالنهار صار حجراً أبيض، وبآخر هذه الجزيرة خسفة أخرى كالبيكارة، دورها نحو الميل تتقد ناراً وتعلو نارها نحو مائة ذراع بالليل، ولها بالنهار دخان.

وجزيرة برطابيل: وهي قرية من جزائر الزنج وبها أقوم وجوههم كالأترسة، وشعورهم كأذناب الخيل، وبها القرنفل الكثير وبها الكركند، وإن التجار إذا نزلوا بها وضعوا بضائعهم كوماً كوماً على الساحل ويعودون إلى المراكب فإذا أصبحوا جاؤوا إلى بضائعهم فيجدون إلى جانب كل بضاعة شيئاً من القرنفل، فإن رضيه صاحب البضاعة أخذه وانصرف وإن لم يرض ترك القرنفل والبضاعة وعاد في اليوم الثاني فيجده قد زيد فيه، فإن رضيه أخذه وإلا تركه وعاد من الغد أيضاً، ولا يزال كذلك حتى يرضى.

وذكر بعض التجار أنه صعد إلى هذه الجزيرة سراً فرأى بها قوماً صفر الوجوه وهي كوجوه التراك وآذانهم مخرمة، ولهم شعور كشعور النساء. فلما رآهم غابوا عنه وعن بصره. ثم إن التجار بعد أن ترددوا إلى تلك الجزيرة بالبضائع مدة طويلة فلم يأتهم شيء من القرنفل فعلموا أن ذلك بسبب الرجل الذي نظر إليهم ورآهم ثم عادوا بعد سنين إلى ما كانوا عليه من المعارضة بالقرنفل. وخاصية هذا القرنفل أن الإنسان إذا أكله رطباً لا يشيب ولا يهرم ولو بلغ مائة سنة.

ولباس هذه الأمة ورق شجر يقال له اللوف، وأكلهم من ثمره، ويأكلون السمك أيضاً والنارجيل. وبهذه الجزيرة جبال يسمع فيها طول الليل أصوات الطبول والصنوج والدفوف والمزامير


(1/215)


المطربة والصياح المزعج وغير ذلك من الأصوات العجيبة. وقيل إن الدجال بها، وقيل إنه بغيرها. وسنذكره إن شاء الله تعالى.

جزيرة القصر: وهو قصر عظيم مرتفع أبيض من بلور شفاف يظهر لمن في المراكب من مسافة بعيدة. فإذا شاهدوه تباشروا بالسلامة. ذكر قوم من الزنج أنه قصر مرتفع شاهق لا يدري ما داخله.

وحكي أن بعض الملوك وصل إلى هذه الجزيرة وشاهد القصر هو ومن معه من جنوده، فلما صاروا في الجزيرة أخذهم الخدران في مفاصلهم وغلب عليهم النوم، فبادر بعضهم إلى المراكب فنجوا وتأخر البعض فهلكوا.

وذكر أن أصحاب ذي القرنين رأوا في بعض هذه الجزائرة أمة رؤوسهم رؤوس الكلاب، ولهم أنياب خارجة من أفواههم حمر مثل الجمر، يخرجون إلى المراكب ويحاربونهم. ورأوا بجزيرة تلك الأمة نوراً ساطعاً فإذا هو القصر الأبيض البلوري، فأراد ذو القرنين التوجه إليها ورؤية القصر فمنعه بهرام الفيلسوف الهندي من ذلك وقال: يا ملك الزمان لا تفعل فإن من وصل إلى هذا القصر غلب عليه الخدران والنوم والثقل وقلة الحركة فلا يقدر على الخروج ويهلك.

وذكر بهرام المذكور أن بهذه الجزيرة شجرة إذا أكلوا من ثمرها زال عنهم النوم والخدران، وإذا كان الليل ظهر لذلك القصر شرفات تسرج مثل المصابيح، الليل كله فإذا كان النهار خمدت.


(1/216)


وجزيرة الورد: ذكر القاضي عياض رحمه الله تعالى في كتاب الشفا في شرف المصطفى صلى الله عليه وسلم أن بهذه الجزيرة ورداً أحمر مكتوباً عليه بالأبيض لا إله إلا الله محمد رسول الله، والكتابة بالقدرة الإلهية.

الجزائر الثلاث: قال صاحب تحفة الغرائب: هي ثلاث جزائر متجاورات، في احداهن برق الليل كله، وفي الأخرى تهب رياح شديدة، الليل كله، وفي الأخرى يمطر السحاب الليل كله صيفاً وشتاء على ممر الليالي والأيام أبداً.

ومنها جزيرة في هذا البحر بها أقوام أبدانهم أبدان الآدميين ورؤوسهم رؤوس الدواب يخوضون في البحر فيخرجون ما يقدرون عليه من البحر فيأكلونها.

وجزيرة صيدون الساحر: وكان صيدون ملكاً ساحراً، وطول هذه الجزيرة شهر في شهر، وبها عجائب كثيرة: ومنها: أن في وسطها قصراً عظيماً في عمد عظيمة من مرمر ملون، ومجلسه من ذهب مرصع بأنواع الجواهر العظيمة، يشرف على جميع تلك الجزيرة. قيل إن هذا الملك صيدون كان ساحراً ماهراً وكانت الجن تطيعه وتعمل الأعمال المعجزة العجيبة. فدل عليه بعض الجن نبي الله سليمان عليه السلام فغزاه وقتله وخرب بلده وقتل أهلها وأسر جماعة منهم. وأما عجائب هذا البحر فكثيرة جداً: منها: سمكة تخرج من البحر وتصعد إلى جزيرة سلاهط وتصعد إلى أشجارها فتمتص فواكهها وثمارها ثم تقع كالسكران فيأخذها الناس.

ومنها: سمكة خضراء رأسها كرأس الحية من أكل لحمها اعتصم من الطعام والشراب أياماً لا يشتهيه.

ومنها: سمكة مدورة يقال لها كرماهي، على ظهرها شبه عمود محدد الراس قائم لا تقوم لها سمكة في البحر إلا ضربتها بذلك العمود وقتلتها.


(1/217)


ومنها: سمكة يقال لها الباقة، طولها مائة ذراع وعرضها عشرون ذراعاً وعلى ظهرها حجارة صدفية كالقرابيص، إذا تعرضت للسفينة كسرتها، وإذا طبخوا من لحمها في القدر يذوب حتى يصير كله دهناً. وأهل تلك النواحي يطلون بدهنها المراكب عوضاً عن الدهن.

ومنها: سمكة يقال لها العمدة، لها جناحان تفتحهما في الجو وتنشرهما وتحمل على السفينة فتقلبها في البحر في الحال، فإذا رأوها ضربوا الطبول والصنوج والزمور وصاحوا فتهرب.


(1/218)


فصل في بحر فارس

وما فيه من الجزائر والعجائب

ويسمى البحر الأخضر، وهو شعبة من بحر الهند الأعظم وهو بحر مبارك كثير الخير دائم السلام وطيء الظهر قليل الهيجان بالنسبة إلى غيره.

قال أبو عبد الله الصيني: خص الله بحر فارس بالخيرات الكثيرة والبركات الغزيرة والفوائد والعجائب والطرف والغرائب، منها مغاص الدر الذي يخرج منه الحب الكبير البالغ، وربما وجدت الدرة اليتيمة التي لا قيمة لها. وفي جزائره معادن أنواع اليواقيت والأحجار الملونة النفيسة ومعادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص والسنباذج والعقيق وأنواع الطيب والأفاويه.

فمن جزائره كيكاووس وفنجاليوس: وهي جزيرة كبيرة بها خلق كثير بيض الألوان عراة الأجسام، الرجال والنساء، وربما استترت النساء بورق الشجر، وطعامهم السمك الطري والنارجيل والموز، وأموالهم الحديد؛ يتعاملون به كتعامل الناس بالذهب والفضة، يتحلون بالذهب ويأتيهم التجار فيأخذون منهم العنبر بالحديد. وذكر أن بهذا البحر جزيرة تسمى: القامس وأنها تغيب بأهلها وجبالها وجهاتها ومساكنها ستة أشهر وتظهر ستة أشهر.

وذكر بعض المسافرين أن البحر هاج عليهم مرة فانتظروا، فإذا شيخ أبيض الرأس واللحية وعليه ثياب خضر ينتقل على متن البحر وهو يقول: سبحان من دبر الأمور، وقدر المقدور، وعلم ما في الصدور، وألجم البحر بقدرته أن يفور، سيروا بين الشمال والشرق حتى تنتهوا إلى جبل الطرق، واسلكوا وسط ذلك فتنجوا إن شاء الله من المهالك. ففعلوا ذلك فسلموا ونجوا وتحققوا أنه الخضر عليه السلام، ووصلوا إلى جزيرة بها خلق طوال الوجوه بأيديهم قضبان الذهب يعتمدون عليها


(1/219)


ويتقاتلون بها وطعامهم اللوز والقسطل، فأقاموا عندهم شهراً وأخذوا من قضبان الذهب شيئاً كثيراً ولم يمنعهم أهل الجزيرة من أخذ ذلك؛ وأقاموا حتى هبت رياحهم فسافروا على السمت الذي قال لهم الخضر عليه السلام، فتخلصوا ونجوا بمشيئة ذي الجلال والإكرام.

جزيرة الطويران: وهي جزيرة خصبة ذات أشجار وثمار وأعين وأنهار، وبها قوم أبدانهم أبدان الآدميين ورؤوسهم كرؤوس السباع والكلاب. وبهذه الجزيرة نهر شديد البياض وعلى شاطئه شجرة عظيمة تظل خمسمائة رجل، فيها من كل ثمرة طيبة مشرقة بأنواع الألوان، وكل ثمرها أحلى من الشهد والعسل، وطعم كل ثمرة لا يشبه طعم الأخرى، وتلك الثمار ألين من الزبد وأذكى رائحة من المسك، ورقها كحلل الحرير والديباج. وهذه الشجرة تسير بسير الشمس ترتفع من الغد إلى الزوال، وتنحط من الزوال إلى الغروب حتى تغيب بغيبة الشمس.

وذكر أن أصحاب ذي القرنين وصلوا إلى هذه الجزيرة ورأوا تلك الشجرة فجمعوا من ثمرها شيئاً كثيراً ومن أوراقها ليحملوا ذلك إلى ذي القرنين فضربوا على ظهورهم بسياط مؤلمة، يحسون بوقع السياط ولا يرونها ولا يدرون من الضارب، ويصيحون بهم ردوا ما أخذتم من هذه الشجرة ولا تتعرضوا لها فردوا ما أخذوا منها وركبوا مراكبهم وسافروا عنها.

وجزيرة العباد: وهي جزيرة عظيمة دخلها ذو القرنين فوجد بها قوماً قد أنحلتهم العبادة حتى صاروا كالحمم السود. فسلم عليهم فردوا عليه السلام. فسألهم: ما عيشكم يا قوم في هذا المكان؟ فقالوا: ما رزقنا الله تعالى من الأسماك وأنواع النباتات، ونشرب من هذه المياه العذبة. فقال لهم: ألا أنقلك إلى عيشة أطيب مما أنت فيه وأخصب؟ فقالوا له: وما نصنع به؟ إن عندنا في جزيرتنا هذه ما يغني


(1/220)


جميع العالم ويكفيهم لو صاروا إليه وأقبلوا عليه. قال: وما هو؟ فانطلقوا به إلى واد لا نهاية لطوله وعرضه، يتقد من ألوان الدر والياقوت والكهرمان والأصفر والأزرق والزبرجد والبلخش والأحجار التي لم تر في الدنيا، والجواهر التي لا تقوم. ورأى شيئاً لا تحمله العقول ولا يوصف بعض بعضه، ولو اجتمع العالم على نقل بعضه لعجزوا. فقال: لا إله إلا الله، سبحان من له الملك العظيم ويخلق الله ما لا تعلمه الخلائق.

ثم انطلقوا به من شفير ذلك الوادي حتى أتوا به إلى مستوى واسع من الأرض لا تنهيه الأبصار، به أصناف الأشجار وأنواع الثمار وألوان الأزهار وأجناس الأطيار، وخرير الأنهار وأفياء وظلال ونسيم ذو اعتلال، ونزه ورياض وجنات وغياض. فلما رأى ذو القرنين ذلك سبح الله العظيم واستصغر أمر الوادي وما به من الجواهر عند ذلك المنظر البهيج الزاهر. فلما تعجب من ذلك قالوا له: أي ملك ملك في الدنيا بعض بعض ما ترى؟ قال: لا وحق عالم السر والنجوى، فقالوا: كل هذا بين أيدينا ولا تميل أنفسنا إلى شيء من ذلك. وقنعنا بما نقوى به على عبادة الرب الخالق. ومن ترك لله شيئاً عوضه الله خيراً منه، فاتركنا ودعنا بحالنا أرشدنا الله وإياك. ثم ودعوه وفارقوه وقالوا له: دونك والوادي فاحمل منه ما تريد. فأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً.

وجزيرة الحكماء: وهي جزيرة عظيمة وصل إليها الإسكندر فرأى بها قوماً لباسهم ورق الشجر وبيوتهم كهوف في الصخر والحجر، فسألهم مسائل في الحكمة فأجابوه بأحسن جواب وألطف خطاب. فقال لهم: سلوا حوائجكم لتقضى. فقالوا له: نسألك الخلد في الدنيا، فقال: وأنى ذلك لنفسي؟ ومن لا يقدر على زيادة نفس من أنفاسه كيف يبلغكم الخلد؟ فقالوا له: نسألك صحة في أبداننا ما بقينا؛ قال:


(1/221)


وهذا أيضاً لا أقدر عليه. قالوا: فعرفنا بقية أعمارنا. فقال الاسكندر: لا أعرف ذلك لنفسي فكيف بكم؟ فقالوا له: فدعنا نطلب ذلك ممن يقدر على ذلك وأعظم من ذلك، وهو ربنا وربك ورب العالمين.

وجعل الناس ينظرون إلى كثرة جنود الاسكندر وعظمة موكبه وبينهم شيخ صعلوك لا يرفع رأسه فقال له الإسكندر: مالك لا تنظر إلى ما ينظر إليه الناس؟ قال الشيخ: ما أعجبني الملك الذي رأيته قبلك حتى أنظر إليك وإلى ملكك. فقال الإسكندر: وما ذاك؟ قال الشيخ: كان عندنا ملك وآخر صعلوك فماتا في يوم واحد، فغبت عنهما مدة ثم جئت إليها واجتهدت أن أعرف الملك من المسكين فلم أعرفه. قال: فتركهم الاسكندر وانصرف عنهم.

وأما عجائب هذا البحر: فمنها ما ذكره صاحب عجائب الأخبار أن في هذا البحر طائراً مكرماً لأبويه، فإنهما إذا كبرا وعجزا عن القيام بأمر أنفسهما يجتمع عليهما فرخان من أفراخهما فيحملانهما على ظهورهما إلى مكان حصين ويبنيان لهما عشاً وطيناً ويتعهدانهما بالزاد والماء إلى أن يموتا؛ فإن ماتا الفرخان قبلهما يأتي إليهما آخران من أفراخهما ويفعلان بهما كما فعل الأوان وهلم جرا؛ هذا دأبهما إلى أن يموت والدهما.

وفيه سمكة: يقال لها الدفين ولها رأس مربع وفم كالقمع لا تفتحه يقولون إذا أكل المجذوم من لحمها مطبوخاً برئ من الجذام.

وفيه سمكة: وجهها كوجه الإنسان وبدنها كبدن السمك تظهر على وجهه الماء شهراً وتغيب شهراً.

وسمكة: تطفو على وجه الماء فإذا رأت سمكة أو حيواناً من دواب البحر قد فتح فاه تدخل في فيه وتصير غذاء له.


(1/222)


وفيه حيوان: يخرج من الماء إلى البر ويرتفع والنار خارجة من فيه ومنخريه فيحرق ما حوله من النبات فإذا رأى الناس تلك الأرض محترقة علموا أن ذلك الحيوان وقع هناك.

وسمكة طيارة تطير ليلاً من البحر إلى البر ولا تزال تأكل في الحشيش إلى طلوع الشمس فتعود طائرة إلى البحر.

وفي هذا البحر المذكور المعطب الذي يسمى الدردور إذا وقعت فيه المراكب تدور ولا تخرج منه على طول الأزمان والدهور. والدردور هذا في ثلاثة أبحر: في هذا البحر وفي بحر الصين وفي بحر الهند. والله سبحانه وتعالى أعلم.


(1/223)


فصل في بحر عمان

وجزائره وعجائبه

وهو شعبة من بحر فارس عن يمين الخارج من عمان، وهو بحر كثير العجائب غزير الغرائب، وفيه مغاص اللؤلؤ ويخرج منه الحب الجيد، وفيه جزائر كثيرة معمورة مسكونة: منها جزيرة خارك: وهي كبيرة عامرة آهلة وبها مغاص اللؤلؤ.

وجزيرة خاسك: وهي بقرب جزيرة قيس وأهلها لهم خبرة بالحرب وصبر عليه في البحر، فإن الرجل منهم يسبح أياماً في الماء وهو يجالد بالسيف كما يجالد غيره على وجه الأرض.

حكاية عجيبة: حكي أن بعض الملوك بالهند أهدى لبعض الملوك جواري هنديات حساناً فلما عبرت المراكب والجواري بهذه الجزيرة خرجن يتفسحن في مصالحهن في أرضها فاختطفتهن الجن، ونكحهن فولدن هؤلاء القوم.

وجزيرة سلطى: وهي كبيرة وفيها قوم يسمع كلامهم وضجيجهم من مسافة بعيدة، ومن وصل إليهم يخاطبهم ويخاطبونه غير أنهم لا يرون بأشخاصهم، ويقال إنهم من الجن وهم مؤمنون، فإذا وصل إليهم الغريب جعلوا له من الزاد ما يكفيه ثلاثة أيام فإذا أراد الرجوع إلى أهله حملوه في مركب وأوصلوه إلى قصده.


(1/224)


وجزيرة الشجر: وبها شجر يحمل ثمراً كاللوز في صفته وقدره، يؤكل بقشره وهو أحلى من الشهد ويقوم مقام كل دواء، ومن أكل منه من الرجال والنساء يزداد قوة وشباباً ولا يهرم أبداً ولا يشيب، وإن كان آكله طاعناً في السن وقد ذهبت قوته وابيض شعره عاد في الحال إلى قوة الشباب واسود شعره. وذكر أن بعض الملوك بالهند زرعه في أرضه فأورق ولم يثمر.

وجزيرة الدهلان: وهو شيطان في صورة إنسان راكب على طير يشبه النعامة، يأكل لحوم الناس، إذا طلع أحد من المراكب إلى تلك الجزيرة أخذهم ودفعهم إلى مكان لا خلاص لهم منه وأكلهم واحداً بعد واحد.

وحكي أن مركباً ألجأته الريح إلى تلك الجزيرة، وكانوا قد سمعوا بذلك الشيطان، فلما أتاهم قاتلوه وصبروا على قتاله صبر الكرام، فلما رأى ذلك منهم صاح بهم صيحة سقطوا منها مغشياً عليهم، فجعل يجرهم على وجوههم إلى موضعه المعهود، وكان فيهم رجل صالح فدعا عليه فهلك وعاد إلى موضعه طالباً لما فيه من الأموال والذخائر وأمتعة الناس.

جزيرة الصريف: وهي جزيرة تلوح لأصحاب المراكب فيطلبونها وكلما قربوا منها تباعدت عنهم، وربما أقاموا لذلك أياماً كثيرة فلا يصلون إليها وقيل إن أحداً منهم لم يدخلها قط، إلا أنهم رأوا فيها دواب وأشخاصاً.


(1/225)


جزيرة القندج: فيها صنم من رخام أخضر ودموعه تسيل على ممر الأيام والليالي فإذا دخل الريح في جوفه صفر صفيراً عجيباً. ذكر المسافرون أنه يبكي على قوم كانوا يعبدونه من دون الله، وقيل إن بعض الملوك غزا عباد ذلك الصنم فأفناهم وأبادهم عن آخرهم واجتهد في كسر ذلك الصنم فلم يقدر ولم تعمل فيه الآلة، وكلما ضربوه بمعول عاد الضرب إلى الضارب فقتله. فتركوه وانصرفوا.

جزيرة سرندوسة: وهي كبيرة عامرة، بها أشجار وأنهار وثمار، وعند أهلها من الذهب ما لا يكيف: فماعونهم ذهب، وآنيتهم ذهب، وقدورهم ذهب، وخوابيهم ذهب، وسلاحهم ذهب، ولهم ملك يدفع لهم كل من يقصدهم أو يقصد الخروج من عندهم بشيء من ذلك. وعجائب هذا البحر كثيرة: وذكر أن العنبر الخالص ينبت في قعر هذا البحر كما ينبت القطن في الأرض، فإذا اضطرب البحر قذف به، وربما أكل منه الحوت العظيم الجرم فيموت فيطفو على وجه الماء في اليوم الثالث فيجذبه أهل المراكب بالكلاليب إلى الساحل فيأخذون العنبر من جوفه.

وملكان: نوع من السمك يطفو على وجه البحر في ثالث عشر كانون الثاني، يدل ذلك على خروج ريح يضطرب لها البحر حتى يصل الاضطراب إلى بحر فارس، ويشتد هيجانه ويتكدر لونه وتنعقد ظلمته بعد طفو هذا السمك بيوم واحد.

ومنها الأمشور: وهو سمك يأتي بالبصرة في وقت معين، فيبقى مدة شهرين وينقطع فلا يعود إلا في ذلك الوقت بعينه من العام القابل.

والجراف: أيضاً سمك وأوانه مثل أوانه وانقطاعه.

ومنها: حيوان يعرف بالتنين شر من الكوسج، طوله كالنخلة السحوق، أحمر العينين كريه المنظر، له أنياب كأسنة الرماح، يقهر الحيوانات كلها حتى الكوسج.


(1/226)


ومنها: سمكة خضراء أطول من ذراع؛ لها خرطوم طويل عظيم كالمنشار تضرب به من عارضها فتقده؛ وفي هذا البحر دردور صغير.

حكى القزويني: أن رجلاً من أصفهان ركبته ديون كثيرة ففارق أصفهان وركب هذا البحر صدفة مع تجار فتلاطمت بهم الأمواج حتى حلوا في الدردور ببحر فارس، فقال التجار للرئيس: هل تعرف لنا سبيلاً إلى الخلاص فنسعى فيه؟ فقال: إن سمح أحدكم بنفسه تخلصنا. فقال الرجل الأصفهاني المديون في نفسه: كلنا في موقف الهلاك وأنا قد كرهت الحياة وسئمت البقاء.

وكان في السفينة جمع من التجار الأصفهانيين، فقال الرجل لهم: هل تحلفون لي بوفاء ديوني وخلاص روحي وأقديكم بروحي وأوثركم بحياتي وتحسنون إلى عيالي ما استطعتم؟ فحلفوا له على ذلك وفوق ما شرط، فقال الأصفهاني للرئيس: ما تأمرني أن أفعل فقد سلمت نفسي لله طلباً لخلاصكم إن شاء الله تعالى، فقال له الرئيس: آمرك أن تقف ثلاثة أيام على ساحل هذا البحر وتضرب على هذا الدهل ليلاً ونهاراً ولا تفتر عن الضرب أبداً، قلت: أفعل إن شاء الله تعالى. فأعطوني من الماء والزاد ما أمكن.

قال الأصفهاني فأخذت الدهل والماء والزاد وتوجهوا بي نحو الجزيرة وأنزلوني بساحلها فأخذت وشرعت في ضرب الدهل فتحركت المياه وجرى المركب وأنا أنظر إليهم حتى غاب المركب عن بصري، فجعلت أطوف في تلك الجزيرة وإذا أنا بشجرة عظيمة وعليها شبه سطح فلما كان الليل وإذا بهدة عظيمة فنظرت فإذا طائر عظيم في الخلقة قد سقط على ذلك السطح الذي في الشجرة فاختفيت خوفاً منه، فلما كان الفجر انتفض بجناحيه وطار، فلما كان الليل جاء أيضاً وحط مكانه الذي حط فيه البارحة فدنوت منه فلم يتعرض لي بسوء ولا التفت إلي أصلاً وطار عند الصباح.


(1/227)


فلما كان ثالث ليلة وجاء الطائر على عادته وقعد مكانه جئت حتى قعدت عنده من غير خوف ولا دهشة إلى أن نفض جناحيه فتعلقت بإحدى رجليه بكلتا يدي فطار بي إلى أن ارتفع النهار، فنظرت إلى تحتي فلم أر إلا لجة ماء البحر فكدت أن أترك رجله وأرمي بنفسي من شدة ما لقيت من التعب، فتصبرت زماناً، وإذا بالقرى والعمارة تحتي ففرحت وذهب ما كان بي من الشدة، فلما دنا الطائر من الأرض رميت نفسي على صبرة تبن في بيدر، وطار الطائر فاجتمع الناس حولي وتعجبوا مني وحملوني إلى رئيسهم وأحضروا لي من يفهم كلامي، فأخبرتهم قصتي فتبركوا بي وأكرموني وأمروا لي بمال وأقمت عندهم أياماً.

فخرجت يوماً لأتفرج وإذا أنا بالمركب الذي كنت فيه قد أرسى؛ فلما رأوني أسرعوا إلي وسألوني عن أمري فأخبرتهم فحملوني إلى أهلي وأقاموا لي بالمال وفوق الشرط، فعدت بخير وغنى وسلامة.


(1/228)


فصل في بحر القلزم

وجزائره وما به من العجائب

وهذا البحر شعبة من بحر الهند، جنوبيه بلاد بربر والحبشة؛ وعلى ساحله الشرقي بلاد العرب وعلى ساحله الغربي بلاد اليمن. والقلزم اسم لمدينة على ساحله؛ وهو البحر الذي غرق فيه فرعون؛ وهو بحر مظلم موحش لا خير فيه باطناً ولا ظاهراً؛ وفي هذا البحر جزائر كثيرة وغالبها غير مسكونة ولا مسلوكة.

فمن جزائره جزيرة قريبة من أيلة يسكنها قوم يقال لهم بنو حداب؛ ليس لهم زرع ولا ضرع ولا ماء عذب؛ معاشهم من السمك؛ وبيوتهم السفن المكسرة، ويشحذون الماء والخبز ممن يمر بهم من المسافرين؛ وعندهم دوارة في سفح جبل إذا وقع الريح عليها انقسمت قسمين ويلقي المراكب بين شعبين متقابلين فيثور الريح بينهما ويخرج من كليهما متخالفين، فتنقلب المركب بمن فيها؛ وقيل إن هذا الموضع غرق فيه فرعون.

وجزيرة الجساسة: وبها دابة تجس الأخبار وتأتي بها إلى الدجال؛ قال تميم الداري رضي الله عنه؛ وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقد اختطفته الجن من صحن داره؛ ومكث في بلاد الجن وغيرها مدة طويلة ورأى العجائب وقصته طويلة مشهورة؛ قال: وركبنا هذا البحر فأصابتنا ريح عاصف ألجأتنا إلى هذه الجزيرة فإذا نحن بدابة استوحشنا منها وقلنا لها: ما أنت؟ قالت: أنا


(1/229)


الجساسة؛ قلنا لها: أخبرينا الخبر؛ قالت: إن أردتم الخبر فعليكم بهذا الدير فإن به رجلاً هو بالشوق إليكم؛ فأتيناه فقال لنا: كيف وصلتم؟ فأخبرناه الخبر؛ فقال: ما فعلت طبرية؛ قلنا: تدفق الماء بين أجوافها؛ قال: فما فعلت نخلات عمان؟ قلنا: يجنيها أهلها: قال: فما فعلت عين زغر؟ قلنا: يشرب منها أهلها، فقال: لو نفدت لتخلصت من وثاقي فوطئت بقدمي هذا كل سهل وجبل إلا مكة والمدينة.

وبعضهم يزعم أنه ابن صياد، الذي كان بمكة، وكان يقال ذلك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينكره. قال ابن سعيد: صحبت ابن صياد من مكة، قال: ماذا لقيت من الناس؟ يزعمون أني الدجال، ألم يقل نبي الله إنه يهودي، وقد أسلمت، وقال إنه لا يولد له، وقد ولد لي، وقال: إن الله حرم عيه المدينة ومكة، وقد ولدت بالمدينة وحججت إلى حرم مكة، ثم قال في آخر قوله: والله إني أعرف أين هو الآن وأعرف أباه وأمه. وقيل له يوماً: أيسرك لو كنت ذاك؟ فقال: لو عرض لي لما كرهته.

وقال نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما: لقيت ابن صياد في بعض طرق المدينة، فقلت له قولاً أغضبته، فانتفخ حتى ملأ الطريق، ثم دخلت بعد ذلك على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بلغها الخبر فقالت: يرحمك الله ما أردت من ابن صياد؟ أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنما يخرج من غضبة يغضبها.


(1/230)


وأما عجائب هذا البحر: فمنها سمكة تزيد على مائتي ذراع تضرب السفينة بذنبها فتغرقها.

ومنها: سمكة مقدار ذراع، بدنها كبدن السمك ووجهها كوجه البوم.

ومنها: سمكة طولها نحو عشرين ذراعاً ومن ظهرها الدبل الجيد، وهي تلد كالآدمية وترضع مثلها.

ومنها: سمكة تصاد وتجفف فيبقى لحمها مثل القطن يتخذ منه غزل وينسج منه ثياب فاخرة، تسمى تلك الثياب سمكين.

ومنها: سمكة على خلقة البقر تلد وترضع كالبقرة، وسمكة عريضة عرضها أميز من طولها يقال لها البهار ويقارب وزنها قنطاراً؛ طيبة اللحم والطعم.

وسمكة: طولها شبران ولها رأسان؛ رأس في موضعه العادي، ورأس في موضع ذنبها، وتسمى الخنجر.

وسمك: يقال له الفرس، وهو نوع من كلاب الماء في البحر، في فمه سبع صفوف أضراس وطوله عشرة أشبار، وهو كثير الضرر والأذى.


(1/231)


فصل في بحر الزنج

وهو بحر الهند بعينه

وبلاد الزنج منه في جانب الجنوب تحت سهيل وراكب هذا البحر يرى القطب الجنوبي ولا يرى القطب الشمالي ولا بنات نعش، وهو متصل بالبحر المحيط، موجه كالجبال الشواهق وينخفض كأخفض ما يكون من الأودية وليس له زبد مثل سائر البحار، وفيه جزائر كثيرة ذوات أشجار وغياض لكنها ليست بذوات ثمار، مثل شجر الآبنوس والصندل والساج، والعنبر يصاد ويلقط من ساحلها، وبها يوجد منه كل قطعة كالتل العظيم.


(1/232)


فمن جزائره المشهورة الجزيرة المحترقة: وهي جزيرة واغلة في هذا البحر قل أن يصل إليها أحد. قال بعض التجار: ركبت في هذا البحر فدارت بي الأوقات حتى نزلت في هذه الجزيرة فرأيت فيها خلقاُ كثيراً وأقمت بها زماناً وتأنست بأهلها وتعلمت لغتهم، فلما كان في بعض الأيام رأيت الناس مجتمعين ينظرون إلى كوكب طلع من أفقهم وهم يبكون ويلطمون ويتودعون، فسألت عن السبب فقالوا: إن هذا الكوكب يطلع بعد كل ثلاثين سنة مرة حتى إذا وصل إلى سمت رؤوسهم يركبون البحر ومعهم جميع ما يخافون عليه من المال والقماش والأمتعة فسامت الكوكب رؤوسهم فركبوا البحر وركبت معهم وصحبوا في المراكب جميع ما كان في الجزيرة مما يحمل وينقل، وسرنا وغبنا عن الجزيرة مدة ثم عدت معهم فوجدنا جميع ما كان بها من الأماكن والبنيان والأشجار وغيرها قد احترق وصار رماداً، فشرعوا في العمارة ثانياً ولا يزالون كذلك على الدوام، في كل ثلاثين سنة تحترق الجزيرة ويجددون بناءها.

ومن جزائره جزيرة الضوضاء: وهي مما يلي الزنج. حكى بعض التجار أن بها مدينة من حجر أبيض ولا ساكن بها، غير أنهم يسمعون بها جلبة وضوضاء يدخلها البحريون ويشربون من مائها ويحملون منه إلى المراكب، وهو ماء طيب عذب وفيه رائحة الكافور، وبقربها جبال عظيمة تتوقد منها نار عظيمة في الليل وحواليها حية


(1/233)


تظهر في كل سنة مرة واحدة فيحتال عليها ملوك الزنج ويصيدونها ويتخذون من جلدها فراشاً يجلس عليه صاحب السل فيبرأ.

جزيرة العور: وهي جزيرة كبيرة حكى يعقوب بن إسحق السراج قال: قال لي رجل من أهل رومية: ركبت في هذا البحر فألقتني الريح في هذه الجزيرة فوصلت إلى مدينة أهلها قاماتهم طولها ذراع وأكثرهم عور، فاجتمع علي منهم جمع وساقوني إلى ملكهم فأمر بحبسي في قفص، فكسرته فأمنوني وتركوا الاحتجاز علي. فلما كان في بعض الأيام رأيتهم قد استعدوا للقتال فسألتهم عن ذلك فقالوا لنا عدو يأتينا في كل سنة مرة ويحاربنا وهذا أوانه فلم ألبث إلا قليلاً حتى طلعت علينا عصابة من الطيور والغرانيق وكان ما بهم من العور من نقر الغرانيق فحملت الطيور عليهم وصاحت بهم، فلما رأيت ذلك شددت وسطي وأخذت عصاً وشددت عليهم وحملت فيهم وصحت فيهم صيحة منكرة ورميت منهم جماعة، فصاحوا وطاروا هاربين مني. فلما رأى أهل الجزيرة ذلك أكرموني وعظموني وأفادوني مالاً وسألوني الإقامة عندهم فلم أفعل، فحملوني في مركب وجهزوني.

وذكر أرسطاطاليس أن الغرانيق تنتقل من بلاد خراسان إلى بلاد مصر حيث مسيل النيل، فتقاتل أولئك العور في طريقهم، وهم قوم في طول


يتبع



الصورة الرمزية يناير
يناير
عضو
°°°
افتراضي
ذراع.
جزيرة سكسار: وهي جزيرة عظيمة، وهم قوم لا عظام لأرجلهم وسوقهم. حكى المؤرخ ابن إسحق قال: لقيت رجلاً في وجهه خموش كثيرة فسألته عنها فقال: كنت في بحر الزنج مع جماعة فألقتنا الريح إلى جزيرة سكسار فلم نستطع أن نخرج منها لشدة الريح، فأتانا قوم وجوههم وجوه الكلاب وأبدانهم أبدان الناس، فسبق إلينا واحد منهم بعصاً كانت معه ووقف جماعة من ورائنا فساقونا إلى
(1/234)
منازلهم فرأينا فيها جماجم وقحوفاً وسوقاً وأذرعاً وأضلاعاً كثيرة فأدخلونا بيتاً فيه إنسان ضعيف وجعلوا يأتوننا بأكل كثير وطعام غزير وفواكه طيبة، فقال لنا ذلك الرجل الضعيف: إنما يطعمونكم لتسمنوا وكل من سمن أكلوه.
قال: فجعلت أقلل أكلي دون أصحابي وصار كلما سمن واحد ذهبوا به وأكلوه، حتى بقيت وحدي وذلك الرجل الضعيف، فقال لي الرجل يوماً: إن هؤلاء قد حضرهم عيد يخرجون إليه ويغيبون مدة ثلاثة أيام فإن استطعت أن تنجو بنفسك فانج منهم، وأما أنا فكما تراني لا أستطيع الحركة ولا اقدر على الهرب فانظر في تدبير نفسك. فقلت: جزاك الله الجنة. وخرجت فجعلت أسير ليلاً وأختفي نهاراً. فلما رجعوا من عيدهم فقدوني فتتبعوني حتى يئسوا فرجعوا.
فلما أيست منهم سرت في تلك الجزيرة ليلاً ونهاراً فانتهيت إلى أشجار بها ثمار وفواكه وتحتها رجال حسان الصورة إلا أنه ليس لسوقهم عظم، فقعدت لا أفهم كلامهم ولا يفهمون كلامي، فلم أشعر إلا وواحد منهم ركب على رقبتي وأكتافي وطوق برجليه علي وأنهضني، فذهبت به وجعلت أعالجه لأتخلص منه وأطرحه عني فلم أقدر، وجعل يخمش وجهي بأظفاره المحددة، فجعلت أدور به على الأشجار وهو يأكل من فواكهها وثمارها ويطعم أصحابه وهم يضحكون علي. فبينما أنا أطوف به بين الأشجار إذ دخلت في عينه شوكة من شجرة فانحلت رجلاه عني فرميته عن رقبتي وسرت فنجاني الله بكرمه. وهذه الخموش منه فلا رحم الله عظامه.
وأما عجائب هذا البحر فكثيرة:
منها المنشار: وهي سمكة عظيمة كالجبل العظيم، ومن رأسها إلى ذنبها كالمنشار من عظام سود مثل الأبنوس، كل سن منها أطول من ذراعين، وعند رأسها عظمان
(1/235)
طويلان طول كل واحد عشرة أذرع، تضرب بالعظمين يميناً وشمالاً في الماء فيسمع لها صوت عظيم، ويخرج الماء من فيها ومناخرها ويصعد نحو السماء رمية سهم، وينعكس على المركب كالسيل وهي بعيدة عن المركب. وإذا عبرت تحت المركب قطعتها نصفين، فإذا رآها أصحاب المركب يبكون ويضجون إلى الله تعالى بالدعاء ويتأللون ويتودعون ويصلون صلاة الموت خوفاً منها.
وسمكة البال: وهي سمكة طولها أربعمائة ذراع إلى خمسمائة ذراع، وستمائة. تظهر في بعض الأوقات طرف جناحها كالشراع العظيم، وتخرج رأسها من الماء وتنفخ فيصعد الماء كرمية سهم في العلو، فإذا أحس بها أهل المراكب ضربوا الطبول والصنوج وصاحوا حتى تذهب، وهي تحوش بذنبها وأجنحتها السمك إلى فمها فإذا زاد بغيها في البحر على دوابه أرسل الله عليها سمكة طول ذراع تسمى اللشك فتلتصق بأذنها فلا تجد البال منها خلاصاً فتطلب قعر البحر وتضرب برأسها الأرض حتى تموت، فتطفو على وجه الماء كالجبل العظيم فيجرونها بالكلاليب والحبال ويشقون بطنها فيخرج منها العنبر كالتل العظيم لأنها تأكله ويعرفه التجار بشوكته.
(1/236)
فصل في بحر المغرب
وعجائبه وغرائبه
وهو بحر الشام وبحر القسطنطينية. مخرجه من المحيط، يأخذ مشرقاً فيمر بشمال الأندلس ثم ببلاد الفرنج إلى القسطنطينية ويمتد ببلاد الجنوب إلى سبتة، إلى طرابلس الغرب، إلى الإسكندرية، ثم إلى سواحل الشام، إلى أنطاكية.
وذكر في كتاب أخبار مصر أنه بعد هلاك الفراعنة كانت ملوك بني دلوكة في شق البحر المحيط من الغرب، وهو البحر المظلم، فتغلب الماء على بلاد كثيرة وممالك عظيمة فأخربها وركبها وامتد إلى الشام وبلاد الروم، وصار حاجزاً بين بلاد مصر وبلاد الروم، على أحد ساحليه المسلمون وعلى الآخر النصارى. وهناك مجمع البحرين وهما بحر الروم والمغرب، وعرضه ثلاثة فراسخ وطوله خمسة وعشرون فرسخاً. والمد والجزر هناك في كل يوم وليلة أربع مرات، وذلك أن البحر الأسود وهو بحر المغرب عند طلوع الشمس يعلو فيصب في مجمع البحرين حتى يدخل في بحر الروم، وهو البحر الأخضر إلى وقت الزوال فإذا زالت الشمس غاض البحر الأسود وانصب فيه الماء من البحر الأخضر إلى مغيب الشمس ويعلو البحر الأخضر على الدوام.
وفي هذا البحر من الجزائر شيء كثير:
فمن جزائره جزيرة الأندلس: وقد تقدم ذكرها.
(1/237)
وجزيرة مجمع البحرين: وهي جزيرة كبيرة وفيها منارة مبنية بالصخر المانع الصلد، لها أساس راسخ ولا باب لها ولا يعمل فيها الحديد، وعلوها أكثر من مائة ذراع، وعلى رأسها صورة إنسان ملتف بثوب كأنه من ذهب ويده اليمنى ممدودة إلى البحر الأسود كأنه يشير بأصبعه لذلك الموضع من العدو.
وجزيرة صقلية: وهي جزيرة عظيمة بها أنهار وأشجار وثمار ومزارع وبها جبل يقال له جبل البركات، يظهر منه دخان في النهار وبالليل نار، يطير منه شرر إلى البحر فيصير حجارة سوداء مثقبة تحرق كل شيء صادفته وتطفو على وجه الماء ويأخذها الناس فيستعملونها في الحمامات لحدة الأرجل.
جزيرة إقريطش: وهي في بحر الروم وبها معادن من الذهب.
جزيرة طاوزاق: وهو ملك له أربعة آلاف امرأة وليس له ولد، وعندهم شجر إذا أكلوا منه أفادهم القوة في الجماع، وأطاق الواحد منهم أن يجامع في اليوم مائة مرة وأكثر.
(1/238)
الجزيرة السيارة: أخبر البحريون أنهم رأوها مراراً كثيرة فيها أشجار وعمارات وجبال كلما هبت الريح عليها من المغرب سارت لنحو المشرق، وكلما هبت من المشرق سارت لنحو المغرب، وحجارتها خفاف فترى الحجر تظن أنه قنطار فيكون رطلاً واحداً.
وذكر بعض اليهود أن مركبهم انكسرت على هذه الجزيرة فأقاموا أياماً لم يكن غذاؤهم إلا السمك، ووقعوا في جزيرة حجارتها وجبالها ووهادها وترابها كلها ذهب، وكان قد سلم معهم زورق المركب فأوسقوه من ذلك الذهب فوق طاقته وسافروا فلم يسيروا إلا قليلاً حتى عطب الزورق ولم ينج إلا من قدر على السباحة.
جزيرة تنيس: وهي في بحر الروم، وفيها مدن كثيرة ويخرج إليها من البحر نوع من السمك فيقيم بها يوماً وينقطع، ويظهر نوع آخر يقيم يوماً وينقطع ولا يزال كذلك إلى آخر السنة تتمة ثلاثمائة وستين نوعاً، ثم يعود النوع الأول كالعادة.
وجزيرة النوم: بها أشجار وثمار وأزهار، من شم شيئاً منها نام من ساعته.
وجزيرة خالطة: قال أبو حامد الأندلسي: رأيت هذه الجزيرة وبها من الغنم شيء لا يحصى، كالجراد المنتشر لا ينفر من الناس، يأخذ أهل المراكب منها ما شاؤوا. وبها أشجار وثمار وأعشاب، وليس بها إنس ولا جان.
جزيرة الدير: ذكر البحريون أنها بقرب قسطنطينية، وفيها دير غائب في البحر فينكشف عنه الماء يوماً في السنة وتحج أهل تلك النواحي إليه ويبقى ظاهراً إلى وقت العصر، ثم يزيد الماء فيغطيه إلى العام القابل.
جزيرة الكنيسة: ذكر أبو حامد الأندلسي أن بهذه الجزيرة جبلاً على شاطئ البحر الأسود عليه كنيسة منقورة في الصخر، في الجبل، وعليها قبة عظيمة وعلى
(1/239)
تلك القبة طائر غراب، يطير ويحط ولا يزال عليها. ومقابل القبة مسجد يزوره المسلمون ويقولون إن الدعاء فيه مستجاب. وقد شرط على أهل تلك الكنيسة ضيافة من يزور ذلك المسجد من المسلمين. فإذا قدم زائر للمسجد أدخل الغراب رأسه إلى داخل الكنيسة وصاح صيحات بعدد الزوار، إن كان واحداً فواحدة، أو اثنين فاثنتين، أو عشرة فعشرة، لا يخطئ أبداً. فينزل أهل تلك الكنيسة بالضيافة إليهم على عدتهم لا يزيدون ولا ينقصون. وذكر القسيسون أنهم ما زالوا يرون ذلك الغراب ولا يدرون من أين مأكله ومشربه؟ وتعرف تلك الكنيسة بكنيسة الغراب.
ومن عجائب هذا البحر ما ذكره أبو حامد من أنه قال: لما غاض بحر الروم انكشف عن مدن وعمارات لا توصف، وبه الشيخ اليهودي وهو حيوان كالإنسان وله لحية بيضاء وبدن كبدن الضفدع، وشعره كشعر البقر وهو في قدر البغل، يخرج من البحر في كل ليلة سبت فلا يزال في البر حتى تغيب الشمس فيثب وثبة فلا يلحقه أحد، وهو يثب كما يثب الضفدع.
وحدث عبد الرحمن بن هرون المغربي قال: ركبت هذا البحر فوصلنا إلى موضع يقال له الرطون وكان معنا غلام صقلبي، معه صنارة فدلاها في البحر فصاد سمكة قدر الشبر فنظرنا فإذا مكتوب خلق أذنها الواحدة: لا إله إلا الله، وفي قفاها وخلف أذنها الأخرى: محمد رسول الله.
البغل: وهي سمكة كبيرة قال أبو حامد الأندلسي: رأيت هذه السمكة بمجمع البحرين مثل الجبل العظيم، وقد لازمتها سمكة أكبر منها في الظلمات، فهربت المسماة بالبغل منها، وجدت الأخرى في طلبها، ولما عاين البغل منها لاجد صاحت
(1/240)
صيحة عظيمة ما سمع أهول منها، فكادت قلوبنا أن تنشق من الخوف واضطرب البحر وكثرت أمواجه وخفنا الغرق، وأتت السمكة الطالبة لتعبر خلف البغل من الظلمات إلى مجمع البحرين فلم تقدر لعظمها.
حوت موسى عليه السلام: قال أبو حامد: رأيت سمكة تعرف بنسل الحوت في مدينة سبتة، وهو الحوت المشوي الذي صحبه موسى ويوشع حين سافرا في طلب الخضر عليهم السلام، وهي سمكة طولها ذراع وعرضها شبر، وأحد جانبيها شوك وعظام وجلد رقيق على أحشائها، ورأسها نصف رأس بعين واحدة، فمن رآها من هذا الجانب استقذرها. ونصفها الآخر صحيح بهيج. والناس يتبركون بها ويهدونها إلى الرؤساء، سيما اليهود.
وسمكة كأنها قلنسوة سوداء: قال أبو حامد: رأيت هذه السمكة وفي جوفها شبه المصارين، ولا رأس لها ولا عين، ولها مرارة كمرارة البقر سوداء. فإذا صادها أحد تحركت فيسود ما حولها من الماء حتى يبقى كالحبر الدخاني، وأظنه من مرارتها، فيؤخذ ذلك الماء ويكتب به في الورق وهو أحسن من الحبر وأعظم سواداً وأثبت وأجود وأبص منه.
وسمكة: يقال لها الخطاف: على ظهرها جناحان تخرج من الماء وتطير حيث شاءت ثم تعود إلى الماء.
وسمكة تعرف بالمنارة. وهذه السمكة تخرج ببدنها من الماء وتقف على عجزها كالمنارة ثم ترمي بنفسها على المركب العظيم فتغرقه وتهلك أهله، فإذا أحسوا بها ضربوا الطبول والبوقات وأضرموا مكاحل النفط فتهرب عنهم.
وسمكة كبيرة إذا نقص عنها الماء بقيت على الطين ملقاة ولا تزال تضرب إلى
(1/241)
مقدار ست ساعات، ثم تنسلخ من جلدها ويظهر لها جناحان من تحت إبطها فتطير مع عظمتها إلى بحر آخر. وهذا من أعظم عجائب القدرة.
ومنها التنانين: وهي كثيرة في هذا البحر، ولا سيما عند طرابلس واللاذقية.
(1/242)
فصل في بحر الخزر
وهو بحر الأتراك، وهو في جهة الشمال، شرقيه جرجان وطبرستان وعلى شماله بلاد الخزر، وغربيه اللان وجبال القبق، وعلى جنوبه الجبل والديلم. وهو بحر واسع ولا اتصال له بشيء من البحار، وهو بحر صعب خطر المسلك سريع الهلاك شديد الاضطراب والأمواج، لا جزر فيه ولا مد، وليس فيه شيء من اللآلئ والجواهر.
ذكر السمرقندي في كتابه: أن ذا القرنين أراد أن يعرف ساحل هذا البحر، فبعث قوماً في مركب وأمرهم بالمسير فيه سنة كاملة لعل أن يأتوه بخبر ساحل؛ فساروا بالمركب سنة كاملة فلم يروا شيئاً سوى سطح الماء وزرقة السماء، فأرادوا الرجوع فقال بعضهم: نسير شهراً آخر لعلنا أن نرجع بخبر. فساروا شهراً آخر فإذا هم بمركب فيه أناس فالتقى المركبان ولم يفهم أحدهم كلام الآخر، فدفع قوم ذي القرنين إليهم امرأة وأخذوا منهم رجلاً ورجعوا إلى الإسكندر وأخبروه بالأمر. قال: فزوج الإسكندر الرجل بامرأة من عسكره فأتت بولد يفهم كلام الوالدين، فقال له: سل أباك من أين جئت؟ فسأله فقال: جئت من ذلك الجانب. فقيل له فهل هناك ملك؟ قال: نعم أعظم من هذا الملك. قيل: فكم لكم في البحر؟ قال: سنتين وشهرين.
وقيل: إن دور هذا البحر ألفان وخمسمائة فرسخ، وطوله ثمانمائة فرسخ وعرضه ستمائة فرسخ، وهو مدور الشكل، إلى الطول أميز.
وبهذا البحر عجائب كثيرة:
منها: ما ذكره أبو حامد عن سلام الترجمان رسول الخليفة إلى ملك الخزر، قال: لما توجهت من عند الخليفة إليهم أقمت عندهم مدة فرأيتهم يوماً قد اصطادوا
(1/243)
سمكة عظيمة فجذبوها بالكلاليب والحبال، فانتفخت أذن السمكة فخرج منها جارية بيضاء حمراء طويلة الشعر، سوداؤه، حسنة الصورة طويلة القامة كأنها القمر البدر، وهي تضرب وجهها وتنتف شعرها وتصيح، وفي وسطها غشاء لحمي كالثوب الضيف من سرتها إلى ركبتها كأنه إزار مشدود عليها. فما زالت كذلك حتى ماتت.
ومنها التنين: ذكروا أنه يرتفع من هذا البحر تنين عظيم يشبه السحاب الأسود وينظر إليه الناس. وزعموا أنها دابة عظيمة في البحر تؤذي دوابه فيبعث الله عليها سحاباً من سحب قدرته فيحملها ويخرجها من البحر. وهي صفة حية سوداء لا يمر ذنبها على شيء من الأبنية العظام إلا سحقته وهدمته، ولا من الأشجار إلا هدتها. وربما تنفست فاحترقت الأشجار والنبات.
قال: فيلقيها السحاب في الجزائر التي بها يأجوج ومأجوج فتكون لهم غذاء. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما هذا القول.
وحكي أن الإسكندر لما أن فرغ من السد وأحكمه سر بذلك سروراً عظيماً، وأمر بسرير فنصب له على السد فرقي عليه وحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: يا رب الأرباب ومسهل الصعاب، أنت ألهمتني بسد هذا المكان صوناً للبلاد وراحة للعباد وقمعاً لهذا العدو المطبوع على الفساد، فأحسن لي المثوبة في يوم المعاد، ورد غربتي
(1/244)
وأحسن أوبتي. ثم سجد سجدة أطال فيها ثم استوى على فراشه واستلقى على ظهره لانتعاشه، وقال: الآن قد استرحت من سطوة الخزر ومقاساة الأتراك.
ثم أغفى إغفاءه فطلع طالع من البحر حتى سد الأفق بطوله وارتفع كالغمامة العظيمة السوداء فسد الضوء عن الأرض، فبادرت الجيوش والمقاتلة إلى قسيهم واشتد الصياح، فانتبه الاسكندر ونادى: ما الذي نابكم وما شأنكم؟ فقالوا: الذي ترى. قال: أمسكوا عن سلاحكم وكفوا عن انزعاجكم، لم يكن الله عز وجل ليلهمني لما أراد ويغربني عن أهلي ومسقط رأسي ي البلاد لمصالح الخلق والعباد مدة عشرين سنة وستة شهور، ثم يسلط علي بهيمة من بهائم البحر المسجور. فكف الناس عن السلاح وأقبل الطالع نحو السد حتى علاه وارتفع عليه رمية سهم، ثم قال: أيها الملك، أنا ساكن هذا البحر، وقد رأيت هذا المكان مسدوداً سبع مرات، وفي وحي الله عز وجل أن ملكاً، عصره عصرك وصورته صورتك وصوته صوتك واسمه اسمك، يسد هذا الثغر سداً مؤبداً، فأحسن الله معونتك وأجزل مثوبتك ورد غربتك وأحسن أوبتك فأنت ذلك الملك الهمام وعليك من الله السلام. ثم غاب عن بصره فلم يعلم كيف ذهب وليكن هذا آخر الكلام على البحار والجزائر والعجائب.
(1/245)
فصل في ذكر المشاهير من الأنهار وعجائبها
قيل: إن الأمطار والثلوج إذا وقعت على الجبال تنصب إلى مغارات بها وتبقى مخزونة فيها في الشتاء، فإن كان في أسافل الجبال منافذ ينزل الماء من تلك المنافذ فيحصل منها الجداول وينضم بعضها إلى بعض فتحدث منها الأنهار والغدران والأودية، فإن كانت المغارات التي هي الخزانات لهذه المياه في أعالي الجبل استمر جريانه أبداً من غير انقطاع لأن المياه تنصب إلى سفح الجبل ولا تنقطع لاتصال الامتداد من الأمطار والثلوج، وإن انقطعت لانقطاع المدد بقيت المياه واقفة، كما ترى في الأودية من الغدران التي تجري في وقت وتنقطع في وقت.
قال بطليموس في كتاب جغرافيا: إن بهذا الربع المسكون مائة نهر، طول كل نهر منها من خمسين فرسخاً إلى ألف فرسخ، فمنها ما يجري من المشرق إلى المغرب، ومنها ما يجري بالعكس، ومنها ما يجري من الشمال إلى الجنوب، ومنها ما يجري بالعكس. وكلها تبتدئ من الجبال وتصب في البحار بعد انتفاع العالم بها. وفي ضمن ممرها تتصور بطائح وبحيرات، فإذا صبت في البحر المالح وأشرقت الشمس على البحار فتصعد إلى الجو بخاراً ثم ينعقد غيوماً وأندية كالدولاب الدائر، فلا يزال الأمر كذلك إلى أن يبلغ الكتاب أجله. فسبحان المدبر لمملكته ببدائع حكمته، لا إله إلا هو.
فأول ما نبدأ بذكره نهر أثل: وهو نهر عظيم في بلاد الخزر، ويقارب دجلة، ومجيئه من أرض الروس وبلغار ومصبه في بحر الخزر. وقد ذكر الحكماء أنه يتشعب
(1/246)
من هذا النهر خمس وسبعون شعبة، كل شعبة منها نهر عظيم، وعموده لا يتغير ولا ينقص ذرة لغزارة مائه وقوة امتداده، فإذا انتهى إلى البحر يجري فيه يومين ولونه بائن من لون البحر، ثم يختلط ويجمد في الشتاء لعذوبته. وفي هذا البحر حيوانات عجيبة.
حكى أحمد بن فضلان رسول المقتدر من خلفاء بني العباس إلى بلغار، قال: لما دخلت بلغار سمعت أن عندهم رجلاً عظيم الخلقة، فسألت الملك عنه فقال: نعم، ما كان من بلادنا ولكن قوماً خرجوا إلى نهر أثل وكان قد مد وطغى، ثم أتوا وقالوا أيها الملك إنه قد طفى على وجه الماء رجل كأنه من أمة بالقرب منا، فإن كان ذاك فلا مقام لنا. فركبت معهم حتى سرت إلى النهر فإذا برجل طوله اثنا عشر ذراعاً ورأسه كأكبر ما يكون من القدور، وأنفه نصف ذراع وعيناه عظيمتان، وكل أصبع أطول من شبر. فأخذنا نكلمه وهو لا يزيد على النظر إلينا. فحملته إلى مكاني وكتبت إلى وارسو كتاباً وبيننا وبينهم ثلاثة أشهر أستخبرهم عن أمره، فعرفوني أن هذا الرجل من يأجوج ومأجوج وقالوا: إن البحر يحول بيننا وبينهم. فأقام بين أظهرنا مدة، ثم اعتل فمات.
نهر أذربيجان: قال صاحب المسالك والممالك الشرقية: إن هذا البحر يجري ماؤه ويستحجر فيصير صفائح صخر فيستعملونه في البناء.
نهر أشعار: قال صاحب تحفة الغرائب: إن هذا النهر يخرج من موضع يقال له: فج عروس ويفيض تحت الأرض، ثم يخرج من مكان بعيد، ثم يفيض ثانياً بين أرض منادرة وبطليوس ويخرج وينصب في البحر.
(1/247)
نهر جيحون: قال الاصطخري: نهر جيحون يخرج من حدود بذخشان ثم تنضم إليه أنهار كثيرة من حدود الجبل ووخش فيصير نهراً عظيماً ويمر على مدن كثيرة حتى يصل إلى خوارزم. ولا ينتفع به شيء من البلاد في ممره إلا خوارزم، ثم ينصب في بحيرة خوارزم التي بينها وبين خوارزم ستة أيام. وهذا النهر يجمد في الشتاء عند قوة البرد فيصير قطعاً، ثم تصير القطع قطعاً على وجه الماء حتى يلصق بعضها ببعض إلى أن تصير سطحاً واحداً على وجه الماء، ويثخن حتى يصير سمك ذراعين أو ثلاثة أذرع، ويستحكم حتى تعبر عليه العجلات والقوافل المحملة ولا يبقى بينه وبين الأرض فرق، والماء يجري تحت الجمد فيحفر أهل خوارزم بالمعاول آباراً يستقون منها ويبقى كذلك شهرين فإذا انكسر البرد تقطع قطعاً كما بدأ أول مرة ويعود إلى حالته الأولى. وهو نهر قتال قل أن ينجو منه غريق.
نهر حصن المهدي: قال صاحب تحفة الغرائب: هو بين البصرة والأهواز، وهو نهر كبير ويرتفع منه في بعض الأوقات منارة يسمع منها أصوات كالطبل والبوق ثم
(1/248)
تغيب ولا يعرف شأن ذلك.
نهر خزلج: وهو بأرض الترك، وفيه حيات إذا وقعت عين ابن آدم عليها يغشى عليه.
دجلة: هو نهر ببغداد، مخرجه من أصل جبل بقرب آمد عند حصن ذي القرنين، وكلما امتد انضم إليه مياه جبال ديار بكر. وبآمد يخاض فيه بالدواب ويمتد إلى ميافارقين، وإلى حصن كيفا وإلى جزيرة ابن عمر وإلى الموصل، وتنصب فيه الزيادات ومنها يعظم أمره ويستمر ممتداً إلى بغداد إلى واسط إلى البصرة، وينضب في بحر فارس. وماء دجلة أعذب المياه وأكثرها نفعاً لأن ماءه من مخرجه إلى مصبه جار في العمارات.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أوحى الله عز وجل إلى دانيال عليه السلام أن أجر لمصالح عبادي نهراً واجعل مصبه في البحر، فقد أمرت الأرض أن تطيعك. قال: فأخذ خشبة فجرها في الأرض والماء يتبعه، وكلما مر بأرض يتيم أو أرملة أو شيخ ناشده الله فيحيد عنهم. وهو الدجلة، وهو نهر مبارك كثيراً ما ينجو غريقه.
وحكي أنهم وجدوا فيه غريقاً فأخذوه فإذا فيه رمق، فلما رجعت روحه إليه سألوه عن مكانه الذي وقع منه فأخبرهم فكان من موضع وقوعه إلى موضع نجاته خمسة أيام.
(1/249)
نهر الذهب: وهو بأرض الشام وبلاد حلب. زعم أهل حلب أنه وادي بطنان. ومعنى قولهم نهر الذهب أن جميعه يباع أوله بالميزان وآخره بالكيل. فإن أوله تزرع عليه الحبوب والبذور وآخره ينصب إلى بطيحة، فرسخين في فرسخين، فينعقد ملحاً.
نهر المرس: بأذربيجان. وهو شديد الجري، وبأرضه حجارة بعضها ظاهرة وبعضها مغطاة بالماء؛ ولهذا السبب لا تجري فيه السفن. وهو نهر مبارك كثيراً ما ينجو غريقه. حكى ديسم بن إبراهيم صاحب أذربيجان قال: كنت مجتازاً على قنطرة الرس بعسكري، فلما صرت بوسط القنطرة رأيت امرأة ومعها طفل في قماطه، إذ صدمتها دابة فانقلب الطفل من يدها إلى الماء فما وصل إلى الماء إلا بع زمان لبعد ما بين ظهر القنطرة ووجه الماء، ثم غاص الطفل وطفا على وجه الماء وسلم من تلك الأحجار والقرابيص وجرى مع الماء والأم تصيح، وللعقبان أوكار على حروف النهر، فأرسل الله عز وجل عقاباً منها فانقض على الطفل ورفعه بقماطه وخرج به إلى الصحراء، فصحت بأصحابي إليه، فركضوا في أثر العقاب فإذا العقاب قد اشتغل بحل القماط، فلما أدركوه وصاحوا عليه طار العقاب وترك الطفل فوجدوه سالماً موقى، فردوه إلى أمه وهو ساكت.
نهر الزاب: وهو نهر بين الموصل وإربل، يبتدئ من أذربيجان وينصب في دجلة. يقال له الزاب المجنون لشدة جريه. قال القزويني: شربت من
(1/250)
مائه في شدة القيظ فإذا هو أبرد من الثلج والبرد، وذلك لشدة جريه وعدم تأثير الشمس فيه.
نهر زمرود: وهو بأصبهان، موصوف باللطافة والعذوبة، يغسل فيه الثوب الخشن فيعود أنعم من الخز والحرير، وهو يخرج من قرية يقال لها ما كان ويعظم بانضمام الماء إليه عند أصبهان ويسقي بساتينها ورساتيقها، ثم يغور في رمل هناك ويظهر بكرمان ويجري وينصب في بحر الهند. ذكروا أنهم أخذوا قصبة وعلموها وأرسلوها في موضع غوران الماء فرجعت بكرمان.
نهر سبحة: وهو نهر بين حصن منصور وبكسوم، لا يتهأ خوضه لأن قراره رمل سيال، وعلى هذا النهر قنطرة وهي إحدى عجائب الدنيا لأنها عقد واحد من الشط إلى الشط مقدار مائتي خطوة من حجر صلد مهندم، طول كل حجر عشرة أذرع. حكي أن عند أهل تلك البلدة بالأرض لوحاً عليه طلسم فإذا انعاب من تلك القنطرة مكان أدلوا ذلك اللوح إلى موضع العيب فينعزل الماء عنه ويحيد فينصلح ذلك الموضع بلا مشقة، ويرفع اللوح فيعود الماء إلى مكانه.
نهر سلق: بإفريقية الغرب، وهو نهر كبير يجري فيه الماء بعد كل ستة أيام يوماً واحداً. وهذا دأبه دائماً. وقيل هو نهر صقلاب.
نهر طبرية: هو نهر عظيم، والماء الذي يجري فيه نصفه بارد ونصفه حار فلا يختلط أحدهما بالآخر، فإذا أخذ من الماء الحار في إناء وضربه الهواء صار بارداً.
نهر العاصي: هو نهر حماه وحمص، مخرجه من قدس ومصبه في البحر بأرض السويدية من أنطاكية. وسمي العاصي لأن أكثر الأنهار هناك تتوجه نحو
(1/251)
الجنوب وهذا يتوجه نحو الشمال.
نهر الفرات الأعظم: هو نهر عظيم عذب طيب ذو هيبة. مخرجه من أرمينية ثم يمتد إلى قالي قلا بالقرب من خلاط، وإلى ملطية وإلى شميصات وإلى الرقة، ثم إلى غانة، إلى هيت، فيسقي هناك المزارع والبساتين والرساتيق، ثم ينصب بعضه في دجلة وبعضه يسير إلى بحر فارس.
وللفرات فضائل كثيرة: روي أن أربعة أنهار من أنهار الجنة: سيحون، وجيحون، والنيل، والفرات.
وعن علي رضي الله عنه قال: يا أهل الكوفة إن نهركم هذا ينصب إليه ميزابان من الجنة.
(1/252)
وروي عن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه شرب من ماء الفرات، ثم استزاد وحمد الله تعالى وقال: ما أعظم بركته، لو علم الناس ما فيه من البركة لضربوا على حافته القباب، ما انغمس فيه ذو عاهة إلا برئ.
وعن السدي أن الفرات مد في زمن عمر رضي الله عنه فألقى رمانة عظيمة فيها كر من الحب فأمر المسلمين أن يقسموها بينهم وكانوا يرون أنها من الجنة.
نهر القورج: هو نهر بين القاطول وبغداد، وكان سبب حفره أن كسرى أنوشروان ملك الفرس لما حفر القاطول أضر بأهل الأسافل فخرج أهل تلك النواحي للتظلم فرآهم فثنى رجله على دابته ووقف، وكان قد خرج متنزهاً فقال بالفارسية: ما شأنكم أيها المساكين؟ قالوا: لقد جئناك متظلمين. قال: ممن؟ قالوا: من ملك الزمان كسرى أنوشروان. فنزل عن دابته وجلس على التراب وقال بالفارسية: زنهاراي مسكينان. فأتي بشيء ليجلس عليه فأبى وأدناهم منه ونظر إليهم وبكى وقال: قبيح وعار على ملك يظلم المساكين، ما ظلامتكم؟ قالوا: يا ملك الزمان حفرت القاطول فانقطع الماء عنا وقد بارت أراضينا وخربت. فدعا كسرى بموبذانه وقال له: ما
(1/253)
جزاء ملك أضر برعيته من غير قصد؟ قال الموبذان: جزاؤه أن يجلس على التراب كما فعل ملك الزمان، ويرجع عن الخطأ إلى الصواب وإلا سخطت عليه النيران.
فقال: قد رجعت عما وقعت فيه، فهل ترضون بسد ما حفرت؟ قالوا: لا نكلف الملك ذلك: قال: فما تريدون؟ قالوا: مرنا أن نجري من القاطول نهراً لنحيي أرضنا. فقال: لا أكلفكم ذلك. ثم أمر أصحابه وجنده بالإقامة في مجلسه وقال: لا أبرح من مكاني حتى أرى نهراً يجري دون القاطول يسقي أراضي هؤلاء المساكين، والجاني أولى بالخسارة. فما برح من مكانه ذلك حتى أجرى لهم نهراً دون القاطول بناحية القورج، وساقوا الماء إلى أراضيهم وعمرت، وسقوا منها أنفسهم ومواشيهم.
فهذا كان عدله في رعيته وهو كافر يعبد النيران.
نهر الكر: هو بين أرمينية وأذال. وهو نهر مبارك وكثيراً ما ينجو غريقه. قال بعض الفقهاء نقجوان: وجدنا غريقاً في الكر يجري به الماء فبادر القوم إليه فأدركوه على آخر رمق، فلما رجعت إليه روحه قال: في أي موضع أنا؟ قالوا: في نقجوان. قال: إني وقعت في الموضع الفلاني. فإذا مسيرة ذلك المكان ستة أيام. فطلب منهم طعاماً فذهبوا ليأتوه به؛ فانقض عليه جدار فمات.
نهر مهران: وهو بالسند، عرضه عرض جيحون يجري من المشرق إلى المغرب، ويقع في بحر فارس. قيل إنه يخرج من جبل يخرج منه بعض أنهار جيحون، وهو نهر عظيم فيه تماسيح كنيل مصر، إلا أنها أضعف وأصغر. وهو يمتد على الأرض ويزرع عليه كما يزرع على النيل، وينقص ويزيد كالنيل، حذو النعل بالنعل، ولا يوجد تمساح قط إلا بنهر مهران والنيل.
(1/254)
نهر مكران: هو نهر عظيم عليه قنطرة، قطعة واحدة، من عبر عليها يتقايأ جميع ما في بطنه ولو كانوا ألوفاً. وإن وقفوا عليه زماناً هلكوا من القيء.
نهر اليمن: قال صاحب تحفة الغرائب: نهر بأرض اليمن. من طلوع الشمس يجري من المشرق إلى المغرب، ومن غروب الشمس يجري من المغرب إلى المشرق.
نهر هند مند: وهو بسجستان. ينصب فيه ألف نهر ولا يتبين فيه زيادة، ويتشعب منه ألف نهر ولا يظهر فيه نقصان، بل هو في الحالتين سواء.
نهر العمود: وهو بالهند، عليه شجرة باسقة من حديد وقيل من نحاس، وتحتها عمود من جنسها ارتفاعه عشرة أذرع، وفي رأس العمود ثلاث شعب غلاظ مستوية محددة كالسيوف. وعنده رجل يقرأ كتاباً ويقول للنهر: يا عظيم البركة وسيل الجنة، أنت الذي خرجت من عين الجنة فطوبى لمن صعد على هذه الشجرة وألقى نفسه على هذا العمود. فيصعد ممن حوله رجل أو رجال فيلقون أنفسهم على ذلك العمود ويقعون في الماء فيدعو لهم أهلوهم بالمصير إلى الجنة.
وفي الهند نهر آخر: ومن أمره أن يحضره رجال بسيوف قاطعة، فإذا أراد الرجل من عبادهم أن يتقرب إلى الله تعالى بزعمهم أخذوا له الحلي والحلل وأطواق الذهب والأسورة بالكثرة ويخرجون به إلى هذا النهر فيطرحونه على الشط، فيأخذ أصحاب السيوف ما عليه من الزينة والأطواق والأسورة ويضربونه بالسيوف حتى يصير قطعتين، فيلقون نصفه في مكان ونصفه في مكان آخر بالبعد عنه، ويزعمون أن هذا النهر وما قبله خرجا من الجنة.
(1/255)
نهر النيل المبارك: ليس في الدنيا نهر أطول منه، لأنه مسيرة شهرين في الإسلام وشهرين في الكفر وشهرين في البرية وأربعة أشهر في الخراب. ومخرجه من بلاد جبل القمر خلف الاستواء، ويسمى جبل القمر، لأن القمر لا يطلع عليه أصلاً لخروجه عن خط الاستواء وميله عن نوره وضوئه؛ ويخرج من بحر الظلمة ويدخل تحت جبال القمر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن النيل يخرج من الجنة ولو التمستم فيه حين يخرج لوجدتم من ورقها.
وكان عبقام وهو هرمس الأول قد حملته الشياطين إلى هذا الجبل المعروف بالقمر ورأى النيل كيف يخرج من البحر الأسود ويدخل تحت جبل القمر، وبنى في سفح ذلك الجبل قصراً فيه خمسة وثمانون تمثالاً من نحاس، جعلها جامعة لما يخرج من الماء من هذا الجبل معاقد ومضاب مدبرة في إحكام، يجري منه الماء إلى تلك الصور والتماثيل فيخرج من حلوقها على قياس معلوم وأذرع معدودة، فتصب إلى أنهار كثيرة فيتصل بالبطيحتين ويخرج منهما حتى يصل إلى البطيحة الجامعة. وعلى هذه البطيحة بلاد السودان ومدينتها العظمى طرمى. وبالبطيحة جبل معترض يشقها ويخرج نحو الشمال مغرباً ويخرج النيل منه نهراً واحداً ويفترق في أرض النوبة، ففرقته إلى أقصى المغرب وعلى هذه الفرقة غالب بلاد السودان، والفرقة التي تنصب إلى مصر منحدرة من أرض أسوان تنقسم في مجرى البلاد على أربع فرق، كل فرقة إلى ناحية، ثم تصب في بحر الإسكندرية. ويقال إن ثلاثة منها تصب في البحر
(1/256)
الشامي. وفرقة تصب في البحيرة الملحة التي تنتهي إلى الإسكندرية. والأذرع التي صنعها عبقام هي ثمانية عشر ذراعاً، كل ذراع اثنتان وثلاثون أصبعاً، وما زاد على ذلك فهو سائر إلى رمال وغياض لا منفعة فيها. ولولا ذلك لغرقت البلاد.
وذكروا أن سيحون وجيحون والنيل والفرات كلها تخرج من قبة من زبرجدة خضراء من جبل عال هناك وتسلك على البحر المظلم، وهي أحلى من العسل وأذكى رائحة من المسك ولكنها تتغير بتغير المجاري، وليس في الدنيا نهر يصب من الجنوب إلى الشمال ويمد في شدة الحر حتى تنقص له الأنهار كلها، ويزيد بترتيب وينقص بترتيب، غير النيل. وسبب مده أن الله تعالى يبعث إليه الريح الشمالي فيقلب عليه البحر المالح فيصير كالسكر له فيزيد حتى يعم البلاد فإذا بلغ حد الري بعث الله عليه ريح الجنوب فأخرجته إلى البحر. ولما كان زمن يوسف عليه السلام اتخذ بمصر مقياساً يعرف به مقدار الزيادة والنقصان فإذا زاد على قدر الكفاية يستبشرون بخصب البلاد، وهو عمود قائم في وسط بركة على شاطئ النيل ولها طريق يدخل إليها منها الماء وعلى ذلك العمود خطوط معروفة بالأصابع والأذرع. وكانت كفايتهم في ذلك الوقت أربعة عشر ذراعاً، فإذا استوى الماء كما ذكرنا في الخلجان والوهاد يملأ جميع أرض مصر، فإذا استوفت الأرض ريها انكشفت تربتها وزرع عليها أصناف الزرع وتكتفي بتلك الشربة الواحدة. وليس في الدنيا نهر يشبهه إلا نهر الملتان وهو نهر السند. شعر في المعنى:
إن مصراً لأطيب الأرض طرّاً ... ليس في حسنها البديع التباس
وإذا قستها بأرضٍ سواها ... كان بيني وبينك المقياس
(1/257)
وحكي أن رجلاً من ولد العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام يسمى جياداً لما دخل مصر ورأى عجائبها آلى على نفسه أن لا يفارق ساحل النيل إلى منتهاه أو يموت. فسار ثلاثين سنة في العامر وثلاثين سنة في الخراب حتى انتهى إلى بحر أخضر فرأى النيل يشق ذلك البحر؛ وأنه ركب دابة هناك سخرها الله له فعدت به زماناً طويلاً وأنه وقع في أرض من حديد، جبالها وأشجارها من حديد. ثم وقع في أرض من نحاس، جبالها وأشجارها نحاس. ثم وقع في أرض من فضة جبالها وأشجارها فضة. ثم وقع في أرض من ذهب جبالها وأشجارها ذهب. وأنه انتهى في مسيره إلى سور مرتفع من ذهب، وفيه قبة عالية من ذهب ولها أربعة أبواب، والماء ينحدر من ذلك السور ويستقر في تلك القبة ثم يخرج من الأبواب الأربعة، فمنها ثلاثة تغيض في الأرض، والرابع يجري على وجه الأرض وهو النيل، والثلاثة سيحون وجيحون والفرات، وأنه أتاه ملك حسن الهيئة، فقال له: السلام عليك يا جايد، هذه الجنة. ثم قال له: إنه سيأتيك رزق من الجنة فلا تؤثر عليه شيئاً من الدنيا.
فبينما هو كذلك إذ أتاه عنقود من العنب فيه ثلاثة ألوان: لون كاللؤلؤ ولون كالزبرجد الأخضر ولون كالياقوت الأحمر. فقال له الملك: يا جايد هذا من حصرم الجنة، فأخذه جايد ورجع، فرأى شيخاً تحت شجرة من تفاح فحدثه وآنسه وقال له: يا جايد ألا تأكل من هذا التفاح؟ فقال: إن معي طعاماً من الجنة وإني لمستغن عن تفاحك. فقال له: صدقت يا جايد، إني لأعلم أنه من الجنة، وأعلم من أتاك به وهو أخي، وهذا التفاح أيضاً من الجنة. ولم يزل به ذلك الشيخ حتى أكل من التفاح وحين عض على التفاحة رأى ذلك الملك وهو يعض على أصبعه؛ ثم قال له: أتعرف هذا الشيخ؟ قال: لا، قال: هو والله الذي أخرج أباك آدم من الجنة، ولو قنعت بالعنقود الذي معك لأكل منه أهل الدنيا ما بقيت الدنيا ولم ينفد، وهو الآن
(1/258)
مجهودك إلى مكانك. قال: فبكى جايد وندم وسار حتى دخل مصر وجعل يحدث الناس بما رأى في مسيره من العجائب.
بحيرة تنيس: قيل إنها كانت جنات عظيمة وبساتين، وكانت مقسومة بين ملكين أخوين من ولد إتريب بن مصر. وكان أحدهما مؤمناً والآخر كافراً، فأنفق المؤمن ماله في وجوه البر والخير حتى إنه باع حصته في الجنات والبساتين إلى أخيه الكافر، فزاد فيها ألفاً من الجنات والبساتين وأجرى خلالها أنهاراً عذبة، فاحتاج
(1/259)
أخوه المؤمن إلى ما في يده؛ فمنعه وسبه وجعل يفتخر عليه بماله ويقول له: أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً. فقال له أخوه المؤمن: إني ما أراك شاكراً الله تعالى ويوشك أن ينتزعها منك. فقال: هذا كلام لا أسمعه، ومن ينتزع مني ذلك؟ فدعا المؤمن عليه فجاء البحر وأغرق ذلك كله في ليلة واحدة حتى صارت كأن لم تكن.
وقد ورد في الكتاب العزيز ذكر قصتهما في سورة الكهف في قوله تعالى: " واضرِبْ لهم مثلاً رجلين جَعلنا لأحدهما جنّتين من أعناب وحفَفْناهما بنخلٍ وجعلنا بينهما زَرْعاً " إلى قوله: " خيرٌ ثواباً وخير عُقْباً ".
وكان لتنيس مائة باب. ويقال إن هذه البحيرة تصير عذبة ستة أشهر. ثم تصير ملحاً أُجاحاً ستة أشهر: وهذا دأبها أبداً بإذن الملك القادر.
وبمدينة قليوب بحيرة: ظهر بها في سنة من السنين نوع من السمك كانت عظامها ودهنها تضيء في الليل المظلم كالسراج من أخذ من عظامها عظمة في يده أضاء معه كالشمعة الرائقة إلى منزلة وحيث شاء. وأغنت الناس عن إيقاد السرج في بيوتهم، وإذا دهن بدهنها أصبعاً من أصابعه فكذلك تضيء أصبعه كالسراج الوهاج، حتى حكي أن بعض الناس تلوثت أصابعه من ذلك الدهن فمسح بها في حائط بيته، فبقي أثر الدهن في الحائط فكان ذلك الأثر يضيء في الحائط كأربع شمعات ثم انقطع مجيء ذلك النوع من السمك فلم يوجد بها شيء منها إلى يومنا هذا.
(1/260)
نهر الرمل: هو نهر في أقصى بلاد المغرب، جار كالأنهار لا ينقطع جريانه ومن نزل فيه هلك. ويقال إن ذا القرنين وصل إليه ورآه ونظر إلى الرمل وجريانه. فبينما هو ناظر إليه إذ انكشف الرمل وانقطع الجريان، فأمر أناساً من أصحابه أن يعبروا فيه فعبروا ولم يعودوا إليه وهلكوا. فنصب ذو القرنين هناك شخصاً قائماً كالمنارة من النحاس الأصفر وأحكمه وكتب عليه: ليس وراء هذا شيء فلا يتجاوزه أحد.
وليكن هذا آخر الكلام على ذكر الأنهار وعجائبها.
(1/261)
فصل في عجائب العيون والآبار
منها عين أذربيجان: قال في كتاب تحفة الغرائب: قيل: يأخذون قالب لبن فيمكن في الأرض ويصب فيه ماء هذه العين، ويصبرون عليه مقدار ساعة قيصير الماء لبناً من حجر صلد ويبنون به ما شاؤوا وأرادوا.
وعين بقرية من قرى قزوين: تسمى أدرند بهسند، إذا شرب الإنسان منها حصل له إسهال مفرط. ويكن الإنسان أن يشرب من ذلك الماء عشرة أرطال لخفته وعذوبته، وإذا حمل ذلك الماء إلى خارج حد تلك القرية بطلت الخاصية.
عين باذخاني: قال صاحب تحفة الغرائب: بدامغان قرية تسمى كهر؛ بها عين تسمى باذخاني، إذا أراد أهل هذه القرية هبوب الريح أخذوا خرقة حيض ووضعوها في العين فتتحرك الرياح؛ ومن شرب من مائها ولو جرعة انتفخ بطنه كالطبل؛ ومن حمل ذلك إلى مكان آخر انعقد حجراً.
عين ابلانستان: قال صاحب تحفة الغرائب: ابلانستان قرية بين جرجان وأسفراين، فيها عين تسمى بها، ينبع منها ماء كثير فينتفع بمائها خلق كثير وتنقطع في بعض الأوقات شهراً فيخرج أهل تلك الأرض رجالها ونساؤها في أحسن زينة وأجمل هيئة بالدفوف والصنوج والشبابات وأنواع الملاهي ويرقصون عند تلك العين ويلعبون ويضحكون فلا يرجعون إلا وقد مدت العين بالماء الكثير مقدار ما يدير رحيين.
(1/262)
عين باميان: قال في كتاب تحفة الغرائب: بأرض باميان عين ينبع منها ماء كثير بصوت عظيم وجلبة، ويشم منها رائحة الكبريت، من اغتسل من مائها زال عنه الحكة والجرب والدمامل، وإذا جعل في إناء من مائها وسد الإناء سداً محكماً وترك صار كالطين، وإن قرب من النار اشتعل والتهب.
عين جاج: قال صاحب تحفة الغرائب: بقرب جاج عقبة على رأسها عين ماء إذا كانت السماء صاحية لا يرى فيها قطرة ماء، وإذا كانت السماء مغيمة تراها مملوءة طافحة. وبناحية باميان جبال فيها عيون لا تقبل أبداً شيئاً من النجاسات وإذا ألقى فيها أحد شيئاً من النجاسات هاج الماء وعلا وفار، فإن لحق الذي ألقاها أغرقه.
عين زغر: وهي طرف البحيرة المنتنة بالشام، بينها وبين بيت المقدس ثلاثة أيام. وزغر اسم ابنة لوط عليه السلام، وهي العين التي أوردنا ذكرها في حديث الجساسة والدجال، وغورانها من علامات الساعة.
عين سياه سنك: قال في تحفة الغرائب: بجرجان موضع يسمى سياه سنك به عين على تل يأخذ الناس منها الماء للشرب وهو عذب طيب، وفي الطريق إلى العين
(1/263)
دودة معروفة بين أهلها فمن أخذ من ذلك الماء وأصابت رجله تلك الدودة وهو ذاهب بالماء صار الماء مراً علقماً فيريقه ويمضي إلى الماء ثانياً.
عين الأوقات: وهي في المغرب، لا تجري إلا في أوقات الصلوات الخمس في أولها ثم تنقطع، ولبثها بقدر ما يتوضأ الناس.
عين شيرم: وهي بين أصفهان وشيراز، بها مياه مشهورة وهي من عجائب الدنيا، وذلك أن الجرادة إذا نزلت ووقعت بأرض، يحمل إليها من تلك العين ماء في ظرف أو غيره فيتبع ذلك الماء طيور سود تسمى السمر مر، ويقال لها السودانية، بحيث إن حامل الماء لا يضعه إلى الأرض ولا يلتفت وراءه، فتبقى تلك الطيور على رأس حامل الماء في الجو كالسحابة السوداء إلى أن يصل إلى الأرض التي بها الجراد، فتصيح الطيور عليها وتقتلها، فلا ترى من الجراد متحركاً بل يموتون من أصوات تلك الطيور إذا سمعوها.
عين شيركيزان: وهي من قرى مراغة، فيها عينان تفوران ماء، أحدهما بارد عذب والآخر حار مالح وبينها مقدار ذراع.
عين العقاب: قال صاحب تحفة الغرائب: بأرض الهند عين برأس جبل إذا هرم العقاب وضعف تأتي به أفراخه وتحمله إلى تلك العين وتغسله فيها ثم تضعه في شعاع الشمس فيسقط ريشه وينبت له ريش جديد، ويذهب هرمه وضعفه وترجع إليه قوته وشبابه.
عين غرناطة: قال الأندلسي: بقرب غراناطة كنيسة عندها عين ماء وشجر زيتون، يقصدها الناس في يوم معلوم من السنة فإذا طلعت الشمس في ذلك اليوم فاضت تلك العين ثم يظهر على تلك الشجرة زهر الزيتون ثم ينعقد زيتوناً في الحال
(1/264)
والوقت، ويكبر ويسود في يومه ذلك ويأخذه الناس، ويأخذون من ماء تلك العين، كل أحد بمقدرته ثم يدخرون ذلك الزيتون والماء للتداوي، ولذلك فيما بينهم منافع عظيمة.
عين غزنة: وبقرب مدينة غزنة عين إذا ألقي فيها شيء من القاذورات والنجاسات يتغير الهواء في الحال ويظهر البرد والريح العاصف والمطر والثلج، فيبقى ذلك الحال حتى تزول عنها تلك القاذورات. وزعموا أن السلطان محمود بن سبكتكين السلجوقي تغمده الله برحمته لما أراد فتح غزنة كان كلما قصدها ألقى أهلها في العين شيئاً من القاذورات، فتقوم القيامة لشدة الريح والبرد والمطر فيرجع بعسكره بغير قصد كالمكسور. فصلى ليلة من الليالي ودعا فقال: إلهي إن كان قصدي في فتح هذه البلاد حصول الدنيا فاثن عزمي عن ذلك، وخذ بناصيتي إلى الخير، وإن كان قصدي الثواب والآخرة وتقوية شوكة الإسلام فاجعل لي إلى فتح هذه المدينة سبيلاً، وأرح عبادك المسلمين المجاهدين في سبيلك. ثم سجد سجدة ونام في سجوده ووجهه على الثرى، فأتاه آت وخاطبه بكلام مبين قائلاً: يا بن سبكتكين، إن رمت الخلاص من هذه المحنة فأرسل جنوداً لحفظ العين وقد افتتحت غزنة فسعيك مشكور وفعلك مبرور. فانتبه وأرسل مقدماً لحراسة تلك العين ثم زحف على غزنة فافتتحها كطرفة عين.
عين الفرات: بقرب أردن الروم، من اغتسل من مائها أيام الربيع أمن من مرض تلك السنة.
(1/265)
عين نهاوند: قال صاحب تحفة الغرائب: بالقرب من نهاوند عين في شعب جبل وتحت الشعب وطأة، فكل من احتاج إلى الماء ليسقي أرضه؛ مشى إلى العين ودخل الشعب وهو يقول بصوت عال: أنا محتاج إلى الماء، ثم يغمس رجله في العين ويمشي نحو زرعه، والماء يمشي خلفه، حتى يسقي أرضه. فإذا انقضت حاجته يرجع إلى الشعب وهو يقول: قد اكتفت أرضي وربحتم أجري، ثم يضرب برجله الأرض فينقطع الماء عنه. وهذا دأب الماء ودأب أهل تلك الأرض، وهذه من أعجب العجائب.
وليكن هذا آخر الكلام على عجائب العيون.
(1/266)


يتبع



الصورة الرمزية يناير
يناير
عضو
°°°
افتراضي
فصل في الآبار وعجائبها
بئر أبي كود: بقرب طرابلس، من شرب من مائها تحمق، وهو مثل يقال بينهم للأحمق: شرب من بئر أبي كود.
بئر بابل: قال الأعمش: كان مجاهد يحب أن يسمع الأعاجيب ويقصدها، وكان لا يسمع بشيء من ذلك إلا توجه إليه وعاينه. فأتى بابل فلقيه الحجاج فقال له: ما تصنع ههنا؟ قال؛ أريد أن تسيرني إلى رأس الجالوت، وأن تريني موضع هاروت وماروت، فأمر به فأرسل إلى رجل من أعيان اليهود وقال: اذهب بهذا فأدخله على هاروت وماروت ولينظر إليهما، فانطلق به حتى أتى موضعاً فرفع صخرة فإذا هو شبه سرداب، فقال له اليهودي: انزل معي وانظر إليهما ولا تذكر اسم الله تعالى، قال مجاهد: فنزل اليهودي ونزلت معه ولم نزل نمشي حتى نظرت إليهما وهما كالجبلين العظيمين منكوسين على رؤوسهما والحديد في أعناقهما إلى ركبتيهما. فلما رآهما مجاهد لم يملك نفسه أن ذكر اسم الله تعالى. قال: فاضطربا اضطراباً شديداً حتى كادا يقطعان ما عليهما من الحديد، فهرب مجاهد واليهودي حتى خرجا، فقال اليهودي لمجاهد: أما قلت لك لا تفعل، كدنا والله نهلك.
قال المفسرون: إن رجلاً أراد أن يتعلم السحر فأتى أرض بابل ودخل عليهما فقال: لا إله إلا الله، فاضطربا اضطراباً شديداً وقالا له: ممن أنت؟ قال: من بني آدم، قالا: من أي الأمم؟ قال: أمة محمد. قالا: أو بعث محمد؟ قال: نعم. فاستبشرا بذلك

(1/267)



وفرحا؛ فقال الرجل: لم تفرحان؟ قالا: قد قرب فرجنا فإن محمداً نبي الساعة وقد قربت. قال لهما: أريد أن أتعلم السحر، قالا له: اتق الله ولا تكفر. قال: لا بد من ذلك. فعاوداه ثلاثاً فلم يرجع فقالا له: امض إلى ذلك النور فبل فيه. قال ففعل، فخرج منه نور حتى صعد إلى السماء ونزل دخان أسود فدخل في فيه فقالا له: فعلت؟ قال: نعم، قالا: فما رأيت؟ فأخبرهما فقال أحدهما: النور الذي خرج منك هو نور الإيمان، وقال الآخر: الدخان الذي دخل فيك هو ظلمة الكفر، اذهب فقد علمت.
وحكي أن امرأة جاءت إلى عائشة رضي الله عنها باكية تطلب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجده، فقالت لها عائشة: مم تبكين، وما الذي تريدين منه؟ فقالت: أريد أن أسأله عن شيء في السحر. فقالت: وما هو؟ قالت: إن زوجي سافر وغاب عني مدة طويلة فجاءت امرأة إلي وقالت: أتريدين مجيئه؟ قلت: نعم، قالت: فاعملي بما أقول لك، قالت: نعم. فغابت وأتتني بكبشين عند العشاء أسودين، فركبت واحداً وأركبتني الآخر. فلم نلبث إلا قليلاً حتى دخلنا على هاروت وماروت فقالت لهما: إن هذه المرأة تريد أن تتعلم السحر. فقالا لها: اتقي الله ولا تكفري وارجعي. فأبيت وقلت. لا بد من ذلك، فأعادا علي ثلاثاً، فأبيت وقلت: لا بد من ذلك. فقالا: اذهبي فبولي في ذلك التنور قالت: فذهبت ووقفت على التنور
(1/268)
فأدركني خوف الله تعالى فلم أفعل ورجعت إليهما، فقالا: فعلت؟ قلت نعم. قالا: فما الذي رأيت؟ قلت: لم أر شيئاً. قالا: لم تفعلي شيئاً، اذهبي فبولي في التنور. فذهبت. فقالا: ما رأيت؟ قلت: لم أر شيئاً. قالا: اذهبي فافعلي. قالت: فذهبت وأنا أرتعد ففعلت فخرج مني فارس مقنع بحديد فصعد إلى السماء. فرجعت إليهما وأخبرتهما. قالا: فذلك الإيمان خرج من قلبك، اذهبي فقد تعلمت. فخرجت أنا والمرأة وقلت لها: والله ما قالا لي شيئاً. قالت: بلى تعلمت، خذي هذه الحنطة فابذريها فبذرتها فنبتت. قالت: افركي، ففركت. قالت: اطحني، فطحنت. قالت: اخبزي، فخبزت. ووالله لم أفعل بعد ذلك شيئاً أبداً.
بئر بدر: وهي بين مكة والمدينة في الموضع الذي كانت فيه وقعة بدر بين النبي صلى الله عليه وسلم وكفار قريش ورمى منهم جماعة في القليب وهو هذا البئر.
حكي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنه رأى في اجتيازه هناك شخصاً مشوهاً خرج من البئر هارباً، وخرج في أثره آخر ومعه سوط يلتهب ناراً، فصاح به وضربه ورده إلى البئر، وأنا أنظر إليهما.
(1/269)
بئر برهوت: وهي بقرب حضرموت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فيها أرواح الكفار والمنافقين. وهي بئر عادية في فلاة مقفرة وواد مظلم. وعن علي رضي الله عنه قال: أبغض البقاع إلى الله برهوت، فيه بئر ماؤها أسود منتن تأوي إليه أرواح الكفار.
حكى الأصمعي عن رجل من أهل الخير: أن رجلاً من عظماء الكفار هلك، فلما كان في تلك الليلة مررت بوادي برهوت فشممنا ريحاً لا يوصف نتنه على خلاف العادة، فعلمنا أن روح ذلك الكافر الهالك قد نقلت إلى البئر.
(1/270)
وروى بعضهم قال: بت بوادي برهوت فكنت أسمع طول الليل قائلاً ينادي: يا دومة يا دومة، إلى الصباح. فذكرت ذلك لرجل من أهل العلم فقال: دومة هو اسم الملك الموكل بتلك البئر لتعذيب أرواح الكفار.
بئر قضاعة: وهي بالمدينة الشريفة. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بئر قضاعة فتوضأ من الدلو ورد ما بقي إلى البئر وبصق فيها وشرب من مائها، وكان ملحاً فعاد عذباً طيباً. وكان إذا أصاب الإنسان مرض في أيامه صلى الله عليه وسلم يقول اغسلوه من بئر قضاعة فإذا غسل فكأنما نشط من عقال. وقالت أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما: كنا نغسل المريض من بئر قضاعة ثلاثة أيام فيعافى.
بئر ذروان: بالمدينة المشرفة. روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرض، فبينما هو بين النائم واليقظان إذ نزل ملكان فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رأسه: ما وجعه؟ قال الذي عند رجليه: طب. قال: ومن طبه؟ قال لبيد بن الأعصم اليهودي. قال فأين طبه؟ قال: كرية تحت صخرة في بئر دروان. فانتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حفظ كلامهما فوجه علياً وعماراً مع جماعة من الصحابة فأتوا البئر فنزحوا ما بها من الماء وانتهوا إلى الصخرة فقلبوها فوجدوا الكرية تحتها، وفيها وتر فيه إحدى عشرة عقدة، فأخرجوها وحلوا العقد فزال وجع النبي صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله عليه المعوذتين إحدى عشرة آية، فحل بقراءتها العقد المعقودة في الوتر.
(1/271)


بئر زمزم: لما ترك إبراهيم الخليل عليه السلام إسماعيل وهاجر بموضع الكعبة وانصرف، والقصة مشهورة، قالت له هاجر: يا إبراهيم الله أمرك أن تتركنا في هذه البرية الحارة وتنصرف عنا؟ قال: نعم. قالت: حسبنا الله إذاً فلا نضيع. فأقامت عند ولدها حتى نفد ماء الركوة. فبقي إسماعيل يتلظى من العطش. فتركته وارتقت الصفا تلتمس غوثاً أو ماء فلم تر شيئاً، فبكت ودعت هناك واستسقت ثم نزلت حتى أتت المروة وتشوفت ودعت مثل ما دعت بالصفا، ثم سمعت أصوات السباع فخافت على ولدها فسعت إليه بسرعة فوجدته يفحص برجليه الأرض وقد انفجر من تحت عقبه الماء، فلما رأت هاجر الماء حوطت عليه بالتراب من خوفها أن يسيل. فلو لم تفعل ذلك لكان الماء جارياً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم لكانت عيناً جارية. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماء زمزم لما شرب له. ولكم أبرأ الله به من مرض عجزت عنه حذاق الأطباء.

قال محمد بن أحمد الهمداني: كان ذرع زمزم من أعلاه إلى أسفله أربعين ذراعاً، وفي قعرها عيون غير واحدة، عين حذاء الركن الأسود، وعين حذاء أبي قبيس والصفا، وعين حذاء المروة. ثم قل ماؤها في سنة أربع وعشرين ومائتين فحفر فيها محمد بن الضحاك تسعة أذرع فزاد ماؤها، وأول من فرش أرضها بالرخام المنصور ثاني الخلفاء العباسيين.


(1/272)


حكى المسعودي: أن ملوك الفرس يزعمون أن جدهم الخليل عليه السلام، وأنهم كانوا يحجون البيت ويطوفون به تعظيماً لجدهم، وآخر من حج منهم أزدشير بن بابك، طاف بالبيت فرموه بالزمزمة على زمزم، وهي قراءتهم عند صلاتهم.

بئر أريس: وهي بالمدينة الشريفة. وروي أن فيها عيناً من الجنة؛ وكان صلى الله عليه وسلم يستطيب ماءها ويبارك فيها. وروي أنه بصق فيها.

بئر المطرية: هي بئر قرية من قرى مصر، وبها شجر البلسان، وسقيها من البئر. والخاصية في البئر لا في الأرض.

ذكر أن عيسى عليه السلام اغتسل فيها. والأرض التي ينبت فيها هذا الشجر نحو ميل في ميل محوط عليها، وليس في الدنيا موضع ينبت فيه البلسان إلا هذه القرية.


(1/273)


بئر المعظمة: وتسمى بئر العظائم؛ وهي بالقاهرة عند الركن المخلق، يقال إنها من آبار موسى عليه السلام.

وحكي أن طاسة لفقير وقعت في بئر زمزم وعليها منقوش اسم ذلك الفقير، فرجع الفقير مع الركب المصري إلى القاهرة فجاء إلى البئر المعظمة ليتوضأ منها للتبرك فطلعت الطاسة بعينها في المستقى؛ وشهد له جماعة من الحجاج أنهم شاهدوا وقوعها في بئر زمزم.

وليكن هذا آخر الكلام على عجائب الآبار.


(1/274)


فصل في عجائب الجبال وما بها من الآثار

قال الله تعالى: " أفلا ينظرون إلى الإبلِ كيف خُلقتْ وإلى السماءِ كيف رُفعتْ وإلى الجبال كيف نُصبت، وإلى الأرض كيفَ سُطحتْ ". فلو قال قائل: ما وجه النسبة بين الإبل والسماء والجبال والأرض والنسبة بينهن غير ظاهرة؟ فالجواب أن القرآن نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بين ظهراني العرب ونزل بلغاتهم، ومن المعلوم أن أجل أموال العرب وأعظما الإبل؛ فبدأ بذكر الإبل لاستمالة قلوبهم إذ مدحت عظائم أموالهم، ثم ذكر السماء إذ الإبل لا بلاغ لها إلا بالنبات، ولا يكون النبات في الغالب إلا بالمطر، والمطر لا ينزل إلى الأرض إلا من السماء؛ ثم ذكر الجبال لأن العرب وأهل البادية ليس لهم حصون ولا قلاع يتحصنون فيها من أعدائهم إذا راموهم، فكانت الجبال حصوناً لهم وقلاعاً، وبها لهم الماء والمرعى؛ ثم ذكر الأرض وتسطيحها لأن العرب في أكثر الدهر يرحلون وينزلون في الأراضي السهلة الوطيئة لإراحة الإبل التي هي سفن البر ومنها معاشهم وبلاغهم، وهذه حكمة إلهية، ومن بعض معاني هذه الآية الشريفة هذا الوجه وهو وجه حسن.

فأعظم جبال الدنيا قاف: وهو محيط بها كإحاطة بياض العين بسوادها، وما وراء جبل قاف فهو من حكم الآخرة لا من حكم الدنيا. وقال بعض المفسرين: إن الله سبحانه وتعالى خلق من وراء جبل قاف أرضاً بيضاء كالفضة الجلية، طولها مسيرة أربعين يوماً للشمس، وبها ملائكة شاخصون إلى العرش لا يعرف الملك منهم من إلى جانبه، من هيبة الله جل جلاله، ولا يعرفون ما آدم وما إبليس، وهكذا إلى يوم القيامة. وقيل: إن يوم القيامة تبدل أرضنا هذه بتلك الأرض. والله سبحانه وتعالى أعلم.


(1/275)


جبل سرنديب: هو جبل بأعلى الصين في بحر الهند، وهو الجبل الذي أهبط عليه آدم عليه السلام، وعليه أثر قدمه غائصاً في الصخرة، طوله سبعون شبراً، وعلى هذا الجبل ضوء كالبرق ولا يتمكن أحد أن ينظر إليه، ولا بد كل يوم فيه من المطر فيغسل قدم آدم، وحوله من أنواع اليواقيت والأحجار النفيسة وأصناف العطر والأفاويه ما لا يوصف، وإن آدم خطا من هذا الجبل إلى ساحل البحر خطوة واحدة وهي مسيرة يومين.

جبل أوليان: هو بأرض الروم وفي وسط هذا الجبل درب، من دخله وهو يأكل الخبز من أول الدرب إلى آخره لا تضره عضة الكلب، ومن عضه الكلب وعبر بين رجلي هذا الرجل برئ وأمن من الغائلة.

جبل أبي قبيس: هو جبل مطل على مكة. زعموا أن من أكل عليه رأساً مشوياً أمن من وجع الرأس.

جبل راوند: بالقرب من همذان، وفيه ماء إذا شربه المريض عوفي.

حكي أنه دخل على جعفر الصادق رضي الله عنه رجل من همذان فقال له جعفر: من أين أنت؟ قال: من همذان؛ فقال: أتعرف جبلها؟ فقال له الرجل: جعلت فداك أراوند؟ قال: نعم. قال: إن فيه عيناً من عيون الجنة.

جبل سبستان: فيه ماء ينبت فيه قصب كثير، فما كان في الماء من القصب فهو من حجر، وما كان خارجاً عن الماء فهو قصب على حقيقته، وما رمي في الماء من ورق القصب الخارجي صار حجراً في الحال.

جبل أسبرة: وهو بناحية الشاش مما وراء النهر. قال الأصطخري: هناك جبل فيها منافع كثيرة من الذهب والفضة والفيروزج والحديد والنحاس والصفر والآنك والنفط والزئبق، وفيه حجر أسود يحرق ويبيض به الثياب ولا يقوم شيء مقامه.


(1/276)


جبل التر: على ثلاث مراحل من قزوين، وهو جبل شامخ لا تخلو قلته من الثلج لا صيفاً ولا شتاء، وعليه مسجد تأويه الأبدال، ويتولد من ثلجه دود أبيض إذا غرز فيه أدنى شيء يخرج منه ماء أبيض صاف يرى دابة وليس هو حيواناً.

وبالأندلس جبل فيه عينان بينهما مقدار شبر واحد، إحداهما في غاية البرودة والعذوبة والأخرى في غاية الحرارة والملوحة، ولهما رائحة عطرة طيبة. وبه جبل البرنس وفيه معدن الكبريت الأحمر والكبريت الأصفر والزئبق، ومنه يحمل إلى سائر البلاد، وفيه معدن الزنجفر وليس في جميع الأرض معدن للزنجفر إلا هناك.

جبل القدس: قال صاحب تحفة الغرائب: بأرض القدس جبل فيه غار كالبيت تزوره الناس، فإذا أظلم الليل أضاء البيت وليس فيه ضوء ولا سراج ولا كوة ولا طاقة.

جبل ثبير: وهو بمكة بقرب منىً، وهو جبل مبارك يقصده الزوار، وعليه اهبط الكبش الذي فدي به إسماعيل عليه السلام.

جبل ثور: وهو بقرب مكة. وفيه الغار الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لما خرجا مهاجرين.


(1/277)


جبل الجودي: بقرب جزيرة ابن عمر من الجانب الشرقي الذي استوت عليه سفينة نوح عليه السلام، وبنى به نوح مسجداً وهو باق إلى الآن تزوره الناس.

جبل جوشن: غربي حلب، وفيه معدن النحاس. قيل: إنه بطل منذ عبر عليه سبي الحسين بن علي رضي الله عنهما، وكانت زوجة الحسين مثقلة بالحمل فطرحت هناك. وبه مشهد مبارك يعرف بمشهد الطرح، وطلبت من صناع النحاس ماء للشرب فمنعوها وسبوها، فدعت عليهم فامتنع الريح من ذلك الحين.

جبل حارث وحويرث: هما بأرض أرمينية، لا يقدر أحد على ارتقائهما أصلاً. قال ابن الفقيه السيرافي، كان على نهر الرس بأرمينية ألف مدينة عامرة آهلة، فبعث


(1/278)


الله عز وجل إليهم نبياً دعاهم إلى الله فكذبوه وآذوه فدعا عليهم فحول الله الحارث والحويرث من الطائف وأرسلهما على المدن وأهلها. فهم تحت هذين الجبلين حتى الساعة.

جبل حراء: هو على ثلاثة أميال من مكة المشرفة. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه للخلوة ويعبد الله فيه قبل نزول الوحي، وأتاه جبريل هناك.

جبل جودقور: وهو بين حضرموت وعمان.

حكى أحمد بن يحيى اليمني أن في ناحية قورشق جبلاً يقال له جود قور، غوره مقدار خمسة أرماح وعرضه قليل فمن أراد أن يتعلق السحر فليأخذ ماعزاً أسود ليس فيه شعرة بيضاء ويذبحه ويسلخه ويقسمه سبعة أجزاء يعطي منها جزءاً واحداً للمقيم بذلك الجبل، وستة أجزاء ينزل بها إلى الغار، ثم يأخذ الكرش يشقها وينطلي بما فيها، ويلبس الجلد مقلوباً ويدخل الغار ليلاً. وشرطه أن لا يكون له أب ولا أم، فينام في الغار تلك الليلة فإن أصبح جسمه نقياً من حشو الكرش مغسولاً فقد قبل وحصل له السحر. وإن وجده بحاله لم يقبل ولا يحصل له القصد، فإذا خرج من الغار بعد القبول لا يحدث أحداً ثلاثة أيام يصير ساحراً ماهراً.

جبل الحيات: بأرض


(1/279)


تركستان. فيه حيات من نظر إليها مات الناظر لوقته إلا أنها لا تتجاوز هذا الجبل أبداً.

جبل نهاوند: بقرب الري يناطح النجوم ارتفاعاً، قال مسعود بن مهلهل: هذا الجبل لا يفارق أعلاه الثلج لا ليلاً ولا نهاراً، ولا صيفاً ولا شتاء البتة، ولا يقدر أحد أن يعلوه.

زعموا أن سليمان بن داود عليهما السلام حبس فيه صخر المارد، وزعموا أن أفريدون الملك حبس فيه بيوراسف الذي يقال له الضحاك. ومن صعد إلى هذا الجبل لا يصل إليه إلا بمشقة شديدة ومخاطرة بالنفس. قال مسعود بن مهلهل: صعدت إلى نصفه بمشقة شديدة وما أظن أحداً وصل إلى ما وصلت إليه، فرأيت هناك عين كبريت وحولها كبريت مستحجر، إذا طلعت الشمس اشتعل ناراً. وسمعت من أهل تلك الناحية أن النمل إذا أكثر من جميع الحب على هذا الجبل استشعر الناس بعده بجدب وقحط؛ وأنه متى دامت عليهم الأمطار والأنداء وتضرروا بذلك صبوا لبن الماعز على النار فتنقطع الأمطار والأنداء في الحال والحين، وجربته مراراً فوجدته صحيحاً كما قيل، وأما ذروة هذا الجبل فمتى انكشف من الثلج وقعت في تلك الأرض فتنة عظيمة على ممر الأيام لا تنخرم أبداً بل تكون الفتنة في الجهة المنكشفة دون غيرها.

قال محمد بن إبراهيم الضراب: عرف والدي معدن الكبريت الأحمر فاتخذ مغارف طوالاً من حديد فأدخلها فيه فذابت ولم يحصل على قصده. وقال له أهل تلك الناحية: هذا المكان لا يدخل فيه حديد إلا ذاب في وقته.

وذكروا أن رجلاً جاءهم من خراسان ومعه مغارف طوال من حديد ولها سواعد قد طلاها بأدوية حكمية، فأخرج بها من الكبريت الأحمر شيئاً كثيراً لبعض ملوك خراسان.


(1/280)


وذكر محمد بن إبراهيم أن الأمير موسى بن خضر كان والياً على الري إذ ورد عليه كتاب من المأمون بن الرشيد يأمره بالشخوص إلى هذا الجبل وتعرف حال المحبوس به. قال: فوافينا حضيض الجبل وأقمنا به أياماً لا نرى الاهتداء لصعوده، حتى أتانا شيخ مسن طاعن وهو ذو همة عالية، فسألنا، فعرفناه أمر الخليفة فقال: أما هذا فلا سبيل إليه أصلاً، وإن أردتم صحة ذلك أريتكم عياناً! فاستحسن الأمير موسى كلامه وقال: هو القصد.

فعند ذلك صعد الشيخ بين أيدينا ونحن في الأثر فأوقفنا على موضع فبالغنا في حفره حتى انكشف لنا عن بيت منقور من الحجارة وفيه تمثال شخص على صورة عجيبة، يضرب بمطرقة على أعلاه ساعة بعد ساعة من غير فتور، فاستخبرنا الشيخ عن شأنه، فقال: هذا طلسم موضوع على بيوراسف الضحاك المحبوس ههنا لئلا ينحل من وثاقه؛ ثم أمرنا أن لا نتعرض للطلسم وأن نرده إلى ما كان عليه ففعلنا؛ ثم دعا بسلاسل وسلالم طوال فربط بعضها إلى بعض بالحبال وكلبها من أسافلها وأوساطها وأوقفها فارتفعت مقدار مائة ذراع ونقب موضعاً على رأس السلالم فظهر باب من حديد عليه مسامير كبار جداً مذهبة الرؤوس، فوصلنا إلى عتبة فوجدنا على الأسكفة كتابة بالفارسية كأنما كتبت الآن بالذهب مدهونة بأدهان التأبيد تنطق الكتابة عن كلام معناه أن على هذه القلة سبعة أبواب من حديد، على كل مصراع منها أربعة أقفال من حديد؛ وعلى العضادة مكتوب: هذا سجن لهذا الحيوان المفسد وله أمد ينتهي إلى غاية فلا يتعرض أحد إلى هذه الأقفال بمكروه، فإنه متى فتح أقفالها ولو قفلاً واحداً هجم على هذه البلاد آفة لا تندفع أبداً.

فقال الأمير موسى: لا أتعرض لشيء حتى أستأذن أمير المؤمنين فجاء الجواب برد البيت إلى ما كان وترك ذلك على حاله.


(1/281)


جبل الربوة: وهو على فرسخ من دمشق. ذكر بعض المفسرين أنها المراد بقوله تعالى: " وآويناهما إلى رَبْوةٍ ذاتِ قرارٍ ومَعين " وهو جبل عال على قلته مسجد حسن بين بساتين وأشجار ورياض ورياحين من جميع جوانبه؛ وله شبابيك تطل على ذلك كله. ولما أرادوا إجراء نهر ثور وقع هذا الجبل في طريقه معترضاً فنقبوه من تحته وأجروا الماء من النقب. وعلى رأسه نهر يزيد وهو ينزل من أعلاه إلى أسفله؛ وفي هذا الجبل كهف صغير زعموا أن عيسى بن مريم عليهما السلام ولد فيه. قال القزويني: رأيت في هذا المسجد في بيت صغير حجراً كبيراً حجمه كحجم الصندوق ذا ألوان مختلفة عجيبة وقد انشق نصفين كالرمانة المنشقة وبين الشقين من أعلاه فتح ذراع، وأسفله ملتئم لم ينفصل شق عن الآخر. ولأهل دمشق في هذا الجبل أقاويل كثيرة أضربنا عنها.

جبل رضوى: قال عرامة بن الأصبع: هو من المدينة على نحو سبع مراحل، وهو جبل منيف ذو شعاب وأودية، وهو أخضر يرى من البعد، وبه أشجار وثمار ومياه كثيرة؛ وتزعم الكيسانية أن محمد بن الحنفية رضي الله عنه حي وأنه مقيم به بين أسد ونمر يحفظانه، وعنده عينان نضاختان ماء وعسلاً، وأنه سيعود بعد الغيبة فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً؛ وكان السيد الحميري على هذا المذهب وهو القائل:

ألا قل للرّضيّ فدتك نفسي ... أطلت بذلك الجبل المقاما


(1/282)


ومن رضوى يقطع حجر المسن ويحمل إلى جميع البلاد.

جبل الرقيم: وهو المذكور في القرآن. قيل هو اسم القرية التي كان فيها أصحاب الكهف؛ وقيل: اسم الجبل، وهو بالروم بين أرقية ونبقية.

حكى عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: أرسلني أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى ملك الروم رسولاً لأدعوه إلى الإسلام؛ فسرت حتى دخلت بلاد الروم فلاح لنا جبل يعرف بأهل الكهف، فوصلنا إلى دير فيه وسألنا أهل الدير عنهم فأوقفونا على سرب في الجبل. فوهبنا لهم شيئاً وقلنا: نريد أن ننظر إليهم. فدخلوا ودخلنا معهم، وكان عليه باب من حديد فانتهينا إلى بيت عظيم محفور في الجبل، فيه ثلاثة عشر رجلاً مضطجعين على ظهورهم كأنهم رقود، وعلى كل واحد منهم جبة غبراء وكساء أغبر قد غطوا بهما من رؤوسهم إلى أقدامهم، فلم ندر ما ثيابهم أمن صوف أم من وبر، إلا أنها كانت أصلب من الديباج، فلمسناها فإذا هي تتقعقع من الصفاقة، وعلى أرجلهم الخفاف إلى أنصاف سوقهم منتعلين بنعال مخصوفة، وفي خفافهم ونعالهم من جودة الخرز ولين الجلود ما لم ير مثله.

قال: فكشفنا عن وجوههم رجلاً رجلاً فإذا هم في وضاءة الوجوه وصفاء الألوان وحسن التخطيط، وهم كالأحياء، وبعضهم في نضارة الشباب، وبعضهم أشيب، وبعضهم قد وخطه الشيب، وبعضهم شعورهم مضفورة، وبعضهم شعورهم مضمومة، وهم على زي المسلمين. فانتهينا إلى آخرهم فإذا فيهم واحد


(1/283)


مضروب على وجهه بسيف كأنما ضرب في يومه، فسألنا عن حالهم وما يعلمون من أمرهم، فذكروا أنهم يدخلون عليهم في كل عام يوماً، وتجتمع أهل تلك الناحية على الباب فيدخل عليهم من ينفض التراب عن وجوههم وأكسيتهم ويقلم أظفارهم ويقص شواربهم ويتركهم على هيئتهم هذه.

قلنا لهم: هل تعرفون من هم؟ وكم مدة لهم ههنا؟ فذكروا أنهم يجدون في كتبهم وتواريخهم أنهم كانوا أنبياء بعثوا إلى هذه البلاد في زمان واحد قبل المسيح بأربعمائة سنة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن أصحاب الكهف سبعة وهم مكسلمينا، كمليخا، مرطونس، يمبنونس، نارينونس، ذو أنوانس، كسيططيونس، وكلبهم قطمير.

جبل تانك: قال صاحب تحفة الغرائب: جبل بأرض تانك، وهم طائفة من الترك ببلاد تركستان ليس لهم زرع ولا ضرع، وفي جبالهم ذهب كثير وفضة كثيرة؛ وربما يقع لهم كل قطعة كرأس الشاة من الذهب والفضة فمن أخذ القطع الكبار مات في الحال واليوم، ومن أخذ من القطع الصغار انتفع بها من غير ضرر يمسه، ومن ذهب بقطعة كبيرة إلى بيته مات هو وأهل بيته إلا أن يرجع بها من أثناء الطريق، وإذا أخذ الغريب من انقطع الكبار فلا بأس عليه ولا سوء.

جبل ساوة: وهو على مرحلة منها وهو شامخ جداً، فيه غار شبه إيوان يسع سبعة آلاف نفس، وفي آخر الغار قد برز في صدر حائطه أربعة أحجار متفرقة شبه ثدي المرأة يتقاطر الماء من ثلاثة منها والرابع يابس لا يقطر منه شيء، يزعم أهل تلك الأرض أن كافراً مصه فيبس، وتحته حوض يجتمع الماء فيه وهو ماء طيب لا يتغير بطول مكثه. وعلى باب الغار نقب ذو بابين يدخل الناس من أحدهما ويخرجون من الآخر، يزعمون أنه من لم يكن ولد حلال لا يقدر على الخروج منه. قال القزويني:


(1/284)


رأيت رجلاً دخله وما خرج حتى عاين الهلاك.

جبل سيلان: بقرب مدينة أردبيل من أذربيجان، وهو من أعلى جبال الدنيا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأ " فسبحان الله حين تُمسون وحين تُصبحون " إلى " وكذلك تُخرَجون " كتب الله له من الحسنات بعدد كل ورقة ثلج تقع على جبل سيلان. قيل: وما سيلان يا رسول الله؟ قال: جبل بأرمينية وأذربيجان، عليه عين من عيون الجنة وفيه قبر من قبور الأنبياء.

قال أبو حامد الأندلسي: على رأس هذا الجبل عين عظيمة مع غاية ارتفاعه، ماؤها أبرد من الثلج وكأنما شيب بالعسل لشدة عذوبته. وبجوف الجبل ماء يخرج من عين، يصلق البيض لحرارته، يقصدها الناس لمصالحهم. وبحضيض هذا الجبل شجر كثير ومراع وشيء من حشيش لا يتناوله إنسان ولا حيوان إلا مات لساعته.

قال القزويني: ولقد رأيت الجبل والدواب ترعى في هذا المكان فإذا قربت من هذا الحشيش نفرت وولت منهزمة كالمطرودة. قال: وفي سفح هذا الجبل بلدة اجتمعت بقاضيها، واسمه أبو الفرج عبد الرحمن الأردبيلي، وسألته عن حال تلك الحشيشة، فقال: الجن تحميها. وذكر أيضاً أنه بنى في قرية مسجداً فاحتاج إلى قواعد كبار حجرية لأجل العمد، فأصبح فوجد على باب المسجد قواعد منحوتة من الصخر محكمة الصنعة كأحسن ما يكون.

جبل السماق: وهو بأعمال حلب، يشتمل على مدن وقرى وقلاع وحصون، وأكثرها للاسماعيلية والدرزية وهو منبت السماق، وهو مكان طيب كثير الخيرات.


(1/285)


جبل السم: قال الجهاني: إن أهل الصين نصبوا قنطرة من رأس جبل إلى جبل آخر في طريق آخذة إلى تبت، من جاز على القنطرة يؤخذ بأنفاسه ويلهب قلبه ويثقل لسانه، ويموت في الغالب من المارين جماعة مستكثرة. وأهل التبت يسمونه جبل السم.

جبل الشب: بأرض اليمن، على قلته ماء يجري من جانب إلى جانب وينعقد شباً، والشب اليماني من ذلك.

جبل الصور: قال صاحب تحفة الغرائب: بأرض كرمان جبل، من أخذ منه حجراً وكسره يرى في وسطه صورة إنسان قائم أو قاعد أو مضطجع؛ وإن صحقت الحجر ناعماً وحللته في الماء وتركته حتى يرسب ترى في الراسب منه ما رأيته في الحجر من الصورة وهيئتها. وهذا من أعجب العجب.

جبل الصفا: هو ببطحاء مكة، والواقف على الصفا يرى الحجر الأسود قبالته والمروة تقابله: يقال: عن الصفا اسم رجل والمروة اسم امرأة، زنيا في الكعبة فمسخهما الله تعالى حجرين، فوضع كل واحد على الجبل المسمى باسمه لاعتبار الناس. وجاء في الحديث: إن الدابة التي من أشراط الساعة. تخرج من الصفا. وكان ابن عباس رضي الله عنهما يضرب بعصاه حجر الصفا ويقول: إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذه.

جبل صقلية: هو في وسط بحر الروم، وهو بحر المغرب، أعلاه مسيرة ثلاثة أيام، فيه أشجار كثيرة من البندق والصنوبر والأرز. وفي أعلاه منافس كثيرة يخرج منها الدخان والنار؛ وربما سالت النار فأحرقت جميع ما مرت عليه وتجعله مثل


(1/286)


خبث الحديد. وعلى قمة هذا الجبل السحاب والثلوج صيفاً وشتاء لا تفارقه؛ وزعم أهل الروم أن الحكماء كانوا يدخلون إلى هذه الجزيرة ليروا عجائبها وكيف اجتماع الضدين الثلج والنار؛ وفيها معدن الذهب وتسميه أهل الروم جزيرة الذهب.

جبل الطاهرة: هو بأرض مصر، قال صاحب تحفة الغرائب: بهذا الجبل كنيسة فيها حوض يجري فيه من الجبل ماء عذب يجتمع في ذلك الحوض، فإذا امتلأ من جميع جانبه ترده الناس؛ فإذا ورد الحوض جنب أو امرأة حائض وقف الماء وانقطع جريانه ولا يجري حتى ينزح ما فيه من الماء ويغسل الحوض غسلاً بالغاً فيجري بعد ذلك.

جبل طبرستان: قال صاحب تحفة الغرائب: بهذا الجبل ضرب من الحشيش يسمى جوز مائل، من قطعه وهو ضاحك غلب عليه الضحك في عمره، ومن قطعه باكياً غلب عليه البكاء؛ ومن قطعه راقصاً غلب عليه الرقص؛ وكذلك على أي صفة كان، فمن قطعه استمر على تلك الصفة.

جبل طور سيناء: هو بين الشام ومدين. قيل: إنه بالقرب من أيلة، وهو المكلم عليه موسى عليه السلام. كان إذا جاء موسى عليه السلام للمناجاة ينزل غمام فيدخل في الغمام ويكلم ذا الجلال والإكرام؛ وهو الجبل الذي دك عند التجلي. وهناك خر موسى صعقاً؛ وهذا الجبل إذا كسرت حجارته يخرج من وسطها صورة شجرة العوسج على الدوام، وتعظم اليهود شجرة العوسج لهذا المعنى، ويقال لشجرة العوسج شجرة اليهود.

جبل طور هرون: وهو جبل مشرف على بيت المقدس وإنما سمي جبل طور هرون لأن موسى عليه السلام بعد أن عبدت بنو إسرائيل العجل أراد المضي إلى


(1/287)


مناجاة الرب العلي: فقال له هارون: احملني معك فإني لست بآمن أن تحدث بنو إسرائيل أمراً بعدك. فغضب موسى وحمله. فلما كان ببعض الطريق إذ هما برجلين يحفران قبراً فوقفا عليهما وقالا: لمن القبر؟ قالا: لرجل في طول هذا وهيئته، وأشارا إلى هارون وقالا له: بحق إلهك إلا ما نزلت لتعرف القياس. فنزع هارون أثوابه ونزل القبر واضطجع فيه فقبضه الله في الحال، وانطبق القبر على هارون. فانصرف موسى بثيابه حزيناً باكياً. فلما صار إلى بني إسرائيل اتهموه بقتل أخيه، فدعا موسى ربه حتى أراهم هارون في تابوت في الجو على رأس ذلك الجبل.

جبل فرغانة: قال صاحب تحفة الغرائب: ينبت بهذا الجبل ضرب من النبات على صور الآدميين، منها ما هو على صورة الرجل، ومنها ما هو على صورة المرأة. وتوجد هذه الصور مع بعض الطرقيين يتكلمون عليها ويقولون إنها تزيد في المحبة والقبول، وأكلها يزيد في الباه ولا تقلع حتى يربط فيها حبل طويل ويربط طرفه في رقبة كلب، ثم ينفر الكلب فيقطع الصورة من أصلها وتقع صيحة على الكلب فيموت في الحال.

جبل قاسيون: هو جبل مشرف على دمشق، فيه آثار الأنبياء، وهو معظم من الجبال. وفيه مغارات وكهوف ومعابد للصالحين. وفيه مغار يعرف بمغارة الدم يقال إن قابيل قتل هابيل هناك، وهناك حجر يزعمون أنه الحجر الذي فلق به هامته. وفيه مغارة أخرى يسمونها مغارة الجوع، يقال إن أربعين نبياً ماتوا بها من الجوع.

جبل الهند: قال صاحب تحفة الغرائب: بأرض الهند جبل عليه صورة أسدين والماء يجري من أفواههما فيروي قريتين. فوقع بين أهل القريتين خصومة على الماء، فقال أهل إحدى القريتين: نوسع فم الأسد الذي يصب إلى أرضنا حتى يكثر الماء


(1/288)


على أراضينا؛ فكسروا فم الأسد فانقطع الماء أصلاً من ذلك الأسد وخربت تلك القرية وارتحل أهلها، والأسد الآخر على حاله، والقرية الأخرى عامرة.

جبل تلاسيم: قرية من قرى قزوين. قال القزويني: حدثني من صعد على هذا الجبل قال: عليه صور كل حيوان من الحيوانات على اختلاف أجناسها، وصور الآدميين على أنواع أشكالها عدد لا يحصى وقد مسخوا حجارة، وفيها الراعي متكئ على عصاه والماشية حوله كلها حجارة، والمرأة تحلب بقرة وقد تحجرتا والرجل يجامع امرأته وقد تحجرا، والمرأة ترضع ولدها وهلم جراً، هكذا.

وهذا آخر الكلام على الجبال وعجائبها.


(1/289)


فصل في ذكر الأحجار

وخواصها ومعرفة منافعها

الحجر الأبيض: إذا حككته على حجر صلب وخرج محكه أبيض فلا يعبأ به، وإذا كان محكه أصفر فمن حمله وتكلم بما شاء وأخبر بما شاء وقع الأمر كما تكلم وأخبر، وإن خرج محكه أحمر فحمله فكل شيء يقوم فيه يصعد معه، وإن خرج المحك أغبر فكل من استعان بحامله أُعين به، وإن خرج أخضر وعلق في بستان أو زرع أو كرم أو نخل أمن من الآفات، وإن خرج مسوداً ينفع من السموم القاتلة حكاً وشرباً.

الحجر الأحمر: إذا حك وخرج محكه مبيضاً نجحت أمور حامله، وإن خرج مسوداً فأي شيء حدث حامله به نفسه قدر عليه، وإن خرج محكه مغبراً أو مصفراً، فمن حمله أحبه الناس، وإن خرج المحك مخضراً فكل من حمله لم يؤثر فيه السلاح.

الحجر البنفسجي: إذا حك فخرج محكه مبيضاً فكل من حمله زال عنه الهم، والغم والحزن، وإن خرج مسوداً فكل من حمله لم تنجح مقاصده، وإن خرج مصفراً فكل من حمله أتاه كل شيء وصعد معه، وإن رمي في بئر أو عين قل ماؤها فإن خرج محمراً يرى حامله كل خير، وإن خرج مخضراً يزكو زرع حامله وتنمو غنمه، وإن خرج مغبراً فكل من اكتحل به على اسم أحد أحبه، رجلاً كان أو امرأة.

الحجر الأخضر: إذا حك وخرج محكه مبيضاً، فمن حمله درت عليه الخيرات والبركات، وإن خرج مسوداً فكذلك، وإن خرج مصفراً فكل دواء يصفه لعليل أو مريض ينفعه ويشفى، وإن خرج محمراً فحامله لا يزال ترد عليه الصلات والعطايا من الأكابر، وإن خرج مغبراً فحامله متى وضع يده على رأس مريض وذكر شيئاً من أسماء الله تعالى شفاه الله وقام من مرضه بإذن الله تعالى.


(1/290)


الحجر الأسود: إذا حك وخرج محكه مبيضاً نفع من جميع السموم القاتلة حكاً وشرباً، وإن خرج المحك مسوداً فكل من حمله زاد عقله وحسن رأيه وقضيت حوائجه عند الملوك والسلاطين، وإن خرج مخضراً لم يؤثر في حامله سم أصلاً.

الحجر الأغبر: إذا حك وخرج محكه مبيضاً فسحق كالكحل واكتحل به انسان على اسم رجل أو امرأة وقعت محبة المكتحل في قلب من سماه وأحبه حباً زائداً، وإن خرج مخضراً أو مسوداً واكتحل به أكرمه كل من رآه. وإن اكتحلت به النساء أحبهن أزواجهن. وإن خرج مصفراً أو محمراً وحمله انسان أفلح حيث توجه.

الحجر الأصفر: إذا خرج محكه مبيضاً حصل لحامله من الخلق كل ما يروم. وإن خرج مخضراً فإن حامله لا يغلب في الكلام والخصومة. وإن خرج مسوداً فمن حمله وذكر اسم شخص يراه لا يزال يتبعه حيث شاء حتى لا يكاد ينقطع عنه.

حجر السامور: هو الذي يقطع به جميع الأحجار بالسهولة، قيل إن سليمان بن داود عليهما السلام لما شرع في بناء بيت المقدس استعمل الجن في قطع الصخر، فشكا الناس إليه من صداع سماع قطع الصخور وشدة جلبتها، فقال سليمان للجن: أتعرفون شيئاً يقطع الصخر من غير صوت ولا جلبة. فقال بعضهم: نعم يا نبي الله، أنا أعرفه، وهو حجر يسمى السامور ولكن لا أعرف مكانه. فقال: احتالوا في تعرفه.


(1/291)


فاستدعى آصف بن برخيا وزيره وأمره بإحضار عش عقاب وبيضه على حاله من غير أن يخربوا منه شيئاً. فجيء به فجعله في جام كبير غليظ من زجاج وأمر برده إلى مكانه من غير تغيير. فأعيد. فجاء العقاب ورأى ذلك فضرب الجام برجله ليرفعه فلم يقدر، فاجتهد فما أفاد، فعاد وجاء في اليوم الثاني بحجر في رجله وألقاه عليه فقسم الجام الزجاج نصفين. فأمر سليمان بإحضاره فحضر. فقال له: من أين لك هذا الحجر الذي ألقيته في عشك؟ فقال: يا نبي الله من جبل بالمغرب يقال له السامور. فبعث بالجن مع العقاب إلى ذلك الجبل فأحضروا له من حجر السامور كالجبال. فكانوا يقطعون به الحجارة من غير صوت ولا صداع. وأسكت الناس.

حجر حامي: هو حجر شديد الحمرة منقط بنقط سود صغار يوجد ببلاد الهند من أزال عنه تلك النقط وسحقه وألقاه على الفضة صارت ذهباً خالصاً.

حجر الخطاف: يوجد في عش الخطاف حجران، أحدهما أحمر والآخر أبيض، فالأبيض يبرئ حامله من الصرع، والأحمر يقوي القلب ويذهب الجزع والخوف والفزع من حامله.

حجر الرحى: يؤخذ من حجر الرحى السفلاني قطعة وتعلق على المرأة التي تسقط الأولاد فلا تسقط بعد ذلك.


(1/292)


حجر الصنونو: هو حجر يوجد في عش الصنونو تنفع حكاكته من اليرقان. والحيلة في تحصيله أن يعمد الإنسان إلى فراخ الصنونو فيلطخها بالزعفران المذاب بالماء ويدعها؛ فإذا رأتهم الأم تظن أن بهم يرقاناً فتغيب وتأتي بهذا الحجر وتضعه عندهم فيأخذه الطالب له.

حجر القيء: وهو حجر بأرض مصر، إذا أمسكه الإنسان غلب غليه الغثيان حتى يلقي ما ببطنه، فإن لم يرمه هلك من القيء.

حجر المطر: هو حجر يوجد ببلاد الترك، إذا وضع في الماء غيمت الدنيا ووقع المطر والثلج والبرد إلى أن يرفع من الماء، قال القزويني: رأيت من شاهد هذا وأخبرني به.

حجر الحية: وهو حجر يوجد في رأسها في حجم بندقة صغيرة؛ وحجرها ينفع الملدوغ تعليقاً ويقطع نزف الدم وعسر البول ويقوي الفكر. وإن علق في رقبة المصروع زال عنه الصرع.

حجر السبج: وهو حجر أسود شديد الرخاوة يجلب من الهند شديد البريق ينكسر سريعاً. إذا ضعف بصر الإنسان يديم النظر إليه فينفعه؛ وإن حمله منع عنه العين السوء، ويجلو البصر اكتحالاً؛ وإذا جعل على الرأس أزال الصداع.

حجر السنباذج: يجلو الأسنان ويدمل القروح.


(1/293)


حجر الماس: هو حجر في لون النوشادر الصافي لا يلصق بشيء من الأحجار، وإذا وضع على السندان وضرب عليه بالمطرقة غاص فيهما أو في أحدهما ولم ينكسر.

وإذا ضرب بالأُسرب تكسر، ولو تكسر ألف قطعة لا تكون مقطعاته إلا مثلثة، يضعون منها قطعة في طرف المثقب ويثقبون به الأحجار الصلبة والجواهر، وإن ألقى في دم تيس وقرب من النار ذاب لوقته، وهو سم قاتل.

حجر الجزع: هو حجر صلب له ألوان كثيرة. فمن حمله أورثه الهم والغم والحزن وأراه أحلاماً رديئة ويعسر عليه قضاء الحوائج. وإن علق على صبي كثر بكاؤه وفزعه وسال لعابه وعظم نكده، ومن سقي منه مسحوقاً قل نومه وثقل لسانه، وإن وضع بين جماعة حصلت بينهم فتنة وخصومة وعداوة، وليس فيه منفعة إلا أنه يسهل الولادة على الحامل.

حجر البحر: وهو حجر أسود خفيف خشن، من استصحبه في ركوب البحر أمن من الغرق، وإن وضع في قدر لم تغل أبداً.

حجر الدجاجة: وهو يوجد في قوانص الدجاج، إذا وضع على مصروع أبرأه. وإن حمله انسان فإنه يزيد في قوة باهه، ويدفع عن حامله عين السوء، ويوضع تحت


(1/294)


رأس الصبي فلا يفزع في نومه.

حجر البهت: وهو أبيض شفاف يتلألأ حسناً، وهو مغناطيس الإنسان، إذا رآه الإنسان غلب عليه الضحك والسرور، وتقضى حوائج حامله عند كل أحد.

حجر المغناطيس: أجوده ما كان أسود مشرباً بحمرة، ويوجد بساحل بحر الهند والترك، وأي مركب دخل هذين البحرين فمهما كان فيه من الحديد طار منه مثل الطير حتى يلصق بالجبل، ولهذا لا يستعمل في مراكب هذين البحرين شيء من الحديد أصلاً. وإذا أصاب هذا الحجر رائحة الثوم بطل فعله، فإذا سغل بالخل عاد إلى فعله، فإذا علق هذا الحجر على أحد به وجع نفعه، خصوصاً من به وجع المفاصل ووجع النقرس ويزيد في الذهن. ويعلق على الحامل فتضع في الحال. وقد قيل فيه:

قلبي العليل وأنت جالينوسه ... فعسى بوصلٍ أن يزول رسيسه

يشتاقك القلب العليل كأنه ... إبر الحديد وأنت مغناطيسه

وقد قيل في المعنى دوبيت:

من آدم في الكون ومن إبليس؟ ... ما عرش سليمان وما بلقيس؟

الكل إشارة وأنت المعنى ... يا من هو للقلوب مغناطيس


(1/295)


الأحجار الصلبة ذات الجواهر

الياقوت: هو حجر صلب شديد اليبس رزين صاف، منه أحمر وأبيض وأصفر وأخضر. وهو حجر لا تعمل فيه النار لقلة دهنيته، ولا يثقب لغلظ رطوبته، ولا تعمل فيه المبارد لصلابته، بل يزداد حسناً على ممر الليالي والأيام، وهو عزيز قليل الوجود سيما الأحمر وبعده الأصفر. على أن الأصفر أصبر على النار من سائر أصنافه، وأما الأخضر منه فلا صبر له أصلاً. ومن تختم بهذه الأصناف أمن من الطاعون وإن عم الناس، ومن حمل شيئاً منها أو تختم به كان معظماً عند الناس، وجيهاً عند الملوك.


(1/296)


الدر واللؤلؤ: يتكون في بحر الهند وفارس. وزعم البحريون أن الصدف الدري لا يكون إلا في بحر تصب فيه الأنهار العذبة، فإذا أتى الربيع كثر هبوب الريح في البحر وارتفعت الأمواج واضطرب البحر. فإذا كان الثامن عشر من نيسان خرجت الأصداف من قعور هذه البحار ولها أصوات وقعقعة، وبوسط كل صدفة دويبة صغيرة، وصفحتا الصدفة لها كالجناحين وكالسور تتحصن به من عدو مسلط عليها وهو سرطان البحر، فربما تفتح أجنحتها لشم الهواء فيدخل السرطان مقصه بينهما ويأكلها، وربما يتحيل السرطان في أكلها بحيلة دقيقة وهو أن يحمل في مقصه حجراً مدوراً كبندقة الطين، ويراقب دابة الصدف حتى تشق عن جناحيها فيلقي السرطان الحجر بين صفحتي الصدفة فلا تنطبق فيأكلها، ففي اليوم الثامن عشر من نيسان لا تبقى صدفة في قعور البحر المعروفة بالدر واللؤلؤ إلا صارت على وجه الماء وتفتحت، حتى يصير وجه البحر أبيض كاللؤلؤ، وتأتي سحابة بمطر عظيم ثم تنقشع السحابة وقد وقع في جوف كل صدفة ما قدر الله من القطر، إما قطرة واحدة وإما اثنتان وإما ثلاثة، وهلم جراً إلى


(1/297)


المائة والمائتين وفوق ذلك. ثم تنطبق الأصداف وتلتحم وتموت الدابة التي كانت في جوف الصدفة في الحال وترسب الأصداف إلى قرار البحر وتلصق به وينبت لها عروق كالشجرة في قرار البحر حتى لا يحركها الماء فيفسد ما في بطنها، وتلتحم صفحتا الصدفة التحاماً بالغاً حتى لا يدخل إلى الدر ماء البحر فيصفره.

وأفضل الدر المتكون في هذه الأصداف القطرة الواحدة ثم الاثنتان ثم الثلاثة، وكلما كثر العدد كان أصغر جسماً وأخس قيمة، وكلما قل العدد كان أكبر جسماً وأعظم قيمة. والمتكون من قطرة واحدة هي الدرة اليتيمة التي لا قيمة لها والأخريان بعدها، فالصدفة تنقلب إلى ثلاثة أطوار، في الأول طور الحيوانية فإذا وقع القطر فيها وماتت الدويبة صار في طور الحجرية. ولذلك غاصت إلى القرار وهذا طبع الحجر وهو الطور الثاني. وفي الطور الثالث وهو الطور النباتي تشرش في قرار البحر وتمتد عروقاً كالشجرة، ذلك تقدير العزيز العليم. ولمدة حمله وانعقاده وقت معلوم وموسم يجتمع فيه الغواصون لاستخراج ذلك. هذا في البحر.

وأما في البر ففي الثامن عشر من نيسان في كل عام تخرج فراخ الحيات التي ولدت في تلك السنة وتسير من بطن الأرض إلى وجهها وتفتح أفواهها كالأصداف في البحر نحو اسماء كما فتحت الأصداف جوفها فما نزل من قطر السماء في فمها أطبقت فمها عليها ودخلت في جوف الأرض، فإذا تم حمل الصدف في البحر لؤلؤاً ودراً صار ما دخل في فم فراخ الحيات داء وسماً. فالماء واحد والأوعية مختلفة، والقدرة صالحة لكل شيء. وقيل في هذا المعنى:

أرى الإحسان عند الحرّ ديناً ... وعند النّذل منقصةً وذمّا

كقطر الماء: في الأصداف درّ ... وفي جوف الأفاعي صار سمّا

البلخش: هو حجر صلب شفاف كالياقوت في جميع أحواله ومنافعه.


(1/298)


الدهنج: هو أخضر كالزبرجد، لين المجس، يتكون في معدن النحاس وهو أنواع كثيرة؛ ومن عجيب أمره أنه يصفو بصفاء الجو ويتكدر بكدورته. ومن عجيب أمره أيضاً أنه إذا سقي الإنسان من محكه فعل فعل السم، وإذا سقي منه شارب السم نفعه، وإذا مسح به موضع اللدغة برأ. ويطلى بحكاكته البرص فيزيله؛ وينفع من خفقان القلب، ويهيج على حامله شهوة الجماع.

الزبرجد: هو حجر أخضر شفاف يشبه الياقوت الأخضر وليس كقوته ولا فعله ولا قيمته.

الزمرد: وهو حجر أخضر شفاف يدخل في معالجة أدوية من سقي السم، وفي إكحال بياض العين. وحمله يقطع نزف الدم، ووضعه في الفم يقطع عطش الماء ويبرد حرارة القلب ومنه جنس يقال له الذبابي، خاصيته أن حامله لا يقع عليه


(1/299)


الذباب. ومنه جنس إذا نظرت إليه الأفاعي سالت أحداقها على خدودها.

حجر الباهت: هو حجر أبيض شفاف يتلألأ حسناً، وهو مغناطيس الإنسان، إذا أبصره الإنسان غلب عليه الضحك والسرور. ومن أمسكه معه قضيت حوائجه وعقدت عنه الألسن، ويسمى حجر البهت.

حجر الفيروزج: هو أخضر مشوب بزرقة. يوجد بخراسان وهو كالدهنج يصفو بصفاء الجو ويتكدر بكدرته. ينفع العين اكتحالاً والتختم به ينقص الهيبة إلا أنه يورث الغنى والمال.

وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال: ما افتقرت يد تختمت بالفيروزج.

والمرجان: ينبت في البحر كالشجر وإذا كلس تكليس أهل الصنعة عقد الزئبق، فمنه أبيض ومنه أحمر ومنه أسود، وهو يقوي البصر كحلاً وينشف رطوبته بخاصة ذلك فيه.


(1/300)


يتبع


الصورة الرمزية يناير
يناير
عضو
°°°
افتراضي


العقيق: وهو معروف، من تختم به سكن غضبه عند الخصومة وسكن ضحكه عند التعجب. والسواك بنحاتته يجلو وسخ الأسنان ورائحتها الكريهة وينفع من خروج الدم من اللثة، ومحرقه يقوي السن وينفع من الخفقان. وقال صلى الله عليه وسلم: من تختم بالعقيق لم يزل في خير وبركة وسرور.

الكهرباء: هو حجر أصفر مائل إلى الحمرة. ويقال إنه صمغ شجر الجوز الرومي، ينفع حامله من اليرقان والخفقان والأورام ونزف الدم، ويمنع القيء، ويعلق على الحامل فيحفظ جنينها.

البللور: وهو حجر أبيض شفاف أشف من الزجاج وأصلب. وهو متجمع الجسم في موضع بخلاف الزجاج، وهو يصبغ بألوان كثيرة كالياقوت، واستعمال آنيته ينفع لالتهاب القلب. والأغبر إذا علق على من يشتكي وجع الضرس أبرأه الله في الحال.

الزجاج: معروف، وهو يقبل الألوان ويجلو الأسنان، ويجلو بياض العين وينبت الشعر إذا طلي بدهن الزئبق.

اللازورد: وهو حجر أزرق ينفع العين اكتحالاً إذا خلط في الأكحال،


(1/301)


ومن تختم به نبل في عيون الناس، وهو يسقط الثآليل حملاً وحكاً وينفع أصحاب الماليخوليا.

وأما غير ذلك من المعادن فهو حجر اليشم: وهو حجر الغلبة، من حمله لا يغلبه أحد في الحروب ولا الخصومات ولا المحاججة. ومن وضعه في فمه سكن عطشه. ولهذا اتخذه الملوك في حوائجهم ومناطقهم وأسلحتهم.

التوتياء: هو حجر منه أخضر ومنه أصفر ومنه أبيض. يجلب من سواحل الهند. وأجوده الأبيض الخفيف الطيار ثم الأصفر ثم الفستقي الرقيق. وهو بارد يابس يمنع الفضلات من النفوذ إلى عروق العين وطبقاتها، وينفع من الرطوبة وينشف الدمعة ويزيل الصنان من الجسد.

الأثمد: هو الكحل الأسود، أجوده الأصفهاني، وهو بارد يابس ينفع العين اكتحالاً ويقوي أعصابها ويمنع عنها كثيراً من الآفات والأوجاع سيما الشيوخ والعجائز. وإن جعل معه شيء من المسك كان غاية في النفع، وينفع من حرق النار طلاءً مع الشحم، ويقطع النزف ويمنع الرعاف إذا كان من أغشية الدماغ. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير أكحالكم الأثمد، ينبت الشعر ويجلو البصر.

الملح: هو حار يابس، وهو يدفع العفونات كلها ويجلو كآبة اللون طلاءً، ويذيب الأخلاط الغليظة والبلغم والعفن والخام والسوداء، ويأكل اللحم الزائد ويحسن اللون أكلاً، ويضمد به مع بذر الكتان للسع العقرب، ومع العسل والخل لنهش أم أربعة وأربعين. وينفع من الجرب والحكة البلغمية والنقرس، ويمنع من أوجاع المعدة الباردة، ويحد الذهن، ويشد اللثة المسترخية ويسهل خروج الثفل، إلا أنه يضر بالدماغ والبصر والرئة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله


(1/302)


عنه: يا علي ابدأ بالملح واختم بالملح، فإنه شفاء من سبعين داء. والله سبحانه وتعالى أعلم.


(1/303)


فصل في النبات والفواكه وخواصها

اعلم وفقنا الله تعالى جميعاً إلى التفكر في عجائب صنعته وغرائب قدرته أن عقول العقلاء وأفهام الأذكياء قاصرة متحيرة في أمر النباتات وعجائبها وخواصها وفوائدها ومضارها ومنافعها، وكيف لا وأنت تشاهد اختلاف أشكالها وتباين ألوانها وعجائب صورة أوراقها وروائح أزهارها. وكل لون من ألوانها ينقسم إلى أقسام، كالحمرة مثلاً: وردي وأرجواني وسوسني وشقائقي، وخمري وعنابي وعقيقي، ودموي ولكي وغير ذلك، مع اشتراك الكل في الحمرة. ثم عجائب روائحها ومخالفة بعضها بعضاً، واشتراك الكل في طيب الرائحة وعجائب أشكال ثمارها وحبوبها وأوراقها دليل على وحدانية الله سبحانه وتعالى، ولكل لون وريح وطعم وورق وثمر وزهر وحب وخاصية لا تشبه الأخرى، ولا يعلم حقيقة الحكمة فيها إلا الله تعالى، والذي يعرفه الإنسان من ذلك بالنسبة إلى ما لا يعرفه كقطرة من بحر.

حكى المسعودي أن آدم عليه السلام لما أُهبط من الجنة خرج ومعه ثلاثون قضيباً مودعة أصناف الثمار: منها عشرة لها قشر، وهي: الجوز واللوز والفستق والبندق والشاهبلوط والصنوبر والرمان والنارنج واللوز والخشخاش. ومنها عشرة لا قشر لها، ولثمارها نوى، وهي: الرطب والزيتون والمشمش والخوخ


(1/304)


والإجاص والعناب والغبيراء والدراقن والزعرور والنبق. ومنها عشرة ليس لها قشر ولا نوى، وهي التفاح والكمثري والسفرجل والتين والعنب والأُترج والخرنوب والبطيخ والقثاء والخيار.


(1/305)


النخل: هو أول شجرة استقرت على وجه الأرض، وهي شجرة مباركة لا توجد في كل مكان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكرموا عماتكم النخل. وإنما سميت عمتنا لأنها خلقت من فضلة طينة آدم عليه السلام، ولأنها تشبه الإنسان من حيث استقامة قدها وطولها وامتياز ذكرها من بين الاناث، واختصاصها


(1/306)


باللقاح، ورائحة طلعها كرائحة المني. ولطلعها غلاف كالمشيمة التي يكون الولد فيها. ولو قطع رأسها ماتت، ولو أصاب جمارها آفة هلكت. والجمار من النخلة كالمخ من الإنسان، وعليها الليف كشعر الإنسان، وإذا تقاربت ذكورها وإناثها حملت حملاً كثيراً لأنها تستأنس بالمجاورة. وإذا كانت ذكورها بين إناثها ألقحتها بالريح، وربما قطع إلفها من الذكور فلا تحمل، لفراقه، وإذا دام شربها للماء العذب تغيرت، وإذا سقيت الماء المالح أو طرح الملح في أصولها حسن ثمرها. ويعرض لها أمراض مثل أمراض الإنسان.

منها الغم، وعلاجه أن يقطع من أسفلها قدر ذراعين ثم تخلل بالحديد. والعشق: وهو أن تميل شجرة إلى أخرى ويخف حملها وتهزل، وعلاجها أن يشد بينها وبين معشوقها الذي مالت إليه بحبل أو يعلق عليها سعفة منه، أو يجعل فيها من طلعه.

ومن أمراضها منع الحمل، وعلاجه أن تأخذ فأساً وتدنو منها وتقول لرجل معك: أنا أريد أن أقطع هذه النخلة لأنها منعت الحمل، فيقول ذلك الرجل: لا تفعل فإنها تحمل في هذه السنة، فتقول: لا بد من قطعها. وتضربها ثلاث ضربات بظهر الفأس، فيمسكها الآخر ويقول: بالله لا تفعل فإنها تثمر في هذه السنة فاصبر عليها ولا تعجل وإن لم تثمر فاقطعها. فتثمر في تلك السنة وتحمل حملاً طائلاً.

ومن أمراضها: سقوط الثمرة بعد الحمل وعلاجه أن يتخذ لها منطقة من الأسرب فتطوق به فلا تسقط بعدها، أو يتخذ لها أوتاداً من خشب البلوط ويدفنها حولها في الأرض. ومن عجيب أمرها أنك إذا أخذت نوى تمر من نخلة واحدة


(1/307)


وزرعت منها ألف نخلة، جاءت كل نخلة منها لا تشبه الأخرى. قال صاحب كتاب الفلاحة: إذا نقعت النوى في بول البغل وزرعت منها ما زرعت جاءت نخله كلها ذكوراً، وإن نقعت النوى في الماء ثمانية أيام وزرعته جاء بسره كله محمراً؛ وإن نقعت النوى في بول البقر أياماً وجففته ثلاث مرات وزرعته جاءت كل نخلة تحمل حملاً قدر نخلتين، وإذا أخذت نوى البسر الأحمر وحشوته في ثمر الأصفر وزرعته جاء بسره أصفر، وكذلك بالعكس، وكذلك فلاحة النوى المتطاول والنوى المدور.

وكيفية غرسه أن تجعل طرف النوى الغليظ مما يلي الأرض وموضع النقير إلى جهة القبلة.

وحكي أن بعض الرؤساء أُهدي له عذق واحد فيه بسرة حمراء وبسرة صفراء. وحكي أن قرية بنهر معقل كانت نخلها تخرج الطلع في السنة مرتين. وحكي أن بالسكن من أعمال بغداد نخلة تخرج كل شهر طلعة واحدة على ممر السنين. وكان في بستان ابن الخشاب بمصر نخلة تحمل أعذاقها، في كل عذق بسرة، نصفها أحمر ونصفها أصفر، والأعلى أحمر، والأسفل أصفر؛ والعذق الآخر بالعكس: الفوقاني أصفر والتحتاني أحمر.

وعن بعض ملوك الروم أنه كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قد بلغني أن ببلدك شجرة تخرج ثمرة كأنها آذان الحمر، ثم تنشق عن أحسن من اللؤلؤ المنظوم، ثم تخضر فتكون كالزمرد، ثم تحمر وتصفر فتكون كشذور الذهب. وقطع الياقوت، ثم تينع فتكون كطيب الفالوزج، ثم تيبس فتكون قوتاً وتدخر مؤونة، فلله


(1/308)


درها شجرةً وإن صدق الخبر فهذه من شجر الجنة. فكتب إليه عمر رضي الله عنه: صدقت رسلك، وإنها الشجرة التي ولد تحتها المسيح وقال: إني عبد الله فلا تدع مع الله إلهاً آخر.

ووصف خالد بن صفوان النخل فقال: هي الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل، الملقحات بالفحل، المعينات كشهد النحل، تخرج أسفاطاً غلاظاً وأوساطاً كأنها ملئت حللاً ورياطاً، ثم تنشق عن قضبان لجين وعسجد كالشذر المنضد، ثم تصير ذهباً أحمر بعد أن كانت في لون الزبرجد. ومن خواص النخلة أن مضغ خوصها يقطع رائحة الثوم وكذلك رائحة الخمر. شعر:

كان النخيل الباسقات وقد بدت ... لناظرها حسناً قباب زبرجد

وقد علّقت من قلبها زينةً لها ... قناديل ياقوتٍ بأمراس عسجد

النارجيل: وهو الجوز الهندي، زعم أهل اليمن والحجاز أن شجر النارجيل هو شجر المقل، لكنها أثمرت نارجيلاً لطيب قاع التربة والأهوية. وأجوده


(1/309)


الطري ثم جديد عامه الأبيض. وهو حار يابس يزيد في الباه وقوة الجماع وينفع من تقطير البول، ودهن العتيق منه ينفع البواسير والريح ويقتل الدود شرباً، ولبن الطري منه كثير الحلاوة، وليفه يتخذ منه حبال للسفن.


(1/310)


الإجاص والقراصيا: هما أخوان كالمشمش والخوخ الزهري، والإجاص نوعان: أحدهما يستعمل في الأدوية وأصغر منه، وهو الذي يقال له الخوخ التلباشري، وهو أحلى من الأول. والقراصيا أيضاً نوعان. أحدهما البرقوق وهو حلو أغبر والآخر أسود حامض. قال صاحب كتاب الفلاحة: من أراد أن يكون بلا نوى فليشق أسافل قضبانها شقاً متوسطاً وقمت غرسهما، وليخرج من أجوافهما مخهما، وهو صوفة وسط القضيب، إخراجاً بلطف ويضم بعضها إلى بعض


(1/311)


ويربطهما بشيء من الحشيش أو البردي، ويغرسهما مع بصل العنصل فإنهما يثمران ثمراً بلا نوى. وكذلك يفعل بالرمان فيخرج حبه بلا نوى.

العناب: منه بري ومنه بستاني. وهو كثير الحمل، ولشجره شوك. ومتى أحرق في أصله شيء من شجر الجوز حمل حملاً كثيراً، وكذلك إن أحرق في أصل الجوز شجر العناب. وهو معتدل بين الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، ينفع من حدة الدم لتغليظه له، وينفع الصدر والرئة ويحبس الدم. والماء المطبوخ فيه العناب نافع، فإنه يبرد ويرطب ويسكن الحدة واللذعة والذي في المعدة والأمعاء والسعال عن حرارة، ويلين خشونة الصدر والحنجرة إلا أنه يولد بلغماً، وهو عسر الهضم قليل الغذاء.


(1/312)


الزيتون: نوعان: منه بستاني وبري، والبري هو الأسود، وشجرته مباركة لا تنبت إلا في البقاع الشريفة الطاهرة المباركة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن آدم وجد ضرباناً في جسمه ولم يعهده؛ فشكا إلى الله عز وجل فنزل عليه جبريل بشجرة الزيتون فأمره أن يغرسها ويأخذ من ثمرها ويعصره ويستخرج دهنه، وقال له: إن في دهنه شفاءً من كل داء إلا السام؛ ويقال إنها تعمر ثلاثة آلاف سنة.

ومن خواصها أنها تصبر على الماء طويلاً كالنخل، ولا دخان لخشبها ولا لدهنها وإذا لقط ثمرتها جنب فسدت وقل حملها وانتثر ورقها؛ وينبغي أن تغرس في المدن لكثرة الغبار، فإن الغبار كلما علا على زيتونها زاد دسمه ونضجه. وإذا دققت حولها أوتاداً من شجر البلوط قويت وكثرت ثمرتها؛ وإذا علق من لسعه شيء من ذوات السموم من عروق شجر الزيتون برأ لوقته؛ وإذا أخذ ورقة ودق وعصر ماؤه على اللدغة منع سريان السم، وكذلك من سقي السم وبادر إلى شرب عصارة ورقها لم يؤثر فيه السم.


(1/313)


وإذا طبخ ورقها الأخضر طبخاً جيداً ورش في البيت هرب منه الذباب والهوام، وإذا طبخ بالخل وتمضمض به نفع من وجع الأسنان؛ وإذا طبخ بالعسل حتى يصير كالعسل وجعل منه على الأسنان المتآكلة قلعها بلا وجع. ورماد ورقها ينفع للعين كحلاً ويقوم مقام التوتيا. وصمغها ينفع من البواسير إذا ضمد به. وإذا نقع ورقها في الماء وجعل فيه الخبز فإذا أكله الفأر مات لوقته. وصمغ الزيتون البري ينفع من الجرب والقوباء ووجع الأسنان المتآكلة إذا حشيت به. وهو من الأدوية القتالة.

والزيتون المملوح يقوي المعدة ويضر بالرئة. والأسود منه يورث سهراً وصداعاً وخلطاً سوداوياً. والخل يكسر نصف شره. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكم بالزيت فإنه يسهل المرة، ويذهب البلغم، ويشد العصب ويمنع الغثي ويحسن الخلق، ويطيب النفس ويذهب الهم. وقال صلى الله عليه وسلم: كلوا الزيت وادهنوا به، فإنه يخرج من شجرة مباركة. وهو حار رطب موافق لوجع المفاصل وعرق النسا، ويسهل مع ماء الشعير شرباً ويتقيأ به مع الماء الحار فيكسر عادية المسوم لذغاً وشرباً.

وزيت الزيتون البري: ينفع من الصداع واللثة الدامية مضمضةً، ويشد الأسنان المتحركة. ونواه يبخر به لأوجاع الضرس وأمراض الرئة. وقد قيل في الزيتون:

أنظر إلى زيتوننا ... فهو شفاء المهج


(1/314)


بدا لنا كأعين ... قد كحلت بالدّعج

مخضرّة زبرجد ... مسودّة من سبج

التمر هندي: هو ألطف الإجاص وأقل رطوبة، وأجوده الجديد الطري. وهو بارد يابس، يسهل المرة الصفراء ويمنع حدتها ويطفئها وينفع من القيء والعطش ومن الحميات والغثي والكرب، إلا أنه يضر بالصدر وأصحاب السعال.

الغبيراء: خشبها أصبر من كل خشب على الماء، كالأرز والتوت. وزهرتها إذا شمتها المرأة هاجت بها شهوة الجماع حتى تطرح الحياء. والتنقل بثمرها يبطئ السكر ويحبس القيء وينفع من إكثار البول.


(1/315)


الخوخ: هو أخو المشمش ومشاكل له في كل أموره إلا في البقاء، فإن المشمش أطول عمراً منه لأن الخوخ أكثر ما يحمل أربع سنين، والحر والبرد يهلكه. وهو نوعان: شعري وزهري. قال صاحب كتاب الفلاحة: إذا أخذ القضيب من شجر الخوخ ونقع في بول انسان سبعة أيام ثم تثقب شجرة الصفصاف ثقباً نافذاً متسعاً بحيث يدخل فيه قضيب القصب وتدخل القضيب في ذلك الثقب حتى يخرج من الجانب الآخر، ثم تطين الموضع المثقوب وتقطع ما فضل من القضيب من الجانبين، بعد ذلك بسبعة أيام، فإنه يثمر ثمراً بلا عجم.

وإذا أردت تلوين ثمرتها فشق النواة فإن أردت لونها أحمر فضع في النواة زنجفراً مسحوقاً ناعماً. وإن شئت أصفر فزعفراناً، وإن شئت أخضر فزنجاراً. وإن أردت أزرق فلازورداً ونيله، وإن شئت أبيض فاسفيداج، ثم ترد قشرة النواة على القلب رداً موافقاً وتغطيها وتزرعها فإن ثمرتها تجيء على اللون الذي وضعت فيه النواة بلا مغايرة. وإذا حفرت أصل الشجرة في أول كانون وثقبته وجعلت فيه قصبة من قصب السكر ثم تتركها خمسة أيام ثم تسقيها فإنها تحمل حملاً حلواً، وكذلك طعم نواه. وخاصية ورق الخوخ أنه يقطع رائحة النورة من الجسد إذا سحق ناعماً ووضع في الدلو مع ماء الليمون والشيرج. ويقتل الدود الذي في باطن الإنسان إذا


(1/316)


طليت به السرة ويقتل دود الأذن إذا قطر فيه من عصارتها. والخوخ بارد رطب وهو يزيد في الباه ويضر بالمبرودين ويشهي الطعام ولا يحمض في المعدة، بخلاف المشمش.

المشمش: هو شجر يسرع إليه الفساد، عسر النشوء، إلا أنه إذا نبت طال مكثه، قال صاحب كتاب الفلاحة: من أراد أن تعظم هذه الشجرة عنده فلينزع أكثر ثمرتها عند أول نشئها وحملها، ولا يترك عليها من الحمل إلا شيئاً قليلاً في أغصان قوية منها. وهي تشبه الخوخ في جميع أحواله وإن فعلت بها جميع ما ذكرته في الخوخ من الألوان والأصباغ قبلت ذلك. وإن أردت المشمش بلا نوى فاقطع وسط ساق شجرتها حتى تبلغ قلبها ثم اضرب في ذلك الموضع وتداً من خشب بلوط، فإن تلك الشجرة تحمل مشمشاً بلا نوى، ومتى ركبت اللوز في المشمش اكتسبت من طعمه وحلاوته.


(1/317)


وأما خاصيته فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبياً من الأنبياء بعثه الله إلى قومه وكان لهم عيد يجتمعون فيه في كل سنة، فأتاهم النبي في ذلك اليوم ودعاهم إلى الله تعالى فقالوا: إن كنت صادقاً فادع لنا ربك يخرج لنا من هذا الخشب اليابس ثمرةً على لون ثيابنا، وكانت ألوانها مزعفرة، ونحن نؤمن لك. فدعا ذلك النبي ربه عز وجل، فاخضر الخشب وأورق وأثمر بالمشمش الأصفر، فمن أكل منه ناوياً للإيمان وجد نواه حلواً، ومن أكل على نية أن لا يؤمن وجد نواه مراً.

وورقها إذا مضغ أزال وجع الضرس. والمشمش بارد رطب ورطبه سريع العفونة يولد الحميات بسرعة ويبرد المعدة ويفسد الطعام الذي في المعدة، وقديده إذا نقع أزال الحميات، ونواه إذا نقع وأكل أحدث غشياً وكرباً وغثياناً. ودهن لب المر منه له منافع.

حكي أن طبيباً مر برجل يغرس شجر المشمش. فقال له ما تصنع؟ قال: أعمل لي ولك. قال الطبيب: كيف ذلك؟ قال أنتفع أنا بالثمرة وثمنها، وتنتفع أنت بمرض من يأكلها.


(1/318)


التفاح: هو أصناف، حلو وحامض وعفص ومز، ومنه ما لا طعم له. وهذه الأصناف في التفاح البستاني. وذكر أن بأرض اصطخر تفاحاً، نصف التفاحة حامض ونصفها حلو. ومتى ركب التفاح في الرمان يحمر ويحلو، ومتى صب في أصله أو في أصل الدراقن بول الإنسان احمر ومتى غرس أصلها ورد أحمر يحمر. ومتى صب في أصل الشجرة من التفاح بول أمره برئت من سائر أمراض الشجر ومتى غرس في أصلها العصفر أو حولها لم تدود ثمرتها. ومتى أردت أن تكتب على التفاح الأحمر بالأبيض فاكتب عليها وهي خضراء بالمداد. لا إله إلا الله، أو ما شئت، وتركته إلى أن يحمر ثم مسحت المداد فتخرج الكتابة وما تحتها أبيض ليس به حمرة. وكذلك إذا قطعت ورقة ورسمت فيها ما شئت من النقوش، وألصقتها على التفاح قبل احمراره تجد النقش بعد الاحمرار أبيض، وإذا قل ثمرها وانتثرت زهرتها أو ورقها فعلق عليها صحيفة من رصاص وأرخها حتى يبقى بينها وبين الأرض شبر، وإذا خرجت الثمرة وصلحت فارفع عنها الصحيفة.

خاصية هذه الشجرة: عصارة ورقها تسقى لمن سقي السم أو نهشته حية أو لدغته عقرب، مع حليب ماعز، فلا


(1/319)


يؤثر فيه السم ولا النهشة ولا اللدغة. وشم زهر التفاح يقوي الدماغ، وأجوده الشامي ثم الأصفهاني. والتفاح الحامض بارد غليظ مضر بالمعدة ومنسي الإنسان. ليس فيه نفع ظاهر. والحلو منه معتدل الحرارة والبرودة. وشمه وأكله يقوي القلب ويقوي ضعف المعدة وهو نافع من السموم وقشره رديء الجوهر مضر بالمعدة ولا يؤكل بقشره وكثرة أكله بقشره تحدث وجعاً في العصب. وإذا أردت أن التفاح يبقى مدة طويلة فلفه في ورق الجوز واجعله تحت الأرض أو في الطين.

الكمثرى: هو أنواع كثيرة وسائرها يبلغ عروقها الماء تحت الأرض. قال صاحب كتاب الفلاحة: ومن أحرق شيئاً من شجر الدلب وشجر اللوز بالسوية في أصول شجر الكمثرى، أخرج حملاً في غير أوانه. ومن ركب الكمثرى على التين أخرج كمثرى حلواً لطيفاً دقيق البشرة سريع النضج. ومن أراد أن لا يقرب ثمرتها دود فليطل ساقها بمرارة البقرة. وزهره يؤثر في تقوية الدماغ. وأجوده الذكي الرائحة الكثير الماء الرقيق البشرة، الصادق الحلاوة، الشديد الاستدارة وهو بارد يابس، وأكثر الفاكهة غذاءً، سيما الحلو منه. وحلوه ملين، وحامضه قابض جداً. وهو يقوي المعدة ويقطع العطش ويسكن الصفراء، إلا أنه يحدث القولنج ويضر بالمشايخ. وإذا أدخل الغذاء منع بخار المعدة أن يترقى إلى الرأس، وهكذا الموز، وحبه يقتل دود البطن.

السفرجل: هو أصناف، حلو وحامض ومز وعفص. وهو حياة للنفس. قال صاحب كتاب الفلاحة: إذا أردت أن تتخذ تماثيل من السفرجل فخذ عوداً وانحته


(1/320)


على أي تمثال أردت، ثم خذ من طين الفخار فلبسه لذلك القالب الذي عملته، ثم اتركه حتى يجف بعض الجفاف، ويكون القالب الذي وضعته في الفخار قطعتين، ثم تنزع العود المنحوت من القالب الفخار وتطبقه على السفرجلة وهي كالجوزة أو دونها، وتعصبه بخرق من قطن عصباً وثيقاً وتشد خيطاً من العصابة إلى غصن آخر من فوق السفرجلة المذكورة بحيث لا تثقل فتسقط، فإذا بدا صلاح السفرجل فاقطع الخيط وحل العصابة وفك القالب تجد السفرجلة قد تكونت على الهيئة التي وضعتها من الصور والأشكال، وهو ما يحير العقل.

ورماد ورق السفرجل يفعل في العين فعل التوتياء، وكذلك رماد خشبه. ولزهره خاصية عظيمة عجيبة في تقوية الدماغ وتفريح القلب. وللسفرجل منافع كثيرة غير أن في ثفله قبضاً فينبغي أن يؤكل بلا ثفل.

روى يحيى بن طلحة عن أبيه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده سفرجلة، فألقاها إلي وقال: دونكها فإنها تحيي الفؤاد وتنقية.

وروى الفضل بن العباس أنه صلى الله عليه وسلم كسر سفرجلة وناول منها جعفر بن أبي طالب وقال له: كل فإنه يصفي اللون ويحسن الولد. ومن عجيب أمره أنه إذا قطع بسكين نشف ماؤه وإذا كسر كان رطباً مائياً. وهو بارد يابس، يزهر


(1/321)


اللون ويسر النفس ويدر البول ويمنع من القيء والحمى، ويسكن العطش ويقوي المعدة ويحبس نزف الدم. والحامل إذا دامت على أكله، سيما في شهرها الثالث، كان ولدها حسن الوجه زكي الفهم ورائحته تقوي الدماغ والقلب. وإذا طبخ بالعسل نفع من عسر البول. والكثرة من أكله تولد القولنج والمغص ووجع العصب، وفي أكله بعد الطعام إطلاق للبطن، وإذا وضعت السفرجلة في موضع فيه أنواع الفواكه أفسدت الكل، وإذا أردت السفرجل أن يقيم زماناً فضعه على نشارة الخشب أو على التبن.

التين: هو أصناف. قال صاحب كتاب الفلاحة إذا أردت غرسه فاجعل قضبان القصب في الماء المالح يوماً ثم اجعله تحت خثى البقر واغرسه فإن شجرته تطيب جداً وثمرته تنبل وتزكو حلاوتها، وإذا سقيتها ماء الزيتون لا يسقط من ثمرتها شيء. ومن عجيب أمر التين أن الطيور إذا أكلته وذرقته على الجدار الندي والأماكن الندية تنبت أيضاً وتشجر وتثمر.


(1/322)


ومن أخذ من السقمونيا غصناً وعمد إلى شجرة التين وسلخ منها موضعاً وركب فيه غصناً من السقمونيا كتركيب سائر الأشجار وليكن ذلك إذا بلغت الشمس من الجدي ست درجات أو سبعاً أو ثمانياً ودار حول شجرة التين سبع دورات ثم وضع الغصن عند فراغ سابع دورة في شجرة التين وعصب التركيب، فإنها تنبت تيناً كالدواء المسهل، من أكل منها تينتين كان كشرب شربة.

وإذا غسلت شجر التين بالماء الحار هلكت. وخشبها ينفع من لسع الرتيلاء نقعاً بالماء وشرباً ومسحاً وتعليقاً. ولبن عيدانه إن قطر على موضع اللسعة لم يسر السم في الجسد. وقضبانها تهري اللحم في القدر إذا طبخت معه، وإذا نثر رماد خشب التين في البساتين هلك منها الدود، وإذا دق ورق التين مع الفج منه على عضة الكلب نفعه. وعصارة ورقها تقلع آثار الوشم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وضع بين يديه التين: لو قلت إن ثمرةً نزلت من الجنة لقلت هذه. كلوها فإنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أقسم الله بهذه الشجرة لأنها تشبه ثمار الجنة، لا قشر لها ولا نوى وهي على قدر اللقمة.

وأجوده المائل إلى البياض ثم الأصفر ثم الأسود، وأجود أصنافه الوزيري. والتي حار رطب، وهو أغذى من سائر الفواكه وأسرع نفوذاً، وهو يصلح اللون الفاسد ويوافق الصدر ويسكن العطش الذي من البلغم المالح، ويمنع الاستسقاء، وينفع من لسع العقرب والرتيلاء وأكله أمان من السموم، وإذا استعمل منه على الريق عشرة مع قلب الجوز كان له نفع عظيم ومع اللوز فكذلك، والغرغرة بمائه مطبوخة تحلل الخوانيق، ولبنه يذيب الجامد من الدماء والألبان، ويلطخ بلبنه الدماميل فتنضج ويقطر على الثآليل


(1/323)


فيقطعها، وعلى الجراحات التي عليها اللحم الفاسد فينقيها، والإكثار من أكله بالخبز يورث القمل في البدن. ودخان التين يهرب منه البق والبعوض.

العنب: الكرمة أكرم الشجر، وثمارها أشرف الثمر. وللناس بفلاحتها عناية عظيمة لما في العنب من الخاصية. وقد صنفوا كتباً فيما يتعلق بفلاحة الكرم والدوالي، لأنها أقل عملاً وأخف مؤنه وأكثر حملاً وأجود عصيراً. ومن عجيب أمرها أنك إذا أخذت من قضبانها التي فيها قوة الحمل وغرستها تأتي في أول سنتها بالعناقيد، ويكون بينها وبين الغرس شهران. وهذا الأمر لا يتفق في شيء من الشجر أصلاً.

قال صاحب كتاب الفلاحة: إذا أردت أن ترى من الكرمة عجباً من كثرة النفع وقوة الأصل وزيادة الحمل وسرعة الإدراك فخذ قضبان غرسها من شجرة قريبة العهد ثم اغرسها في النصف الأول من الشهر والطخ رأس القضيب بخثى البقر وابذر في جورة غرسها شيئاً من البلوط والنانخواه والباقلاء فإن شجرتها تكون في غاية العجب ومخالفة لسائر الكروم. وإذا أخذت قضيباً من العنب الأبيض وقضيباً من العنب الأسود وقضيباً من العنب الأحمر وشققتها بحيث لا يقع شيء من قشورها، ولففت بعضها ببعض وغرستها فإن القضبان كلها تخرج ساقاً واحداً، وتحمل الألوان الثلاثة شجرة واحدة. وإذا أردت أن تسود العنب الأبيض فاحفر


(1/324)


عن أصل الكرمة واسقها شيئاً من النفط الأسود فإن أردت أن لا يقع في الكرم دود فاقطع طاقتها بمنجل قد لطخ بدم ضفدع أو دم دب.

وإذا أردت أن يسلم من البرد فدخن الكرم بزبل بحيث يصل الدخان إليها جميعاً وانثر عليها ثمرة الطرفاء، وإذا حملت الكرمة فأخذت من نوى الزبيب أو العنب وطمر في أصلها أسرع إدراك ثمرها. وعصير كل عنب على لون أرضه لا لون حبه. وماء الكرم الذي يتقاطع من قضبانها بعد كسحها يجمع ويسقى للمشغوف بالخمر بعد شرب الخمر من غير علمه فإنه يبغض الخمر قطعاً. وينفع للجرب شرباً ويدق ورقها ناعماً ويضمد به الصداع فيسكنه.

وأصناف ثمرها كثيرة وأعجبها عيون البقر: وهي كالجوز، وأصابع العذارى: وهي كالأصبع المخضوبة، وربما بلغ العنقود منه طول ذراع والعنبة أوقية بالمصري. ويقال: إن في بعض الكتب المنزلة: أتكفرون بي وأنا خالق العنب؟ وقشر العنب بارد يابس. والعنب جيد الغذاء مقوي للبدن، يسمن بسرعة ويوفد دماً جيداً وينفع الصدر والرئة. والمقطوف لوقته ينفع ويحرك البطن ويقوي شهوة الجماع ويقوي مادة المني، وحبه ينفع من لسع الهوام والأفاعي دقاً وضماداً.

الحصرم: أجود ماء الحصرم المعتصر باليد، وهو بارد يابس، ينفع من الصفراء ومن الحرارة الملتهبة ويولد رياحاً ومغصاً ويضرب بالعصب والصدر.

الزبيب: أجوده الكثير اللحم الصادق الحلاوة. وقيل إنه أُهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبيب فقال: بسم الله كلوا، نعم الطعام الزبيب، يشد العصب ويذهب الوصب ويطفئ الغضب ويرضي الرب ويطيب النكهة ويذهب البلغم ويصفي اللون.


(1/325)


والزبيب حار رطب وحبه يابس والزبيب تحبه المعدة والكبد وهو جيد لوجع الأمعاء وينفع الكلى والمثانة، ويعين الأدوية على الإسهال إذا أخذ منه عشرة دراهم.

القشمش: هو زبيب صغير حلو أحمر وأخضر وأصفر. ويحكى عن أصحابه أنهم قالوا: ما زبب من قشمشنا في الشمس جاء أحمر، وما زبب معلقاً جاء أصفر، وما زبب في البيوت جاء أخضر. وهو كالزبيب غير أنه لا عجم له.

الخمر: أول من استخرج الخمر جمشيد الملك؛ فإنه توجه مرة إلى الصيد فرأى في بعض الجبال كرمة وعليها عنب فظنها من السموم فأمر بحملها حتى يجربها ويطعم العنب لمن يستحق القتل، فحملوها فتكسرت حباتها فعصروها وجعلوا ماءها في ظرف. فما عاد الملك إلى قصره إلا وقد تخمر العصير، فأحضر رجلاً وجب عليه القتل فسقاه من ذلك فشربه بكره ومشقة، فنام نومة ثقيلة، ثم انتبه فقال: اسقوني منه، فسقوه أيضاً مراراً، ولم يحدث فيه إلا السرور والطرب، فسقوا غيره وغيره،


(1/326)


فذكروا أنهم انبسطوا بعدما شربوا ووجدوا سروراً وطرباً فشرب الملك وأعجبه ثم أمر بغرسه في سائر البلاد.

وقيل إن ملك السريان وهو أحد الأخوين اللذين اشتركا في الملك رأى يوماً طائراً وقد قصدت حية فراخه فرمى الملك الحية بسهم فقتلها. فغاب الطائر وأتى بثلاث حبات عنب في منقاره ورجليه ورماها بين يدي الملك، فعلم الملك أنها مكافأة له على ما فعله فزرعها فعلقت وأينعت وأثمرت، فلم يجسر الملك على استعماله خوفاً من أن يكون قاتلاً أو مضراً فعصره وأودعه في الآنية فغلى وقذف بالزبد وفاحت رائحته، فتعجب الملك لذلك فسقى منه شخصاً وجب عليه القتل فطرب ورقص وأظهر سروراً، ثم انتبه وذكر ما حدث له من السرور والطرب، فسر به الملك وأمر بغرسه في البلاد.

والأسود من الخمر بطيء الانحدار رديء الكيموس قوي الحرارة، والأبيض قليل الحرارة سريع النحدار. ومن لازم شربها حصل له خلل في جوهر العقل، ووجع في الكبد والطحال، وقلة شهوة الغذاء وضعف في الباه وفساد في الدماغ، ويحدث النسيان والبخر في الفم، والرعشة والرعب وضعف البصر والعصب والحميات والسكتة والصرع وموت الفجأة. وشربها على الريق بعد التعب يحدث خفقاناً في القلب وقساوة والتهاباً وأوجاعاً. ومما يمنع السكر بزر الكرنب وبزر الحصرم وأكل الفالوزج وشم اللينوفر. وأعظم ذمها كونها مفتاحاً لكل شر وجالبة لكل سوء وضر، ومميتة للقلب ومسخطة للرب. نسأل الله تعالى أن يتوب علينا وعلى كل عاص، وأن يلهمنا رشدنا ويأخذ بنواصينا إلى الخير بحق محمد وآله.

الخل: المتخذ من الخمر، بارد يابس، يمنع انصباب المواد إلى داخل البدن ويلطف ويعين على الهضم وخصوصاً مع وجود الشيب والتغرغر به يمنع سيلان


(1/327)


الخلط إلى الحلق، يمنع نزف الدم، وينفع من الجرب والقوابي وحرق النار، ووضعه على الرأس يمنع الصداع الحار. وهو صالح للمعدة الحارة ويفتق الشهوة ويبرد الرحم وينفع المنهوش، وشربه مسخناً ينفع لمقاومة السموم والأدوية القتالة.

التوت: وهو الفرصاد. وهو أعز الأشجار، لأن دود القز لا يأكل إلا منه. قال المعتصم لعمال البلاد: استكثروا من غرس التوت فإن شعبها حطب وثمرها رطب، وورقها ذهب. وهو أنواع، والأسود منه بارد يابس. وإذا وضع


(1/328)


الأسود منه على لسع العقرب سكنه في الحال. والأبيض منه حار رطب رديء الغذاء مفسد للمعدة لكن يدر البول.

الرمان: هي من الأشجار التي لا تقوى إلا بالبلاد الباردة المعتدلة. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما أُلحقت رمانة قط إلا بحبة من الجنة. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إذا أكلتم الرمان فكلوها ببعض شحمها فإنه دباغ للمعدة، وما من حبة منه تقيم في جوف مؤمن إلا أنارت قلبه، وأخرجت شيطان الوسوسة عنه أربعين يوماً.

وأجوده الكبار والحلو والمليسي، وهو حار رطب يلين الصدر والحلق ويجلو المعدة وينفع الخفقان ويزيد في الباه، وقشره تهرب من الهوام.

الأُترج: هي شجرة حارة ولا تنبت إلا في البلاد الحارة وتقيم نحو عشرين سنة ومتى مستها حائض أو أخذ من ورقها جنب فسدت شجرته. وقشر


(1/329)


الأترج حار يابس ولحمه حار رطب. وحماضه بارد يابس، وحبه حار رطب. وأجوده الكبار، وهو يصلح لفاسد الهواء والوباء، ولحمه رديء للمعدة ويشهي الطعام وينفع من الخفقان ويسهل الصفراء.

النارنج: شجرة لا يسقط ورقها كالنخلة؛ قال صاحب كتاب الفلاحة: إذا زرعت النرجس تحت شجرة النارنج تبدلت حموضتها بالحلاوة. ودواء مرض


(1/330)


شجرة النارنج أن تسقى دم إنسان من فصد وغيره مخلوطاً بالماء. خاصية ورقها إذا مضغ طيب النكهة، ويذهب رائحة الثوم والبصل والخمر، ورائحة زهرها تنفع الدماغ وتقوي القلب، وتحلل مواد الرياح الباردة.

الليمون: هو نبات هندي، ولا يصح ويقوى إلا بالبلاد الحارة، وورقه وقشره حار يابس، وحماضه بارد يابس، وماؤه كذلك، ينفع من الصفراء ويسكن العطش ويقوي المعدة والشهوة ويضر بالصدر والعصب، وهو مشاكل للأُترج في أفعاله وله خاصية عظيمة في دفع السموم ونهش الحيات والأفاعي.

ومن عجيب أمره ما حكى عنه أبو جعفر بن عبد الله الصيني قال: كانت لي ضيعة على نهر الدير بالبصرة، وكنت أقيم بها وبجواري بستان ظهرت فيه حية أطول من عشرة أشبار في عرض جراب ودوره، وكثرت جناياتها وأذاها. فطلبت حواءً يصيدها أو يقتلها، فجاء رجل فدللته نحو وكرها فبخر بدخنة كانت معه فلم يشعر إلا والحية قد خرجت إليه. فلما رآها الرجل وهاله أمرها ولى فنهشته فمات في الحال. واشتهر أمرها بها الناس وامتنع الحواؤون من الحضور إليها فجاء لي رجل بعد مدة وقال: قد بلغني أمر الحية وفسادها وتعاظم أذاها فدلني عليها. فقلت: قد قتلت حواءً. فقال: هو أخي وقد جئت لآخذ بثأره أو أموت كما مات، فأرنيها. فقلت له: اعبر إلى البستان. وجلست أنا في طبقة لها طاقة تطل على البستان أنظر ما يكون منه. فأخرج دهناً كان معه فأدهن به وصلى ودعا ودخن كما دخن أخوه فخرجت إليه هائشة، فما تزعزع عن مكانه فلما قربت منه هجم عليها وطلبها فهربت منه، فتبعها وقبض عليها، فالتفتت إليه ونهشته فمات من وقته. فترك الناس الضيعة ورحلوا من أجلها، وقالوا لا مقام لنا في جيرة هذه السخطة. فجاءني بعد أيام رجل آخر فسألني عنهما وعن الحية فأخبرته بما كان فقال: والله هما أخواي، وجئت لآخذ بثأرهما أو أموت كما ماتا ولا بد لي منها. فأريته البستان وجلست في الطاقة لأنظر ماذا يصنع؟


(1/331)


فأخرج دهناً وادهن به ودخن كأخويه فخرجت إليه فطلبها فوقفت له تحاربه، ثم تمكن من قفاها وقبض عليها فالتفتت وعضت إبهامه فحزمها وجعلها في سلة كبيرة أحضرها معه وبادر إلى إبهامه فقطعها وأشعل ناراً وكواها. فحملناه إلى الضيعة فرأى ليمونة بكف صبي، فقال: أعندكم من هذا شيء؟ قلنا نعم قال: ائتوني بما تقدرون عليه، فأتيناه بكثير منه فجعل يقضم ويأكل ويدهن به موضع اللسعة وبات فأصبح سالماً، فقال: ما خلصني الله سبحانه إلا بهذا الليمون. وقطع رأس الحية وذنبها ورمى بهما، وغلى على بدنها وطبخه وأخذ دهنه ومضى.

اللوز: أجوده الطري الكثير الدهن، وهو معتدل الحرارة والرطوبة يغذي غذاء حسناً ويسمن وينفع الصدر والسعال ونفث الدم، ويلين البطن خصوصاً إذا كان مع التين، وينفع من عضة الكلب الكلب، والمر منه حار يابس وهو جيد للشرى مع الشراب، ودهنه ينفع من وجع الأذن ويمنع صداع الرأس، وأكله قبل السكر يمنع السكر، وهو يقوي البصر ويفتح سدد الكبد والطحال والكلى.

الجوز: ينبت بنفسه ولا يصح إلا في البلاد الباردة، وهو حار يابس بطيء الهضم إلا أنه ينصلح مع التين. ودهنه ينفع من الحمرة، وقشره يحبس نزف الدم ويضمد به لعضة الكلب الكلب، وكثرة أكله تورث ثقل اللسان.

البندق: حار مع يبوسة وإذا خط على العقرب حلقة بعود البندق لا يقدر أن يخرج منها، وهو يزيد في الباه وشهوة الجماع مع السكر مدقوقاً، وينفع من نهش الهوام خصوصاً مع التين أكلاً وضماداً، وإذا طلي مدقوقاً على يافوخ الطفل الأزرق العينين ردهما سوداوين.


(1/332)


يتبع


مواقع النشر (المفضلة)
خريدة العجائب وفريدة الغرائب

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
الانتقال السريع
المواضيع المتشابهه
الموضوع
مخطوطة حاوي العجائب و مظهر الغرائب للشيخ أحمد بن زنبل
مخطوط خريدة العجائب وفريدة الغرائب
كتاب حاوي العجائب ومظهر الغرائب
ذكر الأحجاروخواصها ومعرفة منافعها نقلا عن خريدة العجائب وفريدة الغرائب
خريدة العجايب وفريدة الغرايب

الساعة الآن 08:07 AM.