المشاركات الجديدة
مقالات عامة في علم الفلك : طرح مختلف المواضيع المهتمة بعلم الفلك

أبو العلاء المعرى ... فلكيا" !

افتراضي أبو العلاء المعرى ... فلكيا" !
أبو العلاء المعرى ... فلكيا " !
إبراهيم مشارة (جزائري مقيم بباريس)

أبو العلاء المعرى شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء , وأحد كبار الشعراء العرب وأعمقهم ثقافة وأرسخهم قدما" فى علوم العربية والمنطق والفلسفة , وأحد القلائل الذين لهم خبرة بالنفس الإنسانية وتقلباتها . ويزيد إعجابنا بسعة ثقافته إذا تقصينا شيئا" من ثقافته الفلكية .

يبهر أبو العلاء المعرى من له دراية بالفلك , ويحار فى الدقة التى يصف بها الشاعر المجموعات النجمية وطلوعها وشروقها الواحدة تلو الأخرى وهو الضرير الذى حرم من متعة النظر إلى السماء .

ولقد أكثر المعرى من ذكر النجوم والكواكب , ولا جرم أنه كان يعظم شأنها وهو القائل عن زحل :
زحل أشرف الكواكب دارا" * من لقاء الردى على ميعاد

والمعرى كغيره من المثقفين فى العصر العباسي الأول والثاني الذين اطلعوا ولا ريب على مؤلفات أفلاطون وأرسطو وبطليموس , والإشارة هنا بقوله " أشرف الكواكب دارا" إلى كون زحل الكوكب الأبعد مدارا" , حول الأرض لا حول الشمس ؛ لأن النظرية البطليموسية وفحواها أن (الأرض مركز الكون) سادت حتى عصر كوبرنيكوس , ولهذا وقف الإنسان القديم فى تعرفه على الكواكب عند زحل لأن الكواكب الأخرى ( أورانوس ونبتون وبلوتو ) لا تُرى إلا بالمناظير القوية , وقد كان المعرى مؤمنا" بفناء المادة وانحلال الكون من حيث هو نجوم وكواكب ؛ فيقول مباشرة" بعد البيت السابق :
ولنار المريخ من حدثان الد* هر مطف" وإن علت فى اتقاد
والثريا رهينة بافتراق الش* مل حتى تعد فى الأفراد
واللبيب اللبيب من ليس يغتر* ر بكون مصيره للفساد

اقتران الكواكب

وفى لزوميات المعرى إشارات فلكية تخفى على كثير من المثقفين فى عصره وفى غيره من العصور . كإشارته إلى اقتران الكواكب , وهو من الناحية الفلكية اجتماع كوكبين أو أكثر فى برج من البروج فى أقرب مساحة ممكنة , وإذا علمنا أن بعض الكواكب لا تُتم دورة واحدة حول الشمس إلا خلال عشرات السنين اتضح لنا أن هذا الأمر نادر الحدوث . ومن الاقترانات التى تناولها المعرى ما تعلق بكوكبي المشترى وزحل وقد كان القدماء يتفاءلون خيرا" بهذا الاقتران , على العكس من تشاؤمهم بظهور المذنبات . يقول المعرى :
قران المشترى زحلا يرجى * لإيقاظ النواظر من كراها

غير أن المعرى يخونه التوفيق فى بيت من هذه القصيدة ؛ حين يؤكد ثبات مواقع النجوم .
تقضى الناس جيلا" بعد جيل * وخُلفت النجوم كما تراها

فالذي هو ثابت اليوم أن النجوم فى حال حركة , وأن كثيرا" منها سيغير موقعه بعد آلاف السنين , فمجموعة " الدب الأكبر " لن يكون شكلها كما نراه اليوم بل سيتغير ؛ نتيجة لحركة نجومها .
وفى قصيدة " عللانى " وهى قصيدة نظمها الشاعر فى عهد الشباب حاول فيها أن يحاكى المبصرين فى دقة الوصف , متعاليا" على عاهته , وقد نجح فى ذلك إلى حد الإعجاز , وأدعو القارئ إلى قراءة هذه الأبيات ومراجعة ذاكرته حول أسماء النجوم الواردة فى هذه القصيدة , وعن الفصل الذى تشرق فيه وتغرب إن كان من الملمين بالفلك , يقول أبو العلاء :
ليلتي هذه عروس من الزن * ج عليها قلائد من جمان
وكأن الهلال يهوى الثريا * فهما للوداع معتنقان

عروس من الزنج : إشارة إلى ظلمة القبة السماوية
الجمان : المقصود به هنا النجوم

والمؤكد أن الشاعر نظم هذه القصيدة فى أواخر الربيع ؛ لأن برج الثور حيث توجد مجموعة "الثريا" لا يكون بالأفق الغربي إلا فى أواخر هذا الفصل ؛ حيث تنزله الشمس فى شهر مايو ؛ فتنحجب عن الأبصار.

فإذا كان الهلال ابن أيام قليلة فى أواخر الربيع نزل فى برج الثور فيُرى بعد مغيب الشمس فى هذا البرج , وقبل هذا البيت يقول المعرى :

وكآني ما قلت والبدر طفل * وشباب الظلماء فى العنفوان

نجم سهيل

وقد أولع المعرى بذكر نجم "سهيل" وهو نجم عملاق أحمر يبعد عن الأرض بحوالي 400 سنة ضوئية وهو جد مهم فى الملاحة الفضائية ؛ لأنه يستخدم كنقطة مرجعية فى توجيه السفن الفضائية فى رحلاتها ما بين الكواكب , ويقع هذا النجم فى كوكبة " الجؤجؤ " التى تشكل جزءا" من المجموعة النجمية العملاقة " السفينة " . فماذا يقول الشاعر عن هذا النجم ؟
وسهيل كوجنة الحب فى اللو * ن وقلب المحب فى الخفقان
ضرجته دما" سيوف الأعادي * فبكت رحمة له الشعريان

الشعريان : الشعري اليمانية والشعري الشامية

ولن نخوض فى الجمال الأدبي الأخاذ الكائن فى هذا الوصف , ولكن ينبغي أن نشير هنا إلى أن هذا النجم لا يُرى من العُروض الشمالية "كسورية" حيث عاش الشاعر ؛ بسبب وجوده تحت خط الأفق فى جنوب الكرة السماوية . ولا تتأتى رؤيته إلا من جنوب الأرض ( إفريقيا الجنوبية , أستراليا , أمريكا الجنوبية ) . والشاعر قد أراد أن يدلل على سعة ثقافته الفلكية ولو لم يشاهد هذه النجوم .

ويختم المعرى قصيدته بالإشارة إلى شروق كوكبة " النسر الواقع " وفيها النجم اللامع "VeGa " , وهى كوكبة تشرق فى أواخر الربيع قبل الفجر ثم تتقدم غرب السماء يوما" بعد يوم ؛ وبالتالي تكون محتلة للسمت فى فصل الصيف . والعارف بالفلك يحار فى دقة المعرى فى تقصى هذه المجموعات النجمية وهو الضرير . يقول عن هذه المجموعة:
ونضا فجره على نسره الوا * قع سيفا" فهم بالطيران
ومن النجوم التى أشار المعرى إليها فى لزومياته وسائر شعره : الشعرى اليمانية والشعرى الشامية , فأما الأولى فقد عبدتها العرب القدماء , وقد فند القرءان الكريم هذه الأباطيل والوثنيات فقال تعالى مخاطبا" العرب فى سورة النجم ( وإنه هو رب الشعرى ) . والشعري اليمانية نجم يبعد عنا بحوالي ثمانى سنوات ضوئية وهو من ألمع النجوم ويستأثر بليلنا طوال ليالي الشتاء ويوجد قريبا" من مجموعة الجبار" Orion" أو الجوزاء كما أسمتها العرب . وحول هذين النجمين للعرب أسطورة جميلة فحواها أن الشعري اليمانية هربت مع حبيبها نجم سهيل وعبرت المجرة أى" درب التبان" ولهذا تسمى أيضا بالشعرى العَبُور, وظلت أختها الشعرى الشامية تبكى على فراقها دون أن تتمكن من عبور نهر المجرة ؛ ولهذا تسمى أيضا" بالغميصاء أى فى عينيها تقرح من شدة البكاء , يقول المعرى مخاطبا" أحد أخواله المكثرين للشعر :
إذا الشعرى اليمانية استنارت * فجدد للشامية الودادا

شاعر الفرقدين

وفى قصيدة المعرى المشهورة " ألا فى سبيل المجد " وهى التى نظمها فى عهد الشباب وافتخر فيها بمركزه الأدبي وأخلاقه العالية يذكر نجما" هو " السها " وهو نجم خفي فى كوكبة الدب الأكبر فى الذيل , كانت العرب تمتحن به قوة البصر عندهم وقالت فى المثل " أريها السها وتريني القمر" وهو مثل يضرب للشخص تريه الأمر الخفي فيضرب صفحا عنه ويتحدث عن الواضح الجلي . يقول المعرى مشيرا" إلى هذا النجم :
وقالت السها للشمس أنت خفية
وقال الدجى يا صبح لونك حائل
وهو يشير من خلال ذكر هذا النجم إلى فساد القيم وانقلاب الأوضاع , إلى درجة أن الحقير الصغير يطاول الشريف الكبير.

وكما ذكر المعرى الكواكب وأولع بذكر المريخ وزحل (كيوان) , وذكر النجوم البعيدة وفى لزومياته يتردد ذكر الفراقد أو الفرقدين كما فى رثائه لأبى حمزة الفقيه , والفرقدان نجمان نيران فى كوكبة الدب الأصغر أشد إضاءة من النجم القطبي الذى يشير إلى القطب الشمالي , ومن أسمائهما "حارسا القطب" ؛ لأنهما يدلان على النجم القطبي لمن لا يعرفه , يقول شاعرنا مشيرا" إليهما :
وكم رأت الفراقد والثريا * قبائل ثم أضحت فى ثراها

وفى مرثيته لأبى حمزة الفقيه يشير كذلك إليهما :
كم أقاما على زوال نهار * وأنارا لمدلج فى سواد

ولم يغفل المعرى الإشارة إلى السماكين وهما نجمان عملاقان أحدهما هو " السماك الرامح " فى كوكبة "العواء" أو الراعي والآخر هو "السماك الأعزل" فى كوكبة "العذراء البروجية " . والسماك الرامح ألمع من السماك الأعزل وقد تردد ذكرهما كثيرا" فى شعر العرب . أما شاعرنا فقد رأى منزلته الأدبية سامية بين السماكين :
ولى منطق لم يرض لي كنه منزلي
على أنني بين السماكين نازل

وفى قصيدة نظمها الشاعر فى عهد الشباب وقد آلمه حسد البعض ومحاولتهم النيل من الشاعر يصر حكيم المعرة على أن منزلته فى الجوزاء , وفى هذه الكوكبة التى ذكرها الشاعر خلط كبير فالعرب قد تطلقها على مجموعة الجبار Orion بدليل أن أحد نجومها وهو من النجوم المصنفة كألمع النجوم تسميه العرب "إبط الجوزاء" وبهذا الاسم عرفه الفلكيون الغربيون Be´telgeuse .

على أن الجوزاء الحقيقية كوكبة بروجية بين الثور والسرطان تنزلها الشمس بين 22 يونيو و21 يوليو وصارت تقع فى السمت فى العروض الشمالية بدل كوكبة السرطان بسبب مبادرة الاعتدالين وترنح محور دوران الأرض , ولا نعلم هل كان المعرى يقصد بالجوزاء برج الجوزاء هذا كما شرحناه , أم جرى على إلف العرب فى اطلاقهم هذا الاسم على الجبار ؟ المهم أنه يقول :
أفوق البدر يوضع لي مهاد * أم الجوزاء تحت يدي وساد؟

أما الشمس نجمنا الذى يبدد سواد الفضاء ووحشة الكون فقد شغل هذا النجم عقل المعرى الجبار وتساءل عن زمن مولد الشمس وأدرك أنه قديم :
ومولد هذه الشمس أعياك حده * وخبر لب أنه متقادم

واستأثر الزمن بفكر الشاعر الفيلسوف كما استأثر بعقول فلاسفة الإغريق وبعقل نيوتن وأنشتين . وإن كانت نظرية النسبية قد فصلت فى نسبية الفضاء والزمن فالمعرى يرى أن تيار الزمن ينساب فى الكون ويملؤه ولا توجد نقطة فى الكون بلا زمن .
هذه لمحة وجيزة عن ثقافة المعرى الفلكية , فدارس شعره يقف على كثير من الإحالات فى قصائده , وهى كثيرة تستغرق مؤلفا" مفصلا" , ولا يزعم كاتب هذا المقال أن الشاعر كان فلكيا" , وإن كان عنوان المقال يوحي بشيء من ذلك فالشاعر كان عقلا" فذا" استوعب ثقافة عصره واطلع على شىء من الفكر والثقافة الإغريقية وربما الهندية والفارسية , ولهذا جاء شعر ممثلا" لسعة اطلاعه وحيرته الفلسفية , وطهارة نفسه ونقاوة ضميره من رذائل الكذب والنفاق والأنانية وهو القائل :

ولو أنى حببت الخلد فردا"
لما أحببت بالخلد انفرادا"
فلا هطلت على ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلادا

حقا" إن المعرى مفخرة من مفاخر الثقافة العربية وشاعر عظيم من أساطين الشعر وفرسانه الكبار .


(( نشر هذا المقال فى مجلة العربي العدد 548 يوليو 2004 ))

غير مبريء الذمه نقل الموضوع أو مضمونه بدون ذكر المصدر: منتديات الشامل لعلوم الفلك والتنجيم - من قسم: مقالات عامة في علم الفلك


...
....
صورة رمزية إفتراضية للعضو بلقيس
بلقيس
عضو
°°°
افتراضي
مقاله رائعه ........تظهر عظمة هذا الشاعر الفيلسوف
تسلم عليها


مواقع النشر (المفضلة)
أبو العلاء المعرى ... فلكيا" !

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
الانتقال السريع
المواضيع المتشابهه
الموضوع
"""اللغة السريانية""""
ابنتي سقطت في الظلام
دروس لتصبح مستشارا فلكيا
تحديد الصفه الورائيه فلكيا
"الطاير" "غسان" "مناضل" وكل ال

الساعة الآن 03:50 AM.