المشاركات الجديدة
مواضيع مختلفة : أي موضوع لم يعنون سابقا

إحتجاج الامام الصادق(عليه السلام)

افتراضي إحتجاج الامام الصادق(عليه السلام)
إحتجاج الامام الصادق(عليه السلام) مَعَ الزنديق الذي سأله
عن معرفة الله وصفاته ومسائل دينية (حكمية) اخرى
جاءَ في الاحتجاج :
ومن سؤال الزنديق الذي سأل أبا عبدالله(عليه السلام) عن مسائل كثيرة أن قال : كيف يعبد الله الخلق ولم يروه ؟ قال : رأته القلوب بنور الايمان ، وأثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان ، وأبصرته الابصار بما رأته من حسن التركيب وإحكام التأليف ، ثم الرسل وآياتها والكتب ومحكماتها ، واقتصرت العلماء على ما رأت من عظمته دون رؤيته .
قال : أليس هو قادر أن يظهر لهم حتّى يروه فيعرفوه فيعبد على يقين ؟ قال : ليس للمحال جواب .
قال : فمن أين أثبت أنبياء ورسلاً ؟
قال(عليه السلام) : إنّا لما أثبتنا أنَّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيماً ، لم يجز أن يشاهده خلقه ، ولا أن يلامسوه ، ولا أن يباشرهم ويباشروه ويحاجهم ويحاجوه ، ثبت أن له سفراء في خلقه وعباده ، يدلونهم على مصالحهم ومنافعهم، وما به بقاؤهم ، وفي تركه فناؤهم ، فثبت الامرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه ، وثبت عند ذلك أن له معبرِّين وهم الانبياء وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدبين بالحكمة ، مبعوثين عنه ، مشاركين للنّاس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب ، مؤيّدين من عند الحكيم العليم ، بالحكمة والدلائل والبراهين والشّواهد : من إحياء الموتى، وإبراء الاكمة والابرص ، فلا تخلو الارض من حجّة يكون معه علم يدل على صدق مقال الرسول ووجوب عدالته .
ثم قال(عليه السلام) ـ بعد ذلك ـ : نحن نزعم انَّ الارض لا تخلو من حجّة ، ولا تكون الحجّة إلاّ من عقب الانبياء ، وما بعث الله نبيّاً قطّ من غير نسل الانبياء ، وذلك انّ الله شرع لبني آدم طريقاً منيراً ، وأخرج من آدم نسلاً طاهراً طيباً ، أخرج منه الانبياء والرسل ، هم صفوة الله ، وخلص الجوهر ، طهروا في الاصلاب ، وحفظوا في الارحام ، لم يصبهم سفاح الجاهلية ، ولا شاب أنسابهم ، لانَّ الله عزّوجلّ جعلهم في موضع لا يكون أعلى درجة وشرفاً منه ، فمن كان خازن علم الله ، وأمين غيبه ، ومستودع سرّه ، وحجّته على خلقه ، وترجمانه ولسانه ، لا يكون إلاّ بهذه الصّفة ، فالحجّة لا تكون إلاّ من نسلهم ، يقوم مقام النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الخلق بالعلم الذي عنده وورثه عن الرسول ، إن جحده الناس سكت ، وكان بقاء ما عليه الناس قليلاً مما في أيديهم من علم الرسول على اختلاف منهم فيه ، قد أقاموا بينهم الرأي والقياس ، وإنّهم إن أقرّوا به وأطاعوه وأخذوا عنه ، ظهر العدل ، وذهب الاختلاف والتشاجر ، واستوى الامر ، وأبان الدين ، وغلب على الشك اليقين ، ولا يكاد أن يقر الناس به ولا يطيعوا له ، أو يحفظوا له بعد فقد الرسول ، وما مضى رسول ولا نبي قط إلاّ وقد تختلف أُمته من بعده ، وإنَّما كان علّة اختلافهم خلافهم على الحجة وتركهم إيّاه .
قال : فما يصنع بالحجة إذا كان بهذه الصفة ؟
قال(عليه السلام) : قد يقتدى به ويخرج عنه الشيء بعد الشيء مكانه منفعة الخلق وصلاحهم ، فان أحدثوا في دين الله شيئاً أعلمهم ، وإن زادوا فيه أخبرهم ، وإن نقصوا منه شيئاً أفادهم .
ثم قال الزنديق : من أي شيء خلق الله الاشياء ؟ قال(عليه السلام) : من لا شيء .
فقال : كيف يجيء من لا شيء شيء ؟
قال(عليه السلام) : إنَّ الاشياء لا تخلو أن تكون خلقت من شيء أو من غير شيء ، فان كانت خُلقت من شيء كان معه ، فإنّ ذلك الشيء قديم ، والقديم لا يكون حديثاً ، ولا يفني ولا يتغير ، ولا يخلو ذلك الشيء من أن يكون جوهراً واحداً ولوناً واحداً ، فمن أين جاءَت هذه الالوان المختلفة ، والجواهر الكثيرة الموجودة في هذا العالم من ضروب شتّى ؟ ومن أين جاء الموت إن كان الشّيء الذي اُنشئت منه الاشياء حيّاً ؟ ومن أين جاءت الحياة إن كان ذلك الشيء ميتاً ؟ ولا يجوز أن يكون من حيّ وميت قديمين لم يزالا ، لانَّ الحي لا يجيء منه ميت وهو لم يزل حيّاً ، ولا يجوز أيضاً أن يكون الميت قديماً لم يزل بما هو به من الموت ، لانَّ الميت لا قدرة له ولا بقاء .
قال : فمن أين قالوا إنَّ الاشياء أزلية ؟
قال(عليه السلام) : هذه مقالة قوم جحدوا مدبِّر الاشياء ، فكذَّبوا الرسل ومقالتهم ، والانبياء وما أنبأوا عنه ، وسموا كتبهم أساطير ، ووضعوا لانفسهم ديناً بآرائهم واستحسانهم ، إنَّ الاشياء تدل على حدوثها ، من دوران الفلك بما فيه ، وهي تسعة أفلاك وتحرك الارض ومن عليها ، وانقلاب الازمنة ، واختلاف الوقت ، والحوادث التي تحدث في العالم من زيادة ونقصان ، وموت وبلاء ، واضطرار النفس إلى الاقرار بأنَّ لها صانعاً ومدبّراً ، أما ترى الحلو يصير حامضاً ، والعذب مرّاً ، والجديد بالياً ، وكلٌّ إلى تغير وفناء؟!
قال : فلم يزل صانع العالم عالماً بالاحداث التي أحدثها قبل أن يحدثها ؟
قال(عليه السلام) : فلم يزل يعلم فخلق ما علم .
قال : أمختلف هو أم مؤتلف ؟
قال(عليه السلام) : لا يليق به الاختلاف ولا الايتلاف ، إنّما يختلف المتجزي ، ويأتلف المتبعض ، فلا يُقال له : مؤتلف ولا مختلف .
قال : فكيف هو الله الواحد ؟
قال(عليه السلام) : واحد في ذاته ، فلا واحد كواحد ، لانَّ ما سواه من الواحد متجزي ، وهو تبارك وتعالى واحد لا يتجزى ، ولا يقع عليه العدّ .
قال : فلاي علّة خلق الخلق وهو غير محتاج إليهم ، ولا مضطر إلى خلقهم ، ولا يليق به التعبث بنا ؟.
قال(عليه السلام) : خلقهم لاظهار حكمته ، وإنفاذ علمه ، وإمضاء تدبيره .
قال : وكيف لا يقتصر على هذه الدار فيجعلها دار ثوابه ومحتبس عقابه ؟
قال(عليه السلام) : إنَّ هذه الدار دار ابتلاء ، ومتجر الثواب ، ومكتسب الرحمة ، ملئت آفات ، وطبقت شهوات ، ليختبر فيها عبيده بالطاعة ، فلا يكون دار عمل دار جزاء .
قال : أفمن حكمته أن جعل لنفسه عدواً ، وقد كان ولا عدو له ، فخلق كما زعمت «إبليس » ، فسلّطه على عبيده يدعوهم إلى خلاف طاعته ، ويأمرهم بمعصيته ، وجعل له من القوة كما زعمت ، يصل بلطف الحيلة إلى قلوبهم ، فيوسوس إليهم فيشككهم في ربهم، ويلبس عليهم دينهم ، فيزيلهم عن معرفته ، حتى أنكر قوم لمّا وسوس إليهم ربوبيته وعبدوا سواه ، فَلم سلط عدوه على عبيده ، وجعل له السّبيل إلى إغوائهم ؟
قال(عليه السلام) : إنَّ هذا العدو الذي ذكرت لا تضره عداوته ، ولا تنفعه ولايته ، وعداوته لا تنقص من ملكه شيئاً ، وولايته لا تزيد فيه شيئاً ، وإنّما يتّقى العدو إذا كان في قوة يضر وينفع ، إن همّ بملك أخذه ، أو بسلطان قهره ، فأمّا إبليس فعبد ، خلقه ليعبده ويوحّده ، وقد علم حين خلقه ما هو وإلى ما يصير إليه ، فلم يزل يعبده مع ملائكته حتّى امتحنه بسجود آدم ، فامتنع من ذلك حسداً ، وشقاوة غلبت عليه فلعنه عند ذلك ، وأخرجه عن صفوف الملائكة ، وأنزله إلى الارض ملعوناً مدحوراً فصار عدو آدم وولده بذلك السبب ، وماله من السلطنة على ولده إلاّ الوسوسة ، والدعاء إلى غير السبيل ، وقد أقر مع معصيته لربّه بربوبيته .
قال : أفيصلح السّجود لغير الله ؟
قال(عليه السلام) : لا .
قال : فكيف أمر الله الملائكة بالسّجود لادم ؟
فقال : إنَّ من سجد بأمر الله فقد سجد لله ، فكان سجوده لله إذا كان عن أمر الله تعالى .
قال : فمن أين أصل الكهانة ، ومن أين يخبر النّاس بما يحدث ؟
قال(عليه السلام) : إنَّ الكهانة كانت في الجاهلية ، في كل حين فترة من الرسل ، كان الكاهن بمنزلة الحاكم يحتكمون إليه فيما يشتبه عليهم من الامور بينهم ، فيخبرهم عن أشياء تحدث، وذلك من وجوه شتّى : فراسة العين ، وذكاء القلب ، ووسوسة النفس ، وفتنة الرّوح ، مع قذف في قلبه ، لانَّ ما يحدث في الارض من الحوادث الظاهرة : فذلك يعلم الشيطان ويؤديه إلى الكاهن ، ويخبره بما يحدث في المنازل والاطراف .
وأمّا أخبار السماء ، فإنَّ الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السمع إذ ذاك ، وهي لا تحجب ، ولا ترجم بالنجوم ، وإنّما منعت من استراق السّمع ، لئلا يقع في الارض سبب يشاكل الوحي من خبر السماء ، ويلبس على أهل الارض ما جاءهم عن الله ، لاثبات الحجّة ، ونفي الشبهة ، وكان الشيطان يسترق الكلمة الواحدة من خبر السماء بما يحدث من الله في خلقه ، فيختطفها ، ثم يهبط بها إلى الارض ، فيقذفها إلى الكاهن ، فإذا قد زاد كلمات من عنده ، فيخلط الحقّ بالباطل ، فما أصاب الكاهن من خبر ممّا كان يخبر به ، فهو ما أداه إليه شيطانه ممّا سمعه ، وما أخطأ فيه ، فهو من باطل ما زاد فيه ، فمذ منعت الشياطين عن استراق السمع انقطعت الكهانة ، واليوم إنمّا تؤدي الشياطين إلى كهانها أخباراً للنّاس ممّا يتحدّثون به ، وما يحدثونه ، والشّياطين تؤدي إلى الشياطين ما يحدث في البعد من الحوادث من سرق ، ومن قاتل قتل ، ومن غائب غاب ، وهم بمنزلة أمثال الناس أيضاً ، صدوق وكذوب .
قال : فكيف صعدت الشّياطين إلى السّماء ، وهم أمثال النّاس في الخلقة والكثافة وقد كانوا يبنون لسليمان بن داود(عليهما السلام) من البناء ما يعجز عنه ولد آدم ؟
قال(عليه السلام) : غلظوا لسليمان كما سخروا وهم خلق رقيق ، غذاؤهم النسيم ، والدليل على ذلك صعودهم إلى السّماء لاستراق السمع ، ولا يقدر الجسم الكثيف على الارتقاء إليها إلاّ بسلّم أو بسبب .
قال : فأخبرني عن السحر ما أصله ، وكيف يقدر السّاحر على ما يُوصف من عجائبه ، وما يفعل ؟
قال(عليه السلام) : إنَّ السّحر على وجوه شتّى : وجه منها : بمنزلة الطبّ ، كما أنّ الاطباء وضعوا لكل داء دواء ، فكذلك علم السّحر ، احتالوا لكل صحة آفة ، ولكل عافية عاهة، ولكل معنى حيلة .
ونوع منه آخر : خطفة وسرعة ومخاريق وخفّة .
ونوع منه : ما يأخذ أولياء الشّياطين عنهم .
قال : فمن أين علم الشّياطين السّحر ؟
قال(عليه السلام) : من حيث عرف الاطباء الطبّ ، بعضه تجربة وبعضه علاج .
قال : فما تقول في الملكين : هاروت وماروت ؟ وما يقول النّاس بأنّهما يعلّمان النّاس السحر ؟
قال(عليه السلام) : إنّهما موضع ابتلاء وموقف فتنة ، تسبيحهما : اليوم لو فعل الانسان كذا وكذا لكان كذا ، ولو يعالج بكذا وكذا لصار كذا ، أصناف السّحر ، فيتعلمون منهما ما يخرج عنهما ، فيقولان لهم : إنَّما نحن فتنة فلا تأخذوا عنّا ما يضرّكم ولا ينفعكم .
قال : أفيقدر السّاحر أن يجعل الانسان بسحره في صورة الكلب أو الحمار أو غير ذلك ؟
قال(عليه السلام) : هو أعجز من ذلك ، وأضعف من أن يغيِّر خلق الله ، إنَّ من أبطل ما ركَّبه الله وصوره وغيَّره فهو شريك الله في خلقه ، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً ، لو قدر السّاحر على ما وصفت لدفع عن نفسه الهرم والافة والامراض ، ولنفي البياض عن رأسه والفقر عن ساحته ، وإنَّ من أكبر السحر النميمة ، يفرّق بها بين المتحابين ، ويجلب العداوة على المتصافيين ، ويسفك بها الدماء ، ويهدم بها الدور ويكشف بها الستور ، والّنمام أشرّ من وطئ الارض بقدم ، فأقرب أقاويل السحر من الصّواب أنّه بمنزلة الطب ، إنَّ السّاحر عالج الرجل فامتنع من مجامعة النِّساء فجاء الطبيب فعالجه بغير ذلك العلاج ، فأبرئ .
قال : فما بال ولد آدم فيهم شريف ووضيع ؟ قال : الشريف المطيع ، والوضيع العاصي .
قال أليس فيهم فاضل ومفضول ؟
قال(عليه السلام) : إنّما يتفاضلون بالتقوى .
قال : فتقول إنَّ ولد آدم كلّهم سواء في الاصل لا يتفاضلون إلاّ بالتقوى ؟
قال(عليه السلام) : نعم . إنِّي وجدت أصل الخلق التُّراب ، والاب آدم والام حواء ، خلقهم إله واحد ، وهم عبيده ، إنَّ الله عزّوجلّ اختار من ولد آدم أُناساً طهر ميلادهم ، وطيِّب أبدانهم ، وحفظهم في أصلاب الرجال وأرحام النِّساء ، أخرج منهم الانبياء والرسل ، فهم أزكى فروع آدم ، ما فعل ذلك لامر استحقّوه من الله عزّوجلّ ولكن علم الله منهم ـ حين ذرأهم ـ أنَّهم يطيعونه ويعبدونه ولا يشركون به شيئاً فهؤلاء بالطاعة نالوا من الله الكرامة والمنزلة الرفيعة عنده ، وهؤلاء الذين لهم الشرف والفضل والحسب ، وساير النّاس سواء ، ألا من اتّقى الله أكرمه ، ومن أطاعه أحبه ، ومن أحبه لم يعذّبه بالنار!!
قال : فأخبرني عن الله عزّوجلّ كيف لم يخلق الخلق كلّهم مطيعين موحّدين وكان على ذلك قادراً ؟
قال(عليه السلام) : لو خلقهم مطيعين لم يكن لهم ثواب ، لانَّ الطّاعة إذا ما كانت فعلهم لم تكن جنّة ولا نار ، ولكن خلق خلقه فأمرهم بطاعته ، ونهاهم عن معصيته ، واحتج عليهم برسله ، وقطع عذرهم بكتبه ، ليكونوا هم الذين يطيعون ويعصون ، ويستوجبون بطاعتهم له الثواب ، وبمعصيتهم إيّاه العقاب .
قال : فالعمل الصّالح من العبد هو فعله ، والعمل الشرّ من العبد هو فعله ؟
قال(عليه السلام) : العمل الصالح من العبد بفعله والله به أمره ، والعمل الشرّ من العبد بفعله والله عنه نهاه .
قال : أليس فعله بالالة التي ركَّبها فيه ؟
قال(عليه السلام) : نعم . ولكن بالالة التي عمل بها الخير ، قدر على الشرّ الذي نهاه عنه .
قال : فإلى العبد من الامر شيء ؟
قال : ما نهاه الله عن شيء إلاّ وقد علم أنه يطيق تركه ، ولا أمره بشيء إلاّ وقد علم أنه يستطيع فعله ، لانّه ليس من صفته الجور والعبث والظلم وتكليف العباد ما لا يطيقون .
قال فمن خلقه الله كافراً أيستطيع الايمان وله عليه بتركه الايمان حجّة ؟
قال(عليه السلام) : إنَّ الله خلق خلقه جميعاً مسلمين ، أمرهم ونهاهم ، والكفر اسم يلحق الفاعل حين يفعله العبد ، ولم يخلق الله العبد حين خلقه كافراً ، إنّه إنّما كفر من بعد أن بلغ وقتاً لزمته الحجّة من الله ، فعرض عليه الحقّ فجحده ، فبإنكاره الحقّ صار كافراً .
قال : أفيجوز أن يقدر على العبد الشرّ ، ويأمره بالخير وهو لا يستطيع الخير أن يعمله ، ويعذّبه عليه ؟
قال(عليه السلام) : إنـَّه لا يليق بعدل الله ورأفته أن يقدر على العبد الشرّ ويريده منه ، ثمّ يأمره بما يعلم أنـّه لا يستطيع أخذه ، والانزاع عمّا لا يقدر على تركه ، ثمّ يعذبه على تركه أمره الذي علم أنـّه لا يستطيع أخذه .
قال : بماذا استحق الذين أغناهم وأوسع عليهم من رزقه الغناء والسعة ، وبماذا استحق الفقير التقتير والضيق ؟.
قال(عليه السلام) : اختبر الاغنياء بما أعطاهم لينظر كيف شكرهم ، والفقراء بما منعهم لينظر كيف صبرهم .
ووجه آخر : انّه عجل لقوم في حياتهم ، ولقوم آخر ليوم حاجتهم إليه .
ووجه آخر : فانّه علم احتمال كل قوم فأعطاهم على قدر احتمالهم ، ولو كان الخلق كلّهم أغنياء لخربت الدنيا وفسد التدبير ، وصار أهلها إلى الفناء ، ولكن جعل بعضهم لبعض عوناً ، وجعل أسباب أرزاقهم في ضروب الاعمال وأنواع الصناعات ، وذلك أدوم في البقاء ، وأصح في التدبير ، ثم اختبر الاغنياء بالاستعطاف على الفقراء ، كل ذلك لطف ورحمة من الحكيم الذي لا يُعاب تدبيره .
p; قال : فبما استحق الطفل الصغير ما يصيبه من الاوجاع والامراض بلا ذنب عمله ، ولا جرم سلف منه ؟
قال : إنَّ المرض على وجه شتّى : مرض بلوى ، ومرض عقوبة ، ومرض جعل علّة للفناء ، وأنت تزعم أنَّ ذلك من أغذية رديّة ، وأشربة وبية( 2 ) ، أو علّة كانت بأُمه ، وتزعم أنَّ مَن أحسن السياسة لبدنه ، وأجمل النظر في أحوال نفسه ، وعرف الضّار ممّا يأكل من النافع لم يمرض ، وتميل في قولك إلى من يزعم أنّه لا يكون المرض والموت إلاّ من المطعم والمشرب ! قد مات ارسطا طاليس معلّم الاطباء ، وافلاطون رئيس الحكماء ، وجالينوس شاخ ودق بصره ، وما دفع الموت حين نزل بساحته ، ولم يألوا حفظ أنفسهم ، والنظر لما يوافقها ، كم من مريض قد زاده المعالج سقماً ، وكم من طبيب عالم ، وبصير بالادواء والادوية ماهر ، مات ، وعاش الجاهل بالطب بعده زماناً ، فلا ذاك نفعه علمه بطبّه عند انقطاع مدّته وحضور أجله ، ولا هذا ضرّه الجهل بالطبّ مع بقاء المدّة وتأخر الاجل .
ثم قال(عليه السلام) : إنَّ أكثر الاطباء قالوا : إِنَّ علم الطب لم تعرفه الانبياء ، فما نصنع على قياس قولهم بعلم زعموا ليس تعرفه الانبياء الذين كانوا حجج الله على خلقه ، وأُمناءه في أرضه ، وخزّان علمه ، وورثة حكمته ، والادلاء عليه ، والدّعاة إلى طاعته ؟
ثم إنِّي وجدت أكثرهم يتنكب( 3 ) في مذهبه سبل الانبياء ، ويكذّب الكتب المنزلة عليهم من الله تبارك وتعالى ، فهذا الذي أزهدني في طلبه وحامليه .
قال : فكيف تزهد في قوم وأنت مؤدبهم وكبيرهم ؟
قال(عليه السلام) : إنَّي لما رأيت الرجل الماهر في طبّه إذا سألته لم يقف على حدود نفسه، وتأليف بدنه ، وتركيب أعضائه ، ومجرى الاغذية في جوارحه ، ومخرج نفسه ، وحركة لسانه ، ومستقر كلامه ، ونور بصره ، وانتشار ذكره ، واختلاف شهواته ، وانسكاب عبراته ، ومجمع سمعه ، وموضع عقله ، ومسكن روحه ، ومخرج عطسته ، وهيج غمومه، وأسباب سروره ، وعلّة ما حدث فيه من بكم وصمم وغير ذلك ، لم يكن عندهم في ذلك أكثر من أقاويل استحسنوها ، وعلل فيما بينهم جوّزوها .
قال : فأخبرني عن الله عزّوجلّ أله شريك في ملكه ، أو مضادّ له في تدبيره ؟
قال(عليه السلام) : لا .
قال : فما هذا الفساد الموجود في هذا العالم : من سباع ضارية ، وهوام مخوّفة ، وخلق كثير مشوهة ، ودود وبعوض وحيّات وعقارب ، وزعمت أنّه لا يخلق شيئاً إلاّ لعلّة ، لانّه لا يعبث ؟!
قال : ألست تزعم أنَّ العقارب تنفع من وجع المثانة والحصاة ، ولمن يبول في الفراش ، وأنَّ أفضل الترياق ما عولج من لحوم الافاعي ، فانَّ لحومها إذا أكلها المجذوم بِشبٍّ( 4 ) نفعه ، وتزعم أنَّ الدود الاحمر الذي يُصاب تحت الارض نافع للاكلة ؟ قال(عليه السلام): نعم.
ثمَّ قال(عليه السلام) : فأمّا البعوض والبق فبعض سببه أنّه جُعل أرزاق بعض الطير ، وأهان بها جباراً تمرد على الله وتجبر ، وأنكر ربوبيته ، فسلّط الله عليه أضعف خلقه ليريه قدرته وعظمته ، وهي البعوضة فدخلت في منخره حتّى وصلت إلى دماغه فقتلته . واعلم أنا لو وقفنا على كل شيء خلقه الله تعالى لِمَ خلقه ؟ ولاي شيء أنشأه ؟ لكنّا قد ساويناه في علمه ، وعلمنا كلّما يعلم واستغنينا عنه ، وكنّا وهو في العلم سواء .
قال : فأخبرني هل يُعاب شيء من خلق الله وتدبيره ؟ قال(عليه السلام) : لا .
قال : فإنَّ الله خلق خلقه غرلا( 5 ) ، أذلك منه حكمة أم عبث ؟
قال(عليه السلام) : بل حكمة منه.
قال : غيرتم خلق الله ، وجعلتم فعلكم في قطع الغلفة أصوب ممّا خلق الله لها ، وعبتم الاغلف والله خلقه ، ومدحتم الختان وهو فعلكم . أم تقولون انَّ ذلك من الله كان خطأً غير حكمة ؟!
قال(عليه السلام) : ذلك من الله حكمة وصواب ، غير أنّه سنَّ ذلك وأوجبه على خلقه ، كما أنّ المولود إذا خرج من بطن أُمّه وجدنا سرّته متصلة بسرة أُمّه كذلك خلقها الحكيم فأمر العباد بقطعها ، وفي تركها فساد بيِّن للمولود والاُمّ ، وكذلك أظفار الانسان أمَرَ إذا طالت أن تقلم ، وكان قادراً يوم دبّر خلق الاِنسان أن يخلقها خلقة لا تطول ، وكذلك الشَّعر من الشّارب والرّأس يطول فيجز ، وكذلك الثيران خلقها الله فحولة واخصاؤها أوفق ، وليس في ذلك عيب في تقدير الله عزّوجلّ.
قال : ألست تقول : إنَّ الله تعالى قال : ( أُدعُونِي أَسْتَجِب لَكُم )( 6 ) ، وقد نرى المضطر يدعوه فلا يُجاب له ، والمظلوم يستنصره على عدوه فلا ينصره ؟
قال(عليه السلام) : ويحك ! ما يدعوه أحد إلاّ استجاب له ، أمّا الظّالم فدعاؤه مردود إلى أن يتوب إلى الله ، وأمّا المحقّ فانّه إذا دعاه استجاب له ، وصرف عنه البلاء من حيث لا يعلمه ، أو ادخر له ثواباً جزيلاً ليوم حاجته إليه ، وإن لم يكن الامر الذي سأل العبد خيراً له إن أعطاه أمسك عنه ، والمؤمن العارف بالله ربّما عزّ عليه أن يدعوه فيما لا يدري أصواب ذلك أم خطأ ، وقد يسأل العبد ربه إهلاك من لم تنقطع مدّته ، ويسأل المطر وقتاً ولعلّه أوان لا يصلح فيه المطر ، لانّه أعرف بتدبير ما خلق من خلقه ، وأشباه ذلك كثيرة فافهم هذا .
قال : فأخبرني أيُّها الحكيم ، ما بال السّماء لا ينزل منها إلى الارض أحد ، ولا يصعد من الارض إليها بشر ، ولا طريق إليها ، ولا مسلك ، فلو نظر العباد في كل دهر مرّة من يصعد إليها وينزل ، لكان ذلك أثبت في الربوبيّة ، وأنفى للشّك وأقوى لليقين ، وأجدر أن يعلم العباد أنَّ هناك مدبّراً إليه يصعد الصاعد ومن عنده يهبط الهابط ؟!
قال(عليه السلام) : إنَّ كل ما ترى في الارض من التدبير إنَّما هو ينزل من السّماء ، ومنها يظهر ، أما ترى الشمس منها تطلع ، وهي نور النّهار ، ومنها قوام الدنيا ولو حبست حار من عليها وهلك ، والقمر منها يطلع ، وهو نور اللّيل ، وبه يعلم عدد السنين والحساب ، والشهور والايام ، ولو حبس لحار من عليها وفسد التدبير ، وفي السّماء النجوم التي يهتدي بها في ظلمات البر والبحر ، ومن السّماء ينزل الغيث الذي فيه حياة كل شيء : من الزرع والنبات والانعام وكل الخلق لو حبس عنهم لما عاشوا ، والرِّيح لو حبست أيّاماً لفسدت الاشياء جميعاً وتغيّرت ، ثمّ الغيم والرعد والبرق والصواعق ، كل ذلك إنَّما هو دليل على أنَّ هناك مدبّر يدبّر كل شيء ومن عنده ينزل ، وقد كلّم الله موسى وناجاه ، ورفع الله عيسى بن مريم والملائكة تنزل من عنده ، غير أنّك لا تؤمن بما لم تره بعينك ، وفيما تراه بعينك كفاية ان تفهم وتعقل .
قال : فلو أنَّ الله تعالى ردّ إِلينا من الاموات في كل مائة عام واحداً لنسأله عمّن مضى منّا ، إِلى ما صاروا وكيف حالهم ، وماذا لقوا بعد الموت ، وأي شيء صنع بهم ، ليعمل النّاس على اليقين ، واضمحل الشّك ، وذهب الغل عن القلوب .
قال(عليه السلام) : إنَّ هذه مقالة من أنكر الرسل وكذّبهم ، ولم يصدق بما جاءوا به من عند الله ، إِذ أخبروا وقالوا : إِنَّ الله أخبر في كتابه عزّوجلّ على لسان أنبيائه ، حال من مات منّا، أفيكون أحد أصدق من الله قولاً ومن رسله .
وقد رجع إِلى الدنيا ممّن مات خلق كثير ، منهم « أصحاب الكهف » أماتهم الله ثلاثمائة عام وتسعة ، ثم بعثهم في زمان قوم أنكروا البعث ، ليقطع حجّتهم ، وليريهم قدرته ، وليعلموا أنَّ البعث حقّ .
وأمات الله « أرمياء » النّبي(عليه السلام) الذي نظر إِلى خراب بيت المقدس وما حوله حين غزاهم بخت نصَّر( 7 ) ، وقال :( أنّى يُـحيِ هـذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأماتَهُ اللهُ مِائَةَ عام)( 8 ) ثمّ أحياه ونظر إلى أعضائه كيف تلتئم ، وكيف تلبس اللّحم ، وإلى مفاصله وعـروقه كيف توصل ، فلمّا استوى قاعداً قال :( أعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ)( 9 ) .
وأحيا الله قوماً خرجوا عن أوطانهم هاربين من الطاعون لا يحصى عددهم ، فأماتهم الله دهراً طويلاً حتّى بليت عظامهم ، وتقطعت أوصالهم ، وصاروا تراباً ، فبعث الله في وقت أحبّ أن يري خلقه قدرته نبياً يُقال له : « حزقيل »(10) فدعاهم فاجتمعت أبدانهم ، ورجعت فيها أرواحهم ، وقاموا كهيئة يوم ماتوا ، لا يفقدون من أعدادهم رجلاً ، فعاشوا بعد ذلك دهراً طويلاً(11) .
وإنَّ الله أمات قوماً خرجوا مع موسى(عليه السلام) حين توجّه إلى الله عزّوجلّ فقالوا : (أرِنَا اللهَ جَهْرَةً )(12) فأماتهم الله ثمّ أحياهم .
قال : فأخبرني عمّن قال بتناسخ الارواح ، من أيّ شيء قالوا ذلك ، وبأيّ حجّة قاموا على مذاهبهم ؟
قال(عليه السلام) : إنَّ أصحاب التناسخ قد خلفوا وراءهم منهاج الدِّين ، وزيّنوا لانفسهم الضلالات ، وأمرجوا(13) أنفسهم في الشهوات وزعموا أنَّ السماء خاوية ما فيها شيء مما يوصف ، وأنَّ مدبر هذا العالم في صورة المخلوقين ، بحجّة من روى أنَّ الله عزّوجلّ خلق آدم على صورته ، وأنّه لا جنّة ولا نار ، ولا بعث ولا نشور ، والقيامة عندهم خروج الروح من قالبه وولوجه في قالب آخر ، إن كان محسناً في القالب الاول أُعيد في قالب أفضل منه حسناً في أعلى درجة من الدنيا ، وان كان مسيئاً أو غير عارف صار في بعض الدواب المتعبة في الدنيا ، أو هوام مشوهة الخلقة وليس عليهم صوم ولا صلاة ، ولا شيء من العبادة أكثر من معرفة من تجب عليهم معرفته وكل شيء من شهوات الدنيا مباح لهم: من فروج النِّساء وغير ذلك من الاخوات والبنات والخالات وذوات البعولة.
وكذلك الميتة ، والخمر ، والدم ، فاستقبح مقالتهم كل الفرق ، ولعنهم كل الاُمم ، فلمّا سئلوا الحجّة زاغوا وحادوا ، فكذّب مقالتهم التوارة ، ولعنهم الفرقان ، وزعموا مع ذلك أنَّ إلههم ينتقل من قالب إلى قالب ، وأنَّ الارواح الازلية هي التي كانت في آدم ، ثمّ هلمّ جراً تجري إلى يومنا هذا في واحد بعد آخر ، فإذا كان الخالق في صورة المخلوق فبما يستدل على أنَّ أحدهما خالق صاحبه ؟!
وقالوا : إِنَّ الملائكة من ولد آدم كل من صار في أعلى درجة من دينهم خرج من منزلة الامتحان والتصفية فهو ملك ، فطوراً تخالهم نصارى في اشياء ، وطوراً دهرية يقولون : إِنَّ الاشياء على غير الحقيقة ، فقد كان يجب عليهم أن لا يأكلوا شيئاً من اللحمان ، لانَّ الدوابّ كلّها عندهم من ولد آدم حولوا من صورهم ، فلا يجوز أكل لحوم القرابات .
قال : ومن زعم أنَّ الله لم يزل ومعه طينة مؤذية ، فلم يستطع التفصي منها إلاّ بامتزاجه بها ودخوله فيها ، فمن تلك الطينة خلق الاشياء !!
قال(عليه السلام) : سبحان الله وتعالى !! ما أعجز إِلهاً يوصف بالقدرة ، لا يستطيع التفصي من الطينة ! إن كانت الطينة حيّة أزلية ، فكانا إلهين قديمين فامتزجا ودبّرا العالم من أنفسهما ، فان كان ذلك كذلك ، فمن أين جاء الموت والفناء ؟ وإن كانت الطينة ميتة فلا بقاء للميت مع الازلي القديم ، والميت لا يجيء منه حي ، وهذه مقالة الديصانية(14) ، أشدّ الزنادقة قولاً وأمهنهم مثلاً ، نظروا في كتب قد صنّفتها أوائلهم ، وحبروها لهم بألفاظ مزخرفة من غير أصل ثابت ، ولا حجّة توجب إثبات ما ادّعوا ، كلّ ذلك خلافاً على الله وعلى رسله وتكذيباً بما جاءوا به عن الله تعالى .
فأمّا من زعم أنَّ الابدان ظلمة ، والارواح نور ، وأنَّ النُّور لا يعمل الشر والظلمة لا تعمل الخير ، فلا يجب عليهم أن يلوموا أحداً على معصية ، ولا ركوب حرمة ، ولا إتيان فاحشة ، وإنَّ ذلك على الظلمة غير مستنكر ، لانَّ ذلك فعلها ولا له أن يدعو ربّاً ، ولا يتضرع إليه ، لانَّ النور ربّ ، والرّب لا يتضرع إلى نفسه ولا يستعيذ بغيره ، ولا لاحد من أهل هذه المقالة أن يقول : « أحسنت » يا محسن أو « أسأت » ، لانَّ الاساءة من فعل الظلمة وذلك فعلها ، والاحسان من النور ، ولا يقول النور لنفسه أحسنت يا محسن ، وليس هناك ثالث ، فكانت الظلمة على قياس قولهم ، أحكم فعلاً وأتقن تدبيراً وأعزّ أركاناً من النور ، لانَّ الابدان محكمة ، فمن صور هذا الخلق صورة واحدة على نعوت مختلفة؟
وكل شيء يرى ظاهراً من الزهر والاشجار والثمار والطيور والدواب يجب أن يكون إلها ، ثمّ حبست النور في حبسها والدولة لها ، وأمّا ما ادعوا بأنَّ العاقبة سوف تكون للنور ، فدعوى ، وينبغي على قياس قولهم أن لا يكون للنور فعل ، لانه اسير ، وليس له سلطان ، فلا فعل له ولا تدبير ، وإن كان له مع الظلمة تدبير ، فما هو بأسير ، بل هو مطلق عزيز ، فان لم يكن كذلك وكان أسير الظلمة ، فانه يظهر في هذا العالم إحسان وخير مع فساد وشر ، فهذا يدل على أنَّ الظلمة تحسن الخير وتفعله ، كما تحسن الشّر وتفعله ، فإن قالوا محال ذلك ، فلا نور يثبت ولا ظلمة ، وبطلت دعواهم ، ورجع الامر إلى أنَّ الله واحد وما سواه باطل ، فهذه مقالة ماني الزنديق وأصحابه(15) .
وأمّا من قال : النّور والظلمة بينهما حكم ، فلابدّ من أن يكون أكبر الثلاثة الحكم ، لانّه لا يحتاج إلى الحاكم إلاَّ مغلوب أو جاهل أو مظلوم ، وهذه مقالة المانوية والحكاية عنهم تطول .
قال : فما قصة ماني ؟
قال(عليه السلام) : متفحص أخذ بعض المجوسية فشابها ببعض النصرانية ، فأخطأ الملتين، ولم يصب مذهباً واحداً منهما ، وزعم أنَّ العالم دبّر من إلهين ، نور وظلمة ، وأنّ النور في حصار من الظلمة على ما حكينا عنه ، فكذَّبته النصارى ، وقبلته المجوس .
قال : فأخبرني عن المجوس أبعث الله إليهم نبيّاً ؟ فإنّي أجد لهم كتباً محكمة ومواعظ بليغة ، وأمثالاً شافية ، يقرّون بالثواب والعقاب ، ولهم شرايع يعملون بها .
قال(عليه السلام) : ما من أُمّة إلاّ خلا فيها نذير ، وقد بعث إليهم نبي بكتاب من عند الله ، فأنكروه وجحدوا كتابه .
قال : ومن هو فان النّاس يزعمون أنـّه خالد بن سنان ؟
قال(عليه السلام) : إنَّ خالداً كان عربياً بدوياً ما كان نبياً ، وإنّما ذلك شيء يقوله النّاس .
قال : أفزردشت ؟
قال(عليه السلام) : إنَّ زردشت أتاهم بزمزمة ، وادّعى النبوّة ، فآمن منهم قوم وجحده قوم، فأخرجوه فأكلته السّباع في برية من الارض .
قال : فأخبرني عن المجوس كانوا أقرب إلى الصواب في دهرهم ، أم العرب ؟
قال(عليه السلام) : العرب في الجاهلية ، كانت أقرب إلى الدين الحنيفي من المجوس ، وذلك أنَّ المجوس كفرت بكل الانبياء وجحدت كتبهم ، وأنكرت براهينهم ولم تأخذ بشيء من سننهم وآثارهم ، وإنّ كيخسرو ملك المجوس في الدهر الاول قتل ثلاثمائة نبي ; وكانت المجوس لا تغتسل من الجنابة ، والعرب كانت تغتسل ، والاغتسال من خالص شرايع الحنيفية ; وكانت المجوس لا تختتن ، والعرب تختتن ، وهو من سنن الانبياء ، وأنّ أوّل من فعل ذلك إبراهيم خليل الله ; وكانت المجوس لا تغسل موتاها في الصّحارى والنواويس، والعرب تواريها في قبورها وتلحدها ، وكذلك السّنة على الرسل ، إنَّ أول من حفر له قبر آدم أبو البشر ، وألحد له لحد ; وكانت المجوس تأتي الامهات وتنكح البنات والاخوات ، وحرمت ذلك العرب ; وأنكرت المجوس بيت الله وسمّته بيت الشّيطان ، والعرب كانت تحجّه وتعظمه ، وتقول : بيت ربنا ، وتقرّ بالتوراة والانجيل ، وتسأل أهل الكتاب ، وتأخذ عنهم ، وكانت العرب في كل الاسباب أقرب إلى الدين الحنيفي من المجوس .
قال : فانّهم احتجوا باتيان الاخوات أنّها سنة من آدم .
قال(عليه السلام) : فما حجّتهم في إِتيان البنات والامّات ، وقد حرّم ذلك آدم ، وكذلك نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وسائر الانبياء ، وكل ما جاء عن الله عزّوجل .
قال : فلم حرّم الله الخمر ولا لذّة أفضل منها ؟
قال(عليه السلام) : حرّمها لانّها أُمّ الخبائث ورأس كلِّ شر ، يأتي على شاربها ساعة يسلب لبه ، ولا يعرف ربه ، ولا يترك معصية إلاّ ركبها ولا حرمة إلاّ انتهكها ولا رحماً ماسة(16)إلاَّ قطعها ، ولا فاحشة إلاّ أتاها ، والسكران زمامه بيد الشّيطان ، إن أمره أن يسجد للاوثان سجد ، وينقاد ما قاده .
قال : فلم حرّم الدم المسفوح ؟
قال(عليه السلام) : لانّه يورث القساوة ، ويسلب الفؤاد رحمته ، ويعفن البدن ، ويغيِّر اللّون، وأكثر ما يصيب الانسان الجذام يكون من أكل الدم .
قال : فأكل الغدد ؟ قال : يورث الجذام .
قال : فالميتة لِمَ حرّمها ؟
قال(عليه السلام) : فرقاً بينها وبين ما يذكّى ويذكر عليه اسم الله ، والميتة قد جمد فيها الدم وتراجع إلى بدنها ، فلحمها ثقيل غير مريء ، لانّها يؤكل لحمها بدمها .
قال : فالسّمك ميتة ؟
قال(عليه السلام) : إنَّ السّمك ذكاته إخراجه حيّاً من الماء ، ثمّ يترك حتّى يموت من ذات نفسه ، وذلك أنـّه ليس له دم ، وكذلك الجراد .
قال : فَلِمَ حرّم الزنا ؟
قال(عليه السلام) : لما فيه من الفساد ، وذهاب المواريث ، وانقطاع الانساب ، لا تعلم المرأة في الزنا من أحبلها ، ولا المولود يعلم من أبوه ، ولا أرحام موصولة ، ولا قرابة معروفة .
قال : فَلِمَ حرّم اللّواط ؟
قال(عليه السلام) : من أجل أنّه لو كان إتيان الغلام حلالاً لاستغنى الرجال عن النساء ، وكان فيه قطع النسل ، وتعطيل الفروج ، وكان في إجازة ذلك فساد كثير .
قال : فَلِمَ حرّم إتيان البهيمة ؟
قال(عليه السلام) : كره أن يضيع الرجل ماءَه ، ويأتي غير شكله ، ولو أباح ذلك لربط كل رجل أتاناً(17) يركب ظهرها ، ويغشى فرجها ، فيكون في ذلك فساد كثير ، فأباح ظهورها، وحرّم عليهم فروجها ، وخلق للرجال النِّساء ، ليأنسوا بهنَّ ، ويسكنوا إليهنَّ ، ويكنَّ موضع شهواتهم ، وأُمهات أولادهم .
قال : فما علّة الغسل من الجنابة ، وإنّما أتى حلالاً وليس في الحلال تدنيس ؟
قال(عليه السلام) : إنَّ الجنابة بمنزلة الحيض ، وذلك أن النطفة دم لم يستحكم ، ولا يكون الجماع إلاّ بحركة شديدة وشهوه غالبة ، فإذا فرغ الرجل تنفس البدن ، ووجد الرّجل من نفسه رائحة كريهة ، فوجب الغسل لذلك ، وغسل الجنابة مع ذلك أمانة ائتمن الله عليها عبيده ليختبرهم بها .
قال : أيُّها الحكيم ! فما تقول فيمن زعم أنَّ هذا التدبير الذي يظهر في العالم تدبير النُّجوم السّبعة ؟
قال(عليه السلام) : يحتاجون إلى دليل ، أنَّ هذا العالم الاكبر والعالم الاصغر من تدبير النّجوم التي تسبح في الفلك ، وتدور حيث دارت متعبة لا تفتر ، وسائرة لا تقف .
ثم قال(عليه السلام) : وإنَّ لكل نجم منها موكل مدبّر ، فهي بمنزلة العبيد المأمورين المنهيين، فلو كانت قديمة أزلية لم تتغير من حال إلى حال .
قال : فمن قال بالطبايع ؟
قال(عليه السلام) : القدرية ، فذلك قول من لم يملك البقاء ، ولا صرف الحوادث وغيرته الايام والليالي ، لا يرد الهرم ، ولا يدفع الاجل ، ما يدري ما يصنع به(18) .
قال : فأخبرني عمّن زعم أنّ الخلق لم يزل يتناسلون ويتوالدون ويذهب قرن ويجيء قرن ، تفنيهم الامراض والاعراض وصنوف الافات ، ويخبرك الاخر عن الاول ، وينبئك الخلف عن السلف ، والقرون عن القرون ، أنّهم وجدوا الخلق على هذا الوصف بمنزلة الشجر والنبات ، في كل دهر يخرج منه حكيم عليم بمصلحة النّاس ، بصير بتأليف الكلام ، ويصنّف كتاباً قد حبره بفطنته ، وحسنه بحكمته ، قد جعله حاجزاً بين النّاس ، يأمرهم بالخير ويحثّهم عليه ، وينهاهم عن السوء والفساد ويزجرهم عنه ، لئلا يتهارشوا(19) ، ولا يقتل بعضهم بعضاً ؟
قال(عليه السلام) : ويحك ! إنَّ من خرج من بطن أُمه أمس ، ويرحل عن الدنيا غداً ، لا علم له بما كان قبله ، ولا ما يكون بعده ، ثمّ إِنّه لا يخلو الانسان من أن يكون خلق نفسه أو خلقه غيره ، أو لم يزل موجوداً ، فما ليس بشيء لا يقدر أن يخلق شيئاً وهو ليس بشيء ، وكذلك ما لم يكن فيكون شيئاً ، يسأل فلا يعلم كيف كان ابتداؤه ، ولو كان الانسان أزليّاً لم تحدث فيه الحوادث ، لانّ الازلي لا تغيّره الايّام ، ولا يأتي عليه الفناء ، مع أنّا لم نجد بناءاً من غير بان ، ولا أثراً من غير مؤثر ، ولا تأليفاً من غير مؤلف ، فمن زعم أنّ أباه خلقه، قيل : فمن خلق أباه ؟ ولو أنّ الاب هو الذي خلق ابنه لخلقه على شهوته ، وصوَّره على محبّته ، ولملك حياته ، ولجاز فيه حكمه ، ولكنّه إن مرض فلم ينفعه ، وإن مات فعجز عن ردّه ، إنّ من استطاع أن يخلق خلقاً ، وينفخ فيه روحاً حتّى يمشي على رجليه سوياً ، يقدر أن يدفع عنه الفساد .
قال : فما تقول في علم النّجوم ؟
قال(عليه السلام) : هو علم قلَّت منافعه ، وكثرت مضراته ، لانّه لا يدفع به المقدور ، ولا يتّقى به المحذور ، إن أخبر المنجم بالبلاء لم ينجه التحرّز من القضاء ، وإن أخبر هو بخير لم يستطع تعجيله ، وإن حدث به سوء لم يمكنه صرفه ، والمنجم يضاد الله في علمه ، بزعمه أنّه يردّ قضاء الله عن خلقه .
قال : فالرسول أفضل أم الملك المرسل إليه ؟
قال(عليه السلام) : بل الرسول أفضل .
قال : فما علّة الملائكة الموكّلين بعباده ، يكتبون ما عليهم ولهم ، والله تعالى عالم السّر وما هو أخفى ؟
قال(عليه السلام) : استعبدهم بذلك ، وجعلهم شهوداً على خلقه ، ليكون العباد لملازمتهم إياهم أشد على طاعة الله مواظبة ، وعن معصيته أشد انقباضاً ، وكم من عبد يهمّ بمعصية فذكر مكانهما فارعوى(20) وكف ، فيقول ربّي يراني ، وحفظتي عليّ بذلك تشهد ، وإنّ الله برأفته ولطفه أيضاً وكّلهم بعباده ، يذبّون عنهم مردة الشيطان وهوأمّ الارض ، وآفات كثيرة من حيث لا يرون باذن الله إلى أن يجيء أمر الله عزّوجلّ .
قال : فخلق الخلق للرحمة أم للعذاب ؟
قال(عليه السلام) : خلقهم للرحمة ، وكان في علمه قبل خلقه إيّاهم ، أنّ قوماً منهم يصيرون إلى عذابه بأعمالهم الردية وجحدهم به .
قال : يعذب من أنكر فاستوجب عذابه بإنكاره من خلقه ، فبمّ يعذب من وحّده وعرفه ؟
قال : يعذب المنكر لالهيّته عذاب الابد ، ويعذّب المقرّبه عذاب عقوبة لمعصيته إيّاه فيما فرض عليه ، ثمّ يخرج ، ولا يظلم ربك أحداً .
قال : فبين الكفر والايمان منزلة ؟
قال(عليه السلام) : لا . قال : فما الايمان والكفر ؟
قال(عليه السلام) : الايمان : أن يصدِّق الله فيما غاب عنه من عظمة الله ، كتصديقه بما شاهد من ذلك وعاين ، والكفر : الجحود .
قال : فما الشرك وما الشّك ؟
قال(عليه السلام) : الشّرك هو أن يضمّ إِلى الواحد الذي ليس كمثله شيء آخر ، والشّك : ما لم يعتقد قلبه شيئاً .
قال : أفيكون العالم جاهلاً ؟
قال(عليه السلام) : عالم بما يعلم ، وجاهل بما يجهل .
قال : فما السّعادة وما الشقاوة ؟
قال(عليه السلام) : السّعادة : سبب خير ، تمسك به السّعيد فيجرّه إلى النّجاة ، والشّقاوة : سبب خذلان ، تمسك به الشّقي فيجرّه إلى الهلكة ، وكل بعلم الله .
قال : أخبرني عن السراج إِذا انطفى أين يذهب نوره ؟
قال(عليه السلام) : يذهب فلا يعود .
قال : فما أنكرت أن يكون الانسان مثل ذلك إذا مات وفارق الروح البدن لم يرجع إليه أبداً ، كما لا يرجع ضوء السراج إليه أبداً إذا انطفى ؟
قال(عليه السلام) : لم تصب القياس ، إنَّ النّار في الاجسام كامنة ، والاجسام قائمة بأعيانها كالحجر والحديد ، فإذا ضرب أحدهما بالاخر سطعت من بينهما نار ، يقتبس منها سراج له ضوء ، فالنّار ثابتة في أجسامها والضوء ذاهب ، والرّوح : جسم رقيق قد أُلبس قالباً كثيفاً، وليس بمنزلة السراج الذي ذكرت ، إنَّ الذي خلق في الرحم جنيناً من ماء صاف ، وركب فيه ضروباً مختلفة من عروق وعصب وأسنان وشعر وعظام وغير ذلك ، وهو يحييه بعد موته ، ويعيده بعد فنائه .
قال : فأين الرّوح ؟
قال(عليه السلام) : في بطن الارض حيث مصرع البدن إِلى وقت البعث .
قال : فمن صُلِب فأين روحه ؟
قال(عليه السلام) : في كف الملك الذي قبضها حتى يودعها الارض .
قال : فاخبرني الروح غير الدم ؟
قال(عليه السلام) : نعم ، الرّوح على ما وصفت لك : مادتها من الدم ، ومن الدم رطوبة الجسم ، وصفاء اللّون ، وحسن الصّوت ، وكثرة الضحك ، فإذا جمد الدم فارق الروح البدن .
قال : فهل يوصف بخفّة وثقل ووزن ؟
قال(عليه السلام) : الروح بمنزلة الرِّيح في الزق ، إذا نفخت فيه امتلا الزق منها ، فلا يزيد في وزن الزق ولوجها فيه ، ولا ينقصها خروجها منه ، كذلك الروح ليس لها ثقل ولا وزن .
قال : فأخبرني ما جوهر الرِّيح ؟
قال(عليه السلام) : الرِّيح هواء إذا تحرّك يسمّى ريحاً ، فإذا سكن يسمّى هواء وبه قوام الدنيا، ولو كفّت الرِّيح ثلاثة أيّام لفسد كلّ شيء على وجه الارض ونتن ، وذلك أنَّ الرِّيح بمنزلة المروحة ، تذبّ وتدفع الفساد عن كلّ شيء وتطيّبه ، فهي بمنزلة الرّوح إذا خرج عن البدن نتن البدن وتغيّر ، تبارك الله أحسن الخالقين .
قال : أَفيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق ؟
قال(عليه السلام) : بل هو باق إلى وقت ينفخ في الصور ، فعند ذلك تبطل الاشياء وتفنى ، فلا حس ولا محسوس ، ثمّ أُعيدت الاشياء كما بدأها مدبّرها ، وذلك أربعمائة سنه يسبت(21)فيها الخلق وذلك بين النفختين .
قال : وأنّى له بالبعث والبدن قد بلي ، والاعضاء قد تفرّقت ، فعضو ببلدة يأكلها سباعها ، وعضو بأُخرى تمزقه هوامها ، وعضو قد صار تراباً بني به مع الطين حائط !!
قال(عليه السلام) : إنَّ الذي أنشأه من غير شيء ، وصوّره على غير مثال كان سبق إليه ، قادر أن يعيده كما بدأه .
قال : أوضح لي ذلك !
قال(عليه السلام) : إِنَّ الروح مقيمة في مكانها ، روح المحسن في ضياء وفسحة ، وروح المسيء في ضيق وظلمة ، والبدن يصير تراباً كما منه خلق ، وما تقذف به السّباع والهوام من أجوافها ممّا أكلته ومزّقته كل ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرة في ظلمات الارض ، ويعلم عدد الاشياء ووزنها ، وإنّ تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التّراب ، فإذا كان حين البعث مطرت الارض مطر النشور ، فتربو الارض ثمّ تمخضوا مخض(22) السقاء ، فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء ، والزبد من اللبن إذا مخض ، فيجتمع تراب كل قالب إِلى قالبه ، فينتقل بإذن الله القادر إلى حيث الروح ، فتعود الصور بإذن المصوّر كهيئتها ، وتلج الرّوح فيها ، فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئاً .
قال : فأخبرني عن النّاس يحشرون يوم القيامة عراة ؟
قال(عليه السلام) : بل يحشرون في أكفانهم .
قال : أنّى لهم بالاكفان وقد بليت ؟!
قال(عليه السلام) : إنَّ الذي أحيا أبدانهم جدّد أكفانهم .
قال : فمن مات بلا كفن ؟
قال(عليه السلام) : يستر الله عورته بما يشاء من عنده .
قال : أفيعرضون صفوفاً ؟
قال(عليه السلام) : نعم هم يؤمئذ عشرون ومائة ألف صف في عرض الارض .
قال : أو ليس توزن الاعمال ؟
قال(عليه السلام) : لا ، إنَّ الاعمال ليست بأجسام ، وإنّما هي صفة ما عملوا ، وإنّما يحتاج إلى وزن الشيء من جهل عدد الاشياء ، ولا يعرف ثقلها وخفّتها ، وإنَّ الله لا يخفى عليه شيء .
قال : فما معنى الميزان ؟
قال(عليه السلام) : العدل .
قال : فما معناه في كتابه : ( فَمَنْ ثَقلَتْ مَوازِينُهُ )(23) ؟
قال(عليه السلام) : فمن رجح عمله .
قال : فأخبرني أو ليس في النّار مقنع أن يعذب خلقه بها دون الحيّات والعقارب ؟
قال(عليه السلام) : إِنّما يعذب بها قوماً زعموا أنّها ليست من خلقه ، إنّما شريكه الذي يخلقه، فيسلّط الله عليهم العقارب والحيات في النّار ليذيقهم بها وبال ما كذبوا عليه ، فجحدوا أن يكون صنعه .
قال : فمن أين قالوا : إِنَّ أهل الجنّة يأتي الرجل منهم إلى ثمرة يتناولها فإذا أكلها عادت كهيئتها ؟
قال(عليه السلام) : نعم ، ذلك على قياس السراج يأتي القابس فيقتبس منه ، فلا ينقص من ضوئه شيء ، وقد امتلت الدنيا منه سراجاً .
قال : أليسوا يأكلون ويشربون ، وتزعم أنّه لا يكون لهم الحاجة ؟
قال(عليه السلام) : بلى ، لانَّ غذاءهم رقيق لا ثقل له ، بل يخرج من أجسادهم بالعرق .
قال : فكيف تكون الحوراء في جميع ما أتاها زوجها عذراء ؟
قال(عليه السلام) : لانّها خلقت من الطِّيب لا تعتريها عاهة ، ولا تخالط جسمها آفة ، ولا يجري في ثقبها شيء ، ولا يدنّسها حيض ، فالرحم ملتزقة ملدم (24) إذ ليس فيه لسوى الاحليل مجرى .
قال : فهي تلبس سبعين حلّة ، ويرى زوجها مخ ساقيها من وراء حللها وبدنها ؟
قال(عليه السلام) : نعم ، كما يرى أحدكم الدراهم إِذا ألقيت في ماء صاف قدره قدر رمح .
قال : فكيف تنعم أهل الجنّة بما فيها من النعيم ، وما منهم أحد إلاّ وقد افتقد ابنه أو أباه أو حميمه أو أُمّه ، فإذا افتقدوهم في الجنّة لم يشكوا في مصيرهم إلى النّار ، فما يصنع بالنعيم من يعلم أن حميمه في النّار يعذّب ؟
قال(عليه السلام) : إِنَّ أهل العلم قالوا : إنّهم ينسون ذكرهم . وقال بعضهم : انتظروا قدومهم ، ورجوا أن يكونوا بين الجنّة والنّار في أصحاب الاعراف ... الخبر

(1) نُقل نص الحديث عن الاحتجاج ، ج : 2 ، ح : 223 ، ص : 212 ـ 250 ، بتحقيق الشيخ إبراهيم البهادري والشيخ محمد هاديبه واشراف الشيخ جعفر السبحاني ، وما ثبت في الهامش من شروح وتوضيحات يعود للنسخة المذكورة من الكتاب ، وجاء في هامش الكتاب عن الرواية ما نصه :
إنّ هذه الرواية من أطول أحاديث الكتاب ، ولم نجدها بتمامها في مصدر واحد ، ولكنّها توجد متفرّقة في أبواب مختلفة من كتب الحديث . يقول العلامة المجلسي(رحمه الله) في بحار الانوار 10 / 188 بعد نقل الحديث : « هذا الخبر وان كان مرسلاً لكن أكثر أجزائه أوردها الكليني والصدوق متفرّقة في المواضع المناسبة لها ، وسياقه شاهد صدق على حقيته » .
(2) من الوباء وهو المرض العامّ ، ويعبّر عنه بالطاعون ـ مجمع البحرين .
(3) تَنَكّبَ : عدل ـ لسان العرب 1 / 770 .
(4) الشَّبُّ : دواء معروف ، وقيل : الشب شيء يشبه الزاج ـ لسان العرب 1 / 483 .
(5) الغرلة : مثل القلفة وزناً ومعناً ، وغرل غرلاً ، من باب تعب : إذا لم يختن ـ المصباح 2 / 113 .
(6) غافر : 60 .
(7) قال الفيروزآباي : بخت نصَّر بالتشديد ، أصله : بوخت ومعناه : إبن ، ونصَّر كبقَّم : صنم ، وكان وُجد عند الصنم ولم يعرف له أب فنسب إليه ، خرّب القدس ! القاموس 2 / 143 .
(8) البقرة : 259 .
(9) نفس المصدر .
(10) حزقل أو حزقيل ، كزبرج وزنبيل : إِسم نبي من الانبياء(عليهما السلام) ـ القاموس 3 / 357 .
(11) هذه القصّة مشهورة ، انظر تفسير القمّي 1 / 80 ، وتفسير العيّاشي 1 / 130 .
(12) النساء : 153 .
(13) الُمَرْجُ : الموضع ترعى فيه الدواب وإِرسالها للرعي . والخلط ـ القاموس 1 / 207 .
(14) قال الشهرستاني : أصحاب ديصان ، أثبتوا أصلين : نوراً وظلاماً ، فالنور يفعل الخير قصداً واختياراً ، والظلام يفعل الشرّ طبعاً واضطراراً ، فما كان من خير ونفع وطيب وحسن فمن النور ، وما كان من شرّ وضررونتن وقبح فمن الظلام .
وزعموا أنّ النور حيّ ، عالم ، قادر ، حسّاس ، درّاك ، ومنه تكون الحركة والحياة .
والظّلام ميّت ، جاهل ، عاجز ، جماد ، موات لا فعل له ولا تمييز ...
وزعموا أنّ النور جنس واحد ، وكذلك الظلام جنس واحد ، وأنّ إدراك النور إدراك متفق فإنّ سمعه وبصره وسائر حواسه شيء واحد فسمعه هو بصره ، وبصره هو حواسه .. الملل والنحل : 1 / 250 . وانظر : بحار الانوار : 3 / 211 .
(15) أصحاب ماني يسمون : المانويّة ، وهم أصحاب ماني بن فاتك الحكيم الذي ظهر في زمان سابور بن اردشير وقتله بهرام بن هرمز بن سابور وذلك بعد عيسى بن مريم(عليه السلام) ، أحدث ديناً بين المجوسيّة والنصرانيّة ... وزعم أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين ، أحدهما نور والاخر ظلمة ، وأنّهما أزليّان لم يزالا ولن يزالا ... انظر : المل والنحل : 1/ 244 .
16) يُقال : بينهم رحم ماسة ، أي : قرابة قريبة ـ القاموس 2 / 251 .
(17) الاتان : الحمارة ـ القاموس 4 / 194 .
(18) انظر المناقب لابن شهرآشوب 4 / 264 .
(19) هَرَشَ الدهر : إشتدَّ ، والتهريش والتحريش بين الكلاب والاِفساد بين النّاس ـ القاموس 2 / 293 ، وفي « أ » وبحار الانوار : لئلا يتهاوشوا .
(20) رعا ، يرعو ، أي : كفّ عن الامر ، وقد ارعوى عن القبيح : إرتدع ـ مجمع البحرين .
(21) سُبِتَ ، بالبناء للمفعول : غشي عليه وأيضاً مات ـ المصباح 1 / 318 .
(22) مخض اللبن ، يمخضه : أخذ زبده ـ القاموس 2 / 343 .
(23) المؤمنون : 102 .
(24) قال الفيروزآبادي : المِلدم كمِنْبَرْ : الاحمق الثقيل اللّحم ـ القاموس 4 / 175 .



المصدر:
العضو العزيز...شكر صاحب الموضوع للجهد الذي يقوم به لخدمة اهل العلم يشجعه لإعطاء عطاء أكبر . ضع رد لرؤية الرابط..

غير مبريء الذمه نقل الموضوع أو مضمونه بدون ذكر المصدر: منتديات الشامل لعلوم الفلك والتنجيم - من قسم: مواضيع مختلفة


...
....
صورة رمزية إفتراضية للعضو yosfali
yosfali
عضو
°°°
افتراضي
احسنت يااخي موضوع بغاية الاهميه يبين اهم اصول ديننا الحنيف..
في زمن الامام الصادق عليه السلام كثر الملاحده والزناديق وكادوا ان يفلحوا بتشكيك المسلمين بعقايدهم لولا وجود ائمة اهل البيت اهل بيت العلم وخزائنه
والتوحيد الخالص عندهم لاعند غيرهم ممن يضع لله حدودا ويعتبره جسما طوله 12 ذراعا وله عينين وليس اعور !! ويصعد وينزل وماالى ذلك.
جزاك الله خيرا ياحكبم

صورة رمزية إفتراضية للعضو LLLL
LLLL
عضو
°°°
افتراضي
جزيت خيراااااااااااااااااااااااااااااا

صورة رمزية إفتراضية للعضو الزبيدي
الزبيدي
عضو
°°°
افتراضي
مجهود اكثر من رائع وفقك الله اخي الكريم

صورة رمزية إفتراضية للعضو علي العذاري
علي العذاري
انتقل لرحمة الله
°°°
افتراضي
افضت دررمن درر على درر
ابلغت في البحث وجئت بدره بهيه
انار الله دربك ورزقك العفو والعافيه والحشر مع من ذكرت واسهبت في ذكر فضائله

صورة رمزية إفتراضية للعضو آلـطـور آلآخـر
آلـطـور آلآخـر
عضو
°°°
افتراضي
شكراً جزيلاً لـكـ عـلى آلطـرح ...


مواقع النشر (المفضلة)
إحتجاج الامام الصادق(عليه السلام)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
الانتقال السريع
المواضيع المتشابهه
الموضوع
نظرية الصادق (عليه السلام) حول أسباب بعض الأمراض
فضل الامام علي عليه السلام
طب الأمام الصادق عليه السلام
الامام المهدي عليه السلام...مرة أخرى

الساعة الآن 10:29 AM.