المشاركات الجديدة
تواريخ وحوادث : لتكوين قاعدة بيانات بتواريخ الاحداث والمواليد

الكيمياء عند العرب

افتراضي الكيمياء عند العرب
الكيمياء عند العرب
تأليف
روحي الخالدي


العضو العزيز...شكر صاحب الموضوع للجهد الذي يقوم به لخدمة اهل العلم يشجعه لإعطاء عطاء أكبر . ضع رد لرؤية الرابط..



علم جابر
تمهيد
ِّ الأمة الحية التي تحس بكيانها وتشعر بوجودها هي التي تعنى بعلمائها، وتقدر أعاظم
رجالها حق قدرهم. فإن الأمة لا تستحكم في ربوعها الحضارة والعمران، ولا تكمل لها
الدولة والسلطان، إلا بعناية أولئك الرجال الذين حبسوا أنفسهم على خدمة العلم، وتفانوا
َّ في كشف الحقيقة، وتجش ِّ موا في البحث عنها املتاعب والأخطار، وقطعوا في تحريها الأمصار
والبحار، وبذلوا دونها النفس والنفيس، وأذهبوا أعمارهم في التدبري والتفكري والتجارب
والتحرير، كل ذلك للوقوف على غوامض أسرارها واجتناء يانع ثمارها.
إذا صح ما قيل إن العلم له غايتان: إحداهما عقلية، وهي التحري عن الحقيقة
ِه هذا العالم، ومعرفة سر هذا الوجود، ونظام هذا الكون،
ُ لذاتها، ومحاولة الوصول إلى كنْ
والأخرى إنسانية، وهي خري البشر، واستحكام الحضارة — فما أجدرنا أن نحاول في هذا
البحث معرفة ما وصل إليه العرب في إدراك هاتني الغايتني، وما كان لهم من أثر حقيقي
في خدمة العلم، وكشف الحقائق، للوصول بالبشر إلى درجة الكمال، والسري بهم في معارج
السعادة.
قال ويلز الكاتب الإنجليزي املشهور في كتابه «تجربة في التاريخ العام»: «إنه في
القرون التي سبقت ظهور محمد، كان الفكر العربي أشبه بالنار تحت الرماد، فلما
انكشف عنه الرماد بالفتح الإسلامي، ملع ملعانًا لم يعهد أن فاقه فيه إلا الفكر اليوناني.
ً وهذا في أسنى أدواره. فجاء الفكر العربي بشكل جديد، وبقوة جديدة، وعالج علاجا
شريفً ا. تنمية العلوم الصحيحة نظري ما عالج اليونانيون. ولقد كان اليوناني أبًا للعلم،
فجاء العربي وحل محله في هذه الأبوة. وكانت طريقة العربي هي أن ينشد الحقيقة بكل استقامة وبكل بساطة، وأن يجليها بكل وضوح وبكل تدقيق، غري تارك منها شيئً
في ظل الإبهام. فهذه الخاصة التي جاءتنا — نحن الأوروبيني — من اليونانيني، وهي
نشدان النور، إنما جاءتنا عن طريق العرب، ولم تسقط إلى أهل العصر الحاضر من طريق
اللاتني.»
وقال درابر: «ومن عادة العرب أن يراقبوا، ويمتحنوا، وقد حسبوا الهندسة والعلوم
الرياضية وسائط للقياس. ومما تجدر ملاحظته أنهم لم يستندوا — فيما كتبوه
في امليكانيكيات والسائلات والبصريات — على مجرد النظر، بل اعتمدوا على املراقبة
والامتحان، بما كان لديهم من الآلات، وذلك ما هيأ لهم سبيل ابتداع الكيمياء وقادهم
لاختراع أدوات التصفية والتبخري ورفع الأثقال، ودعاهم إلى استعمال الريع والإصطرلاب
في علم الهيئة، واستخدام املوازنة في الكيمياء، مما خصوا به دون سواهم ... وهم الذين
أنشئوا في العلوم العملية علم الكيمياء، وكشفوا بعض أجزائها املهمة، كحامض الكبريتيك
وحامض الفضة (النتريك) والكئول، وهم الذين استخدموا ذلك العلم في املعالجات الطبية،
فكانوا أول من نشر تركيب الأدوية واملستحضرات املعدنية.» وملا كان البحث في أثر العرب
في نواحي العلم املختلفة، يستوعب مجلدات ضخمة، ويحتاج إلى زمن طويل للتدقيق
والتمحيص، رأينا أن نقصر بحثنا هذا، على ما قاموا به من التجارب في علم الكيمياء، التي
لولاها ملا وصل إلى ما هو عليه في هذا العصر من الرقي.
وجاء في التاريخ العام: «وكان الرازي وجابر أول من وضعا أساس الكيمياء
الحديثة، وحاولا كشف الإكسري الذي يهب الحياة، ويعيد الشباب. وكانا يذهبان إلى
ِّ معرفة حجر الفلاسفة الذي يحول املعادن إلى الذهب. ولم تذهب هذه الأبحاث الوهمية
سدى؛ لأنهم عرفوا بها التقطري والتصعيد والتجميد والحل، وكشفوا الكئول من املواد
السكرية والنشوية الخاثرة.»
وضع جابر والرازي وابن سينا ومسلمة والكندي وعشرات غريهم من العلماء أصول
الكيمياء الحديثة، وساعدهم على ذلك روجر باكون، والبابا سلفستر الثاني، وألبري الكبري،
وجمهرة كبرية من علماء أوروبا في القرون الوسطى. وظل الأمر كذلك حتى جاء لافوازيه،
َّ فصحح مذهب املتقدمني من الكيميائيني، املؤسس على وجود العناصر الأربعة، ووضع
في هذا العلم القواعد الصحيحة، والنظريات املبرهنة، فأوجد بذلك علم الكيمياء الحديث.
قال هذا العالم الفرنسي الشهري: «موضوع علم الكيمياء هو تحليل الجسم بالعمليات
الكيميائية إلى العناصر التي يتألف منها، ثم فحص كل عنصر من تلك العناصر على حدته. فغاية علم الكيمياء، هي تجزئة الأجسام. ولا يزال هذا العلم يسري إلى هذه الغاية
حتى يبلغ درجة الكمال بتجزئة الأجسام املختلفة، التي في الطبيعة، ثم بتجزئة تلك الأجزاء
ٍّ ا وهلم جرا ... فالكيمياء هي علم التحليل.»
ثانيًا وثالثً
ً وقال برتلو: «الكيمياء تكون موضوعها، وهذه الخاصة املكونة تميز هذا العلم تمييزا
ذاتيٍّا عن العلوم الطبيعية والتاريخية؛ لأن موضوع كل من العلمني الأخريين سابق عليهما،
وخارج عن إرادة العالم بهما وعن عمله. فالكيمياء تخلق موضوعها، ولها قدرة على إعادة
ما هدمته وإحياء ما أماتته. فالكيمياء هي علم التحليل والتركيب، وهذا التركيب يعم
العناصر واملركبات، وليس له حد محدود.»
وقال جريار: «إن الكيميائي يعمل بعكس ما تعمل الطبيعة الحية؛ لأن الكيميائي
يحرق الأجسام، ويهدم تركيبها، ويجري جميع أعماله فيها بالتحليل. بيد أن الطبيعة
الحية، أو القوة الحيوية، تجرى أعمالها بالتركيب، فهي تعيد بناء الهياكل التي هدمتها
القوى الكيميائية.»
َّ وقد خالف رجال الكيمياء الحديثة هذا القول، وكونوا من الأجسام ما في وسع
الطبيعة الحية والقوة الحيوية وحدهما تكوينه، وأعادوا بناء الهياكل التي هدمتها القوى
الكيميائية. حكموا على املادة، وزادوا في املوجود، وجرت من أعماق أخيلتهم عوالم جديدة،
وبرهنوا على أن املادة املعدنية واملادة العضوية تابعتان لقاعدة واحدة، ووضعوا النظريات
التي يقوم عليها ذلك البحر الزاخر من الاختراعات والاكتشافات التي أوجدها لنا علم
الكيمياء الحديث.
ً فالعلم الذي كان أساسا ملا نراه في هذا العصر، من الأدوية واملركبات واملواد الكيميائية
ً الحديثة — عضوية كانت أم غري عضوية — لم يكن علما مبنيٍّا على الأوهام والأباطيل.
وبالرغم من وجود بعض الدجالني واملشعوذين، الذين لا يخلو منهم مكان أو زمان، فقد
كانت للكيمياء الإسلامية نظريات صحيحة وقواعد ثابتة. وقد نعجب في بعض الأحيان
ملا نجده في كتبهم من التصورات والآراء، التي كنا نظنها عصرية، فإذا بهم قد سبقوا
إليها، وذلك كمذهب النشوء والارتقاء في الكائنات العضوية. فقد كان هذا املذهب يعلَّم
في مدارسهم، وكانوا يذهبون فيه إلى أبعد مما نذهب اليوم، بإطلاقه على الجواهر غري
العضوية. وكان مبدأ الكيمياء الأساسي عندهم هو التركيب التدريجي في الأجسام املعدنية.
قال الخازن: «إن الجهلة حينما يسمعون بتحول بعض الأجسام بطريق التكامل إلى ذهب،
ً يفهمون أنه مر بصور الأجسام املعدنية الأخرى؛ أي إنه كان رصاص ً ا، ثم صار قصديرا،

ثم صار من نوع سكب الرمل ثم فضة إلى أن انتهى ذهبًا. ولا يدركون أن الفلاسفة
ً يريدون بما يقولونه الإنسان أيضا.»
فإذا كان الأمر كذلك فإلى أي مدى وصل العرب في وضع قواعد هذا العلم؟ ذلك ما
نحاول الإجابة عنه في هذا البحث.
علم جابر
علم جابر هو الكيمياء، خصها علماؤنا املتقدمون بجابر بن حيان الصوفي؛ لأنه إمام
املدونني فيها، فاخترنا هذا الاسم لإطلاقه على الكيمياء القديمة؛ لأن علماء الإفرنج في
ِّ عصرنا، يفرقون بني الكيمياء املعرفة بأل التعريف العربية، وبني كيمياء بغري أداة
التعريف، فيقولون: الكيمياء Alchemy وكيمياء Chemistry .ويطلقون الاسم الأول
على علم الكيمياء القديم، املنقول عن جابر واملتداول بني الناس في القرون الوسطى،
ويطلقون الاسم الثاني على علم الكيمياء الحديث، الذي هذبه وأحكم قواعده العلامة
الفرنسي لافوازيه، (١٧٤٣–١٧٩٤ (في النصف الأخري من القرن الثامن عشر للميلاد.
كان الجمهور من علماء الإفرنج، يذهب قبل اليوم إلى أن علم جابر — أي الكيمياء
القديمة — من الأباطيل التي دانت لها علماء الإسلام والنصارى في القرون الوسطى،
ً حتى خيلت للمسلمني منهم استحضار «الإكسري» الذي يسمونه أيضا «الحجر الكريم»،
أو «الحجر املكرم»، «الحجر الأصفر»، ويزعمون بأنه تراب أو ماء، إذا رش أو صب
َّ منه على املادة القابلة للاستحالة، صريها ذهبًا أو فضة. ووسوست للمسيحيني الذين
ً أخذوا الكيمياء عن املسلمني بأن في «الإكسري» الذي سموه أيضا «حجر الفلاسفة» منافع
أخرى، كخاصة الدواء الشافي لكل داء، واملاء الذي فيه الحياة وطول العمر، وغري ذلك
من الخواص الكاذبة، التي أوهمت علماء الإفرنج بأن الكيمياء القديمة حديث خرافة من
خرافات القرون الوسطى. غري أن كثريًا من علماء هذا العصر، دحضوا آراء القائلني ببطلان
الكيمياء القديمة، ومهدوا السبل للسالكني طريقة جابر، باكتشافهم التركيب الكيميائي،
واصطناعهم املركبات العضوية، مما كانت الطبيعة متفردة بتكوينه قبل اليوم. وأثبتوا
بأن علم الكيمياء الحديث والاكتشافات التي اكتشفت فيه لغاية هذا العصر لم يهدما
أساس الكيمياء القديمة، املبنية على حقائق فلسفية، يقبلها العقل، ويؤيدها البرهان،
وأفسدوا الاعتقاد ببطلان علم جابر. ￾ي ك￾￾ل ج￾￾ي￾￾ل أب￾￾اط￾￾ي￾￾ل ي￾￾دان ب￾￾ه￾ ً ￾ا ف￾￾ه￾￾ل ت￾￾ف￾￾رد ي￾￾وم￾￾ا ب￾￾ال￾￾ه￾￾دى ج￾￾ي￾￾ل؟
فالكيمياء لغة مثل السيمياء — اسم صنعة — وهو عربي كما ذكر في مختار
الصحاح، من كمي بمعنى استتر. ووجه التسمية ظاهر؛ لأن الكيمياء القديمة من
الصناعات السرية املستترة، وكان منتحلو هذه الصناعة يراعون فيها قاعدة الستر
والإخفاء. أما علماء الإفرنج فلم يتفقوا على أصل كلمة كيمياء Alchemy ،فقد جاء في
معجم لاروس الفرنساوي أن كيمياء لفظ يوناني مشتق من كيموس بمعنى العصارة.
وقال بعضهم: إنه مشتق من اللاتينية، وجميعهم متفقون على أن أل املوجودة في كلمة
الكيمياء هي أل التعريف العربية. هذا معنى الكيمياء في اللغة. وأما في اصطلاح جابر
وشيعته، فهي علم يبحث فيه عن املادة، التي يتم بها كون الذهب والفضة بالصناعة. فهذه
املادة يسمونها الإكسري، ويزعمون أنه يلقى منها على الجسم املعدني مثل الرصاص
والقصدير والنحاس بعد أن يحمى بالنار، فيعود ذهبً ً ا إبريز َّ ا، ويدعون بأن الإكسري
موجود بالقوة في جميع الأجسام، سواء أكانت معدنية أم نباتية أم حيوانية. غري أنه
يسهل استخراجه بالفعل من بعضها فقط، وفي الغالب من الجسم الحيواني؛ ولذلك نراهم
يفحصون جميع املكونات من املعادن والنباتات والفضلات الحيوانية كالريش والعظام
والبيض والدم وغريها، ويعينون خواص جميع ذلك وأمزجتها وقواها، لعلهم يعثرون
فيها على الإكسري. أما الأعمال التي يجرونها في فحص املكونات وتعيني خواصها، فهي
كثرية، منها حل الأجسام إلى أجزائها الطبيعية، بالتصعيد أو التقطري، وتجميد الذائب
منها بالتكليس، وتركيب الأجسام بالتزويج والتعفني. والتزويج باصطلاحهم، هو اختلاط
الجسم اللطيف بالغليظ، والتعفني هو التمشية والسحق، حتى يختلط بعض الأجسام
ً ا واحدا، لا اختلاف فيه ولا نقصان، بمنزلة الامتزاج باملاء، وهذا
ببعض، وتصري شيئً
هو املعبر عنه في الكيمياء الحديثة بالامتزاج الكيميائي، للتفريق بينه وبني الاختلاط
ً العادي، ومن تلك الأعمال أيضا الغسل والتنقية والتنشيف، وغري ذلك مما هو معروف.
ويستعينون على هذه الأعمال بآلات كثرية، أهمها الإناء والقرن والقارورة والقرعة والفرن
وغري ذلك.
فموضوع الكيمياء القديمة هو تحول املعادن، بل انقلاب جميع املواد املستعدة
لقبول التحول من نوعها إلى نوع آخر. وهذا هو الغرض الذي يجري وراءه اليوم علم
التركيب الكيميائي، الذي هو باب عظيم من أبواب الكيمياء الحديثة. وغاية الكيمياء القديمة تحويل املعادن الخسيسة املبتذلة — كالرصاص والقصدير والنحاس والحديد
والخارصني — إلى املعدنني الشريفني النادرين، وهما الذهب والفضة، فهذه الغاية هي
التي أطمعت الناس في هذا العلم من قديم الزمان، واستهوت الكثريين حتى استهلكوا في
طلبها.
اختلفوا فيمن وضع علم جابر، وفي الزمان الذي وضع فيه. فزعم القدماء بأنه
صنعة إلهية وفرع من فروع العلوم الروحانية، وقالوا بأن هذا العلم هو باصطلاحهم
أحد العلوم امللهمة السرية — كالسيمياء والسحر والتنجيم والطلسمات — وجد في النوع
الإنساني منذ كان عمران الخليقة، وإن سندهم فيه يتصل إلى هرمس الأعظم الذي
يحسبونه كبري فراعنة مصر، أو أعلم علمائها، وينسبون إليه جميع العلوم والحكمة،
ويعتبرونه في مصاف الآلهة. غري أن علماء الآثار لم يقفوا في أبحاثهم وتحرياتهم على أثر
لهرمس هذا. وقيل: كان هرمس الأعظم في بابل، ولعل مرادهم به حينئذ إدريس عليه
السلام، حيث ورد بأنه من السريانيني أخوات الكلدانيني، وبأنه أول من أعطي النبوة
وخط بالقلم، وأول من نظر في علم النجوم والحساب وغريهما من العلوم، وأول من فصل
الثياب وخاطها. وقال علماء العصر بأن هذا العلم لم يوضع إلا بعد القرن الثاني، بل
الثالث للميلاد، وأن واضعيه علماء الروم في بيزانس أي القسطنطينية، وإنما عزوها إلى
علماء مصر لأنها كانت بالنسبة إليهم ينبوع العلم ومهد الحضارة. واستدلوا على قولهم
هذا بتدقيق الرسائل القديمة املدونة في الكيمياء، وهي لم تزل محفوظة بالخط اليوناني
القديم في مكتبات أوروبا. ويظهر من ورقها وخطها اليوناني القديم وأسلوب إنشائها
بأنها من مؤلفات القرن السابع للميلاد، ومؤلفها وإن كان من علماء القسطنطينية، إلا
أنه عزاها إلى علماء مصر، وادعى باتصال سندها إلى هرمس الأعظم.
والذي يطمئن له القلب في تحقيق هذا البحث، أن الكيمياء على الإطلاق من
قديمة وحديثة، تشتمل على أمرين؛ أحدهما القواعد النظرية، والآخر الصناعات العملية،
فصناعة الكيمياء العملية وجدت في الأمم الخالية من قديم الزمان، ووجودها ملازم
لوجود العمران. وقد تولدت من صناعات مصر وبابل ومن اشتغال الأمم السالفة في
إذابة املعادن، وتخليطها واصطناع البلور وأحجار الفسيفساء وغريهما، وصبغ الأقمشة
وتلوينها؛ وقد ثبت في يومنا أن الصينيني صنعوا البارود والحبر والزجاج، وطلوا الفخار،
وأذابوا املعادن قبل امليلاد بقرون كثرية، وأن املصريني تقدموا في الصناعات العملية،
ْوَها،
فاستخرجوا شذور الذهب وأحجار الفضة، وغريهما من املعادن، وأذابوها، وصفوها وخلطوها بعضها ببعض، وكان فيهم الفر ِّ ان والزجاج واملصور والنقَّ اش والصبَّاغ.
وجميع هذه الصناعات من تطبيقات علم الكيمياء، ولا بد فيها من معرفة هذا العلم
ً معرفة عملية لا نظرية، وقد اشتهروا أيضا بصناعة تحنيط املوتى، التي هي من أدق
الصناعات وأعجبها، وبها حفظت الأجساد لهذا العهد، ولهذه الصناعة علاقة كبرية بعلم
الكيمياء.
وأما الأشوريون والفرس وأهل بابل من الكلدانيني، فإنهم خطوا خطوة كبرى في
العمران والحضارة، ولم يزل العلماء يبحثون في آثارهم، وينقبون في خرائب مدنهم،
ليعرفوا مبلغ ما وصلوا إليه من الرقي والتمدن. وكانت الصناعات متوفرة لديهم، كما
تقدمت كذلك لدى الفنيني الذين اشتهروا بعمل الزجاج وإذابة املعادن وصبغ الأقمشة،
ُّ حتى كان الداخل مدينة صور يشمئز من روائح مصابغها الكثرية، كما شاهد ذلك املؤرخ
ً اليوناني إسترابو، وحكاه في تاريخه في القرن الأول للميلاد. وكان لهذه الأمم أيضا عناية
تامة بالسحر والتنجيم وما يتبعها من العلوم السرية، كما أيدت ذلك الاكتشافات، ونطق
به القرآن املبني، في قصة هاروت وماروت ببابل، وشأن السحرة في مصر، وقصة نمرود
وفرعون مع إبراهيم وموسى عليهما السلام.
ً وتقدمت صناعة الكيمياء أيضا عند اليونان والرومان، فاستخرجوا معادن الذهب
والفضة والحديد والنحاس وغريها، وضربوا املسكوكات، ووقفوا على خواص كثري من
الأملاح املعدنية، فاستفادوا منها في صناعاتهم، وطبخوا الصابون، وشووا الزجاج والفخار
وطلوه. وما يشاهد في آثار بنيانهم من كلس الرخام وأنواع الطني دليل على وقوفهم على
كثري من أسرار هذه الصناعة.
والظاهر أن الاعتقاد بإمكان وجود الذهب الصناعي تولَّد من رؤية الحوادث
الأولية، التي حدثت في علم الكيمياء في أثناء اشتغال الأمم السالفة باملعادن؛ وذلك
أنهم ملا رأوا بالتجارب أن الأجسام تتكيف، وتستحيل بالتدبري واملعالجة — أي
بالعمليات الكيميائية — استولى على عقولهم الأمل باصطناع الذهب والفضة، وطمعوا في
السعادة، فظنوا أنهم يتمكنون من تقليد الطبيعة في تكوينها هذين املعدنني الشريفني،
وأنهم يتوصلون للحصول عليهما بالطريقة الصناعية، فقالوا بوجود الكيمياء، وسموها
بالصنعة الهرمسية، وألحقوها بعلوم السحر والتنجيم وما شابههما.
ً وأما القواعد النظرية التي يشتمل عليها علم الكيمياء فأساسها قديم أيضا؛ لأن
القاعدة الأولى في هذا العلم هي العناصر التي يتألف منها الجسم كما يتألف الكون من مجموع الأجسام. وقد تبني لعلماء العصر من تدقيقهم الكتب القديمة، بأن أول من قال
بتركيب الجسم من العناصر هم أهل الهند، فإنهم اعتبروا العالم السفلي — أي دنيانا
هذه — مركبًا من أربعة عناصر، وهي الهواء والنار واملاء والأرض، وأن العالم العلوي
— أو السماء — عنصر خامس «الأثري». فالكون عند علماء الهند مؤلف من خمسة
عناصر. وأقدم القائلني بمثل هذا القول من فلاسفة اليونان هو الحكيم أمبيدوجل؛ فإنه
قال بوجود العناصر الأربعة فقط، ولم يذكر العنصر الخامس، وذلك قبل امليلاد بأربعة
قرون ونصف قرن. وذهب فيثاغورس وغريه من حكماء اليونان إلى أن عنصري املاء
والنار أصل كل شيء في الوجود، وقال بعضهم بأن عنصر النار وحده أصل الكون، غري
أن أفلاطون وأرسطوطاليس أيَّدا رأي القائلني بأن املكونات تتألف من العناصر الأربعة
وأوضحا هذا الرأي وبيَّنَاه، واتصل سند علماء الإسلام إلى أرسطوطاليس في جميع العلوم
الفلسفية وفي الحكمة، فقالوا بأن الأجسام تتركب من العناصر الأربعة، وهي الأرض
واملاء والهواء والنار، ويقصدون بالأرض الجسم الصلب، وباملاء الجسم السائل، وبالهواء
الجسم الغازي، وبالنار الحرارة والضوء. وبقي هذا الرأي هو املعمول به واملعول عليه
بني العلماء إلى أن جاء لافوازيه في القرن الثامن عشر، وأبطل هذا الرأي، وقال بأن
العناصر الأربعة ليست بأجسام بسيطة؛ لأن املاء يتألف من عنصرين بسيطني، وهما
الهيدروجني (مولد املاء) والأكسجني (مولد الحموضة)، وبأن العناصر البسيطة تزيد عن
أربعة بكثري. ومن قواعد الكيمياء النظرية القول بالجوهر الفرد، وأن الأجسام مؤلفة من
ذرات متحركة، بينها خلايا، وأول من قال بذلك الحكيم اليوناني لوكيب، وتابعه عليه
تلميذه ديموقراط، فأوضح هذا القول وبيَّنه.
فهذه القواعد النظرية، وتلك الصناعات العملية، هيأت علم الكيمياء للظهور والبروز.
وفي القرن الثالث للميلاد وما بعده، أخذ اليونان يدونون هذا العلم، كما دون بقراط علم
الطب بعد أن كان صنعة عملية، يتناقلها الابن مشافهة عن أبيه.
ولم يذهب أحد من علماء هذا العصر إلى أن الكيمياء من أوضاع الصابئني مع
ً أن جابرا إمام املدونني في هذا العلم من نسلهم، ورسائل الكيمياء القديمة مملوءة
باعتقاداتهم ومذاهبهم. والصابئون طائفتان: إحداهما الحرانيون سكان حران، وهي
مدينة في جنوب الرها وعلى مسافة بضع ساعات منها، وهؤلاء من نسل العرب، كما
ً ذكر ذلك السيد جمال الدين الأفغاني في الرد على رينان، ويؤخذ ذلك أيضا، ما نقله ابن
الأثري في تاريخ الكامل، من أن بختنصر أخذ من في بلاده من تجار العرب، وبنى لهم حران بالنجف، وأسكنهم فيها، وجاء بطوائف من العرب وأنزلهم السواد، فابتنوا الأنبار،
ً واتخذوا الحرية منزلا. وأساس مذهب الحرانيني التوحيد، والاعتراف بصانع العالم، وأنه
حكيم قادر مقدس، إلا أنهم يتقربون إليه بالكواكب السبعة السيارة، ويعتقدون أنها
مدبرة لهذا العالم السفلي، ولها أرواح مؤثرة فيه، ولكل كوكب منها تأثري خاص به؛
ولذا كانت عبادتها مبنية على التوسل إليها، بتلاوة العزائم والأقسام، وجعلوا لكل شيء
ً ورد ً ا قسم ً ا مخصوصا. وللحرانيني آراء كثرية على مذهب أرسطو في املادة، والعناصر،
كما ذكر ذلك ابن النديم في الفهرست، فلعلهم اقتبسوا شيئًا من فلسفة اليونان، غري أن
أساس دينهم وعلومهم مأخوذ — ولا شك — من دين أهل بابل الأقدمني.
والطائفة الثانية من الصابئني هم جنس من أهل الكتاب، يقال لهم الكسائيون؛
نسبة لشيخهم الكسائي. وكان ظهورهم في القرن الثاني للميلاد، فيما بني واسط
والبصرة. وأصل الكسائي — مؤسس هذا املذهب — مجوسي، هاجر من شمال بلاد
العجم إلى جنوب الجزيرة، ونشر فيها مذهبه، وشرط في العبادة الطهر والاغتسال باملاء،
ولذا قال املستشرقون بأن اسم الصابئة مشتق من صبا في اللغة الآرامية، ومعناها
اغتسل، وقيل بأن الكسائيني هم املانيون؛ أي الذين هم على دين ماني النقاش. وكان
ً ماني مطلعا على كثري من العلوم، وله براعة في النقش والتصوير؛ فوضع كتاب «أرتنك»
أو «أرجنك»، وادعى بأنه أنزل عليه من السماء. وأساس مذهب الكسائيني — ومذهب
املانيني املسمى مذهب الثنوية — القول بوجود عاملني؛ عالم النور، وعالم الظلام، والأخذ
بالنور والبراءة من الظلمة. وفي زعمهم أن النور يتألف من الهياكل الروحانية، وهي
أشكال نورانية لطبقة عالية تصعد لأعلى طبقة من النور والبهاء. وعالم الظلام يتألف
من الهياكل الجسمانية، وهي أشكال مظلمة كثيفة، تهوي للدرك الأسفل من الكثافة
والظلام. فهذان العاملان على طرفي نقيض. والكمال والحسن في جانب النور لا في جانب
الظلام.
وللصابئيني في العناصر الأربعة مذهب يحكى مذهب قدماء الهنود، فإنهم يقولون
بأن الأجسام السفلية — أي التي تحت فلك القمر — مركبة من العناصر الأربعة. وأما
جسم السماء — أي ما فوق القمر من الأفلاك — فهو عنصر خامس. وكان الصابئون
يكتبون بلسان الآراميني أو الأرمانيني كما سماهم ابن الأثري، وهم نبط سواد العراق،
ومن الأمم السامية الذين ملكوا أرض بابل وما يليها إلى ناحية املوصل. وكانت لغتهم
السريانية منتشرة في سوريا والجزيرة والعراق، وهي لغة الدين والعلم والسياسة، قبل ظهور الإسلام، وانتشار العربية في هذه الأقاليم، حتى إن عرب الحرية والأنبار وحران
كانوا لا يقرءون ولا يكتبون إلا بالسريانية. وكان لدى الآراميني بقية من علوم الفلك
والتنجيم، والسحر، والطلاسم، والنباتات، وغريها من الطبيعيات، ورثوها عن آبائهم
الأقدمني، من الكلدانيني والسريانيني أو الأشوريني، فأضافوا إلى هذه العلوم في منتصف
القرن الثاني للميلاد فلسفة اليونان وعلومهم، بترجمتها من اليونانية إلى السريانية،
واشتهر من هؤلاء املترجمني ابن ديصان — منجم الرها، وليس بأسقفها كما توهم كثري
من املؤرخني — فأحيا اللغة السريانية، ووسع دائرة العلم وفن الأدب فيها. وفي ابتداء
القرن الثالث أنشئت مدرسة الرها، وكانت على حدود مملكة الأكاسرة فسميت مدرسة
ُ الفرس، وهرع إليها الطلاب من العراق والعجم والشام، ودِّرست فيها اللغة اليونانية،
وترجمت كتبها إلى السريانية. واشتهر من حكمائها «أفريم» وغريه. ودخل النساطرة
مدرسة الرها في أوائل القرن الخامس للميلاد، واشتهروا فيها بالطب، وبمعرفة كثري من
الأدوية، والعقاقري املستفادة من املعادن والنباتات، وملا نفاهم القيصر زينون، وأقفل
مدرسة الرها، تجمع النسطوريون في نزيب — وكانت في ملك الأكاسرة — ثم تفرقوا في
بلاد فارس، ورحلوا إلى الهند والصني، ثم انضم إليهم أصحاب الرواق — من املشائني
— لاضطهاد القياصرة لهم؛ ففتح لهم كسرى أنوشروان مدرسة للطب والفلسفة في
جنديسابور، من إقليم خوزستان، واستمرت هذه املدرسة إلى زمن العباسيني. وكان
في قنسرين — وهي على الضفة اليسرى لنهر الفرات — مدرسة أخرى لدرس العلوم
اليونانية والفلسفة.
فيتضح من ذلك أن للآراميني والصابئني مشاركة في العلوم والفلسفة، حتى لقبهم
املسعودي بعوام اليونانيني، وحشوية الفلاسفة املتقدمني، ولهم كتب كثرية في الفلسفة
والنجوم وغريهما، ولم يصل إلينا منها إلا القليل، مثل كتاب املصاحف السبعة، والفلاحة
النبطية التي هي من أوضاع أهل بابل، ولا يقتصر فيها على مجرد علم الفلاحة كما
يستشعر من اسمها، وإنما النظر فيها للنبات عامة، من جهة غرسه وتنميته، ومن جهة
خواصه وروحانيته، ومشاكلتها لروحانيات الكواكب والهياكل، واملستعمل ذلك كله في
باب السحر، وفيها شيء من أخبار النبط وعبادتهم وعوائدهم. وترجمت الفلاحة النبطية
للعربية، واختصر ابن العوام ترجمتها، واقتصر فيها على فن الفلاحة، من جهة غرس
النبات وتربيته.
فمن أغلب الاحتمالات أن للحرانيني معرفة بالكيمياء، ولا يبعد أن تكون مؤلفاتهم
السريانية دثرت، كمؤلفات اليونان الأولية، التي وضعت بهذا العلم في القرن الثالث للميلاد وما بعده. فإنه ملا تنصرت قياصرة الروم، وحرمت أساقفتهم النظر في العلوم
العقلية، قتلوا العلماء، ونفوهم في الأرض، وأبطل القيصر ثيودوس (٣٧٩م) التعليم في
رومية، وشتت القيصر زينون (٤٨٩م) شمل علماء الرها، وخرب مدرسة النسطوريني
فيها، وأقفل القيصر يوستنيان رواق املشائني من أثينا (٥٢٧م) دار الحكمة، ومهد
ً الفلسفة، فكان القرن الرابع وما بعده إلى القرن السابع شؤما على العلم وأهله، وربما
كانت رسائل كيمياء البيزانتيني — املحفوظة اليوم في مكتبات أوروبا — هي هذا العلم
من املؤلفات الثانوية، التي سمح الدهر ببقائها لهذا العصر.
ولم تزل رسائل الكيمياء مهجورة، ككتب سائر العلوم في جميع العالم املسيحي،
املستولي إذ ذاك على القسطنطينية، وبلاد اليونان والأناضول والشام والجزيرة والعراق
ومصر وإيطاليا، وذلك ملا اقتضاه الأخذ بدين النصرانية، وتعصب القياصرة. ودام كوكب
ً العلم آفلا َ إلى أن بزغت شمس الإسلام، وكان لأهله الظهور الذي لا كفاء له، وابتزوا الروم
َ والفرس ملكهم، واستولوا على الشام ومصر والعراق وفارس، وابتدأ أمرهم بالسذاجة
والغفلة عن العلوم والصناعات، حتى قويت شوكة الدولة، وأخذوا من الحضارة نصيبًا،
وأقبلوا على العلوم العقلية، وترجموا كتبها للعربية عن خمس لغات، وهي الفارسية،
والهندية، والسريانية، واليونانية، والعبرانية. واستخدموا لذلك بادئ الأمر علماء الأقوام
الذين خضعوا لهم على اختلاف مللهم ونحلهم، وقربوهم، وأغدقوا عليهم. وكان الخلفاء
والأمراء يتحرون أربعة أصناف من أصحاب العلوم واملعارف، وهم الحكماء، والأطباء،
والعقلاء ذوو الرأي والتدبري، وذوو املهارة التامة في الصناعات. فأبو لؤلؤة الذي غدر
بعمر (رضي الله عنه) كان من القسم الرابع وكانت بيده عدة صناعات، وسرجيوس
بن منصور — املعروف بسرجون الرومي — خدم ثلاثة خلفاء، وهم معاوية، ويزيد،
وعبد امللك بن مروان، وكان سرجون من العقلاء، وابنه يوحنا الدمشقي من املقربني إلى
الخلفاء، وكان ملروان ابن الحكم طبيب يهودي، يتكلم السريانية، ترجم كتاب هارون
الطبيب، الذي كان من أطباء الإسكندرية على عهد هرقل، واشتهر كتابه في بلاد الشام.
وكان عند الحجاج عامل عبد امللك بن مروان طبيبان، يفهم من اسميهما بأنهما روميان،
وهما «تيادك» و«تيودن».
وابتدأت ترجمة العلوم في خلافة أبي جعفر املنصور — ثاني خلفاء بني العباس
ومؤسس مدينة بغداد — وكان في أول املترجمني ابن املقفع، وكان مجوسيٍّا فأسلم ودخل
في خدمة عيسى بن علي عم السفاح أول خلفاء العباسيني، فكان يستخدمه في الكتابة والإنشاء، فترجم كتاب كليلة ودمنة من البهلوية إلى العربية، وكان هذا الكتاب قد ترجم
على عهد أنوشروان من الهندية إلى البهلوية. وكانت أنظار املسلمني اتجهت نحو علوم
الفرس والسريانيني، فترجموا كتب ماني الحكيم، وكتب ابن ديصان، ثم بعث أبو جعفر
املنصور إلى ملك الروم أن يرسل إليه كتب التعاليم، فبعث إليه بكتاب إقليدس، وبعض
كتب الطبيعيات، واملجسطي لبطليموس، واملنطق لأرسطو، وغريها من كتب اليونان. وفي
سنة ١٥٦ للهجرة جاء إلى دار الخلافة هندي بكتاب «سندهند»، فأنعم عليه املنصور،
وأمر بترجمته إلى العربية، فترجمه املنجم الفزاري، وابتدأ املسلمون يتعلمون منه الحساب
الهندي، وعلم النجوم. وليس هنا محل ذكر الترجمة واملترجمني في الإسلام.
ولعل السابق إلى تحصيل الكيمياء والطب من قريش خالد بن يزيد بن معاوية
ً — حكيم آل مروان، وعالم قريش وربيب مروان بن الحكم — فإنه رغما عن بعده عن
العلوم والصناعات لأنه من الجيل العربي العريق في البداوة، أقبل على تحصيل الطب
والكيمياء، وأخذ عن طبيب من أطباء الدولة الأموية يسمى مريانس، وعن غريه من
علماء الروم والسريانيني، وألف في الكيمياء الرسائل املنقولة عنه، كالرسالة املترجمة إلى
اللاتينية وعنوانها «رسالة في الكلمات الثلاث»، ونقل عنه املشتغلون بالكيمياء كثريًا من
مسائلها، كما كان من أعظم املشجعني على ترجمة كتب الفلاسفة، والنجوم والكيمياء
والطب، من اللغات اليونانية والقبطية والسريانية. وهو أول من جمعت له الكتب وجعلها
في خزانة في الإسلام.
ً ا بفنون الأدب، وفصيحا لسنًا، بل
ً وكان خالد إلى جانب علمه متكلما، متصرفً
ً وشاعرا يقرض الشعر الجيد، ونوادره وحكاياته التي تروى عن فصاحته كثرية ومتفرقة
في بطون كتب الأدب، وقد روي له شعر جيد، قاله حني تزوج من رملة بنت الزبري، أخت
مصعب وعبد الله:
￾ر ￾وام ط￾ا ل￾￾ح￾￾ب￾ه￾￾ا وم￾￾ن أج￾￾ل￾￾ه￾￾ا أح￾ب￾￾ت أخ￾￾وال￾￾ه￾￾ا ك￾ا ￾ل￾￾ب￾
أح￾￾ب ب￾￾ن￾￾ي ال￾￾ع￾ ٍّ
ف￾￾لا ت￾￾ك￾￾ث￾￾روا ف￾￾ي￾￾ه￾￾ا ال￾￾ض￾ج￾￾اج ف￾إن￾￾ن￾￾ي ت￾ن￾￾خ￾￾ل￾ت￾￾ه￾￾ا ع￾ ً￾د ￾م￾ا زب￾ي￾￾ري￾￾ة ق￾￾ل￾ا￾ب￾
ت￾ج￾￾ول خ￾￾لاخ￾￾ي￾￾ل ال￾￾ن￾￾س￾￾اء ولا أرى ل￾￾رم￾￾ل￾￾ة خ￾￾ل￾￾خ￾ً￾الا ي￾￾ج￾￾ول ولا ق￾￾ل￾￾ا￾ب￾
وتلا خالد بن يزيد في العلوم العقلية والكيمياء الإمام جعفر الصادق بن محمد
الباقر بن زين العابدين، بن الحسني بن علي بن أبي طالب — رضي الله عنهم أجمعني.
ً وهذا محتمل لأن الإمام جعفرا كان آية باهرة في العلم، وفريد عصره في المنقول و المعقول،

وقد نبغ من تلامذته الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان ابن ثابت، بعد أن انتظم في
حلقة تدريسه، ونهل من بحر معارفه، حتى قيل بأنه لو لم يكن إمام املذهب، وصاحب
الاجتهاد في املنقول، لكان من أعظم الحكماء والفلاسفة في املعقول. وينسب للإمام جعفر
الجفر، الذي كان مكتوبًا عنده في جلد ثور، ورواه عنه هارون بن سعيد العجلي، رأس
ً الزيدية. فلا يستبعد أن تكون للإمام جعفر معرفة بالكيمياء أيضا، وبغريها من العلوم،
لا سيما وكان جليس أبي جعفر املنصور، وهو أول من أوفد الرسل إلى قيصر الروم
لاستخراج علوم اليونانيني، وانتساخها بالخط العربي. ولم يأخذ الإمام جعفر هذا العلم
عن خالد بن يزيد مشافهة لسبق وفاته في سنة ٨٥ ،ولكنه قرأ كتبه وربما أخذ عن خالد
آخر من أهل املدارك.
جابر بن حيان
هو أبو موسى جابر بن حيان الصوفي، إمام املدونني في الكيمياء التي نسبت إليه، فقيل
لها علم جابر، وكان كأبي حنيفة من تلامذة الإمام جعفر الصادق. اختلف النسابون
في نسبه، فذهب بعضهم إلى أنه حراني من بيت سنان بن ثابت بن قرة، الذي قال فيه
الشاعر:
ه￾￾ل ل￾￾ل￾￾ع￾￾ل￾￾ي￾￾ل س￾￾وى اب￾￾ن ق￾￾رة ش￾￾اف ب￾￾ع￾￾د الإل￾￾ه وه￾￾ل ل￾￾ه م￾￾ن ك￾￾اف
أح￾￾ي￾￾ا ل￾￾ن￾￾ا رس￾￾م ال￾ف￾￾لاس￾ف￾￾ة ال￾￾ذي أودى وأوض￾￾ح رس￾￾م ط￾￾ب ع￾￾اف
ف￾ك￾أن￾￾ه ع￾￾ي￾￾س￾￾ى اب￾￾ن م￾￾ري￾￾م ن￾￾ق ￾اط￾ً￾ا ي￾ه￾￾ب ال￾￾ح￾￾ي￾￾اة ب￾￾أي￾￾س￾￾ر الأل￾￾ط￾￾اف
ي￾￾ب￾￾دو ل￾￾ه ال￾￾داء ال￾￾خ￾ف￾￾ي ك￾م￾￾ا ب￾￾دا ل￾ل￾￾ع￾￾ي￾￾ن رض￾￾راض ال￾￾غ￾￾دي￾￾ر ال￾￾ص￾اف￾￾ي
ً وإليهم انتسب البتاني أيضا، وكلهم أفاضل، اشتهروا بالعلم والفلسفة. وذهب ابن
النديم صاحب الفهرست إلى أن جابر بن حيان من طوس، إحدى مدن خراسان، وأنه
ً من نسل البرامكة، الذين هم من مجوس الفرس، وقال آخرون بأن جابرا عربي الأصل،
من قبيلة الأزد من اليمن، عاش أبوه في الكوفة في أواخر عصر بني أمية، وكان صيدليٍّا،
وبقي يمارس مهنته حتى أوائل القرن الثامن للميلاد، حينما بدأ العباسيون يطالبون
بني أمية بالخلافة، فشايعهم حيان، وأرسلوه إلى طوس لينشر مبادئهم، وهناك ولد
ً جابر. وكيفما كان فجابر ولد مسلما، واستوطن الكوفة، وكانت حاضرة العلم والعرفان في صدر الإسلام. واشتغل جابر بالعلم في أواسط القرن الثاني للهجرة، وأخذ عن أكابر
العلماء، وتصفح كتب القوم، سيما ما يختص منها بالكيمياء والسيمياء والطلسمات
والسحر مثل الفلاحة النبطية ومصاحف الكواكب السبعة، وغريهما، من كتب اليونان
والسريان والهنود والفرس واليهود، وتبحر في جميع أنواع العلوم واملعارف التي كانت
موجودة على عهده في الأمم املختلفة، وجمعها بقوة عقله وشدة ذكائه، وغاص على
الصناعة، واستخرج زبدتها، وألف في الكيمياء والسيمياء والسحر التآليف التي لم يسبق
إليها، وبحث في النجوم والنباتات وسائر العلوم الطبيعية، حتى بلغ عدد مؤلفاته على ما
روي خمسمائة رسالة. وقال ابن خلدون: له في الكيمياء سبعون رسالة، وضعها أثناء
البحث فيها، وسماها بالرسائل السبعينية. وأثنى ابن سينا والرازي وغريهما من أهل
ً العلم على جابر، وعدوه إماما في الطبيعيات، مع مخالفة ابن سينا له في الرأي بانقلاب
َّ املعادن. وجميعهم مدح تآليف جابر، وعدد الكثري منها صاحب الفهرست، ولم يذكر منها
الكاتب جلبي صاحب كشف الظنون إلا «الخالص» و«كتاب الخواص». وروى الهلال
الأغر بأن في املكتبة الخديوية في القاهرة كتابًا اسمه «كشف الأسرار وهتك الأستار»،
وآخر اسمه «إخراج ما في القوة إلى الفعل» و«كتاب الصنعة الإلهية والحكمة الفلسفية»،
وكلها خطية. ويوجد شيء من كتب جابر في مكتبات الأستانة. وفي مكتبات أوروبا كثري
من الكتب العربية املنسوبة لجابر.
وكتب جابر شبيهة بالألغاز كسائر الكتب في هذا العلم، وزعموا أنه لا يفتح مغلقها
ً إلا من أحاط علما بجميع ما فيها، لتوقف فهم الرسائل بعضها على بعض، كمسائل
الهندسة التي لا يفهم أعلاها إلا بعد معرفة املقدمات واملسائل الابتدائية. غري أن هذه
الألغاز مقصودة في كتب جابر لحجب فهمها عن العموم، وقد اهتم الكيميائي برتلو
بما في باريس من كتب جابر، وأشار بترجمتها فترجمت، ووجد أنها تشتمل على مباحث
العناصر الأربعة، وهي النار والهواء واملاء والأرض، وعلى الكيفيات الأربع، وهي الرطوبة
واليبوسة والبرودة والحرارة، كما تشتمل على قاعدتهم في أن بقاء الأجسام على حالتها
الطبيعية يتوقف على موازنة هذه الطبائع. ووجد لجابر رأي، زعم برتلو أنه أخذه عن
ً حكماء اليونان، وهذا الرأي هو أن للمعادن نفس ً ا وجسدا وصفات ظاهرية وصفات
باطنية. فإذا عولج الرصاص ودبر، وزيد في بعض هذه الخواص، ونقص من البعض
الآخر، انقلب الرصاص ذهبًا. فهو يشرح كيفية هذه املعالجة وهذا التدبري، ويبني تركيب
ً الحجر املكرم الحيواني، والحجر املكرم املعدني. وتشتمل هذه الترجمة أيضا على خلاصة منطق أرسطو، وعلى شيء من علم ما وراء الطبيعة، وفيها كلام على الجسم والنفس،
والعرض والقوى التي أبلغ عددها إلى سبعة عشر قوة، وقال بأن كل شيء في الوجود
ً يتركب منها. وتشمل أيضا على خلاصة في علم الطب والتشريح، وعلى كلام في املخ والرأس
والأعصاب والقوة املخيلة والحافظة واملفكرة، وأكثر جابر في هذه الرسائل املترجمة من
ً التوصية بتعلم علم النجوم، وزعم أن هذا العلم لا بد منه في هذه الصناعة، وبحث أيضا
في علم أسرار الحروف، ورتب جداول في قيم أعدادها وبيان خواصها. قال برتلو: وهذا
مذهب قديم، كان عند الحكماء واملنجمني في مصر.
وطار لجابر ذكر في العالم، واشتهر في أوروبا أكثر من اشتهاره في العالم الإسلامي،
وأقبل على كتبه في القرون الوسطى جميع علماء الإفرنج، وترجموا كثريًا منها إلى
اللاتينية، وتغالوا في مدحه والثناء عليه، وعدوه من العقول النادرة التي سمح الدهر بها
مرة. وقال عنه غاردان، أحد علماء الإفرنج في القرن السادس عشر للميلاد: إنه واحد من
العقول الاثني عشر التي ظهرت في الدنيا، وقال غريه من علمائهم في كلامه عن حجر
ً الفلاسفة: ما هذا الحجر إلا مرآة ترى فيها أقسام العقل الثلاثة، فمن ملكها أصبح عاقلا
مثل أرسطو، وابن سينا، وجابر. ومن كتبه املترجمة إلى اللاتينية: «مبادئ علم الكيمياء»
طبع في بال سنة ١٥٧٢م. و«وصية جابر» و«كيمياء جابر» و«مختصر الإكسري الكامل»
و«نهاية الإتقان» و«رسالة الأفدان» وغريها.

بتبع

غير مبريء الذمه نقل الموضوع أو مضمونه بدون ذكر المصدر: منتديات الشامل لعلوم الفلك والتنجيم - من قسم: تواريخ وحوادث


...
....
الصورة الرمزية يناير
يناير
عضو
°°°
افتراضي رد: الكيمياء عند العرب
ابو بكر الرازي
ثم اقتفى العلماء أثر جابر في هذا العلم، ونحوا منحاه، وألفوا فيه رسائل عديدة، وكتبًا
كثرية متنوعة، واشتهر من هؤلاء املؤلفني في املشرق أبو بكر محمد بن زكريا الرازي
(٢٤٠–٣٢٠ه) ولد في الري، وكانت في جوار طهران، وارتحل في طلب العلم إلى العراق،
ُ والشام، ومصر، والأندلس، فارتوى من بحوره، واشتهر بالطب، حتى سِّم َي جالينوس
ً عصره، وحتى قيل: إن الطب كان معدوما فأحياه جالينوس، وكان متفرقًا فجمعه
ً الرازي، وكانت ناقص ُ ا فكمله ابن سينا. وعِّني ً الرازي مديرا للبيمارستان في بغداد، فكان
من أشهر أساتذة مدرستها، وتقلد غريها من الوظائف، وصار طبيبًا للمنصور بن نوح
الساماني، صاحب ما وراء النهر وخراسان.
وكان الرازي يجلس في مجلسه ودونه التلاميذ، ودونهم تلاميذ آخرون، فكان يجيء
الرجل فيصف ما يجد لأول من يلقاه، فإن كان عندهم علم وإلا تعداهم إلى غريهم، فإن أصابوا وإلا تكلم الرازي. وكان كبري الرأس جليل الطلعة، يتهيب الناس مجلسه.
ويروون عن ذكائه وإصابته نوادر كثرية لا محل لها هنا.
وألف الرازي كتبً ً ا كثرية، كبرية الحجم كثرية الفوائد، منها ما هو في ثلاثني مجلدا،
ً ومنها ما هو في عشرة أو خمسة عشر مجلدا، وخلَّف أكثر من مائتي مؤلَّف، لا يزال
باقيًا منها إلى الآن بضعة وعشرون مؤلفً ا، يطول بنا وصفها، وإنما نذكر أشهرها، وهو
كتاب الحاوي في علم التداوي، وهو مترجم إلى اللاتينية، ومطبوع في البندقية، ومنها
كتاب املنصوري، وكان يدرس في باريس. وله في الكيمياء خاصة اثنا عشر كتابًا، منها
كتاب الرد على الكندي في إدخال صناعة الكيمياء في املمتنع، كتاب الإثبات، كتاب الحجر
الأصفر، كتاب في محنة الذهب والفضة وامليزان الطبيعي، وغريها. وتُرجم الكثري من
تآليفه إلى اللاتينية. وبعد أن ذكر في كتابه الحاوي الفوائد التي استفادها علم الطب
من صناعة الكيمياء قال: وأما سر هذه الصناعة في تحول املعادن، فهو من املمكن لا
من املستحيل، ولا يكشف الغطاء عن هذا السر إلا بكثرة التجارب والامتحان، وما أسعد
الإنسان إذا تمكن من رفع طرف هذا الحجاب الذي احتجبت به الطبيعة عنا.
ولم يزل اسم الرازي يذكر في كتب الكيمياء الحديثة، وطريقته مستعملة في
استحضار زيت الزاج، ويسميه الإفرنج حامض الكبريتيك. وقد قدر علماء أوروبا الرازي
حق قدره؛ فقد اتفق أن جامعة باريس الطبية، أرادت في القرن الرابع عشر للميلاد أن
تقوم ببعض ترميمات، وأعوزها املال، فلم تجد من يسلفها املال، إلا بعد أن استودعته
حاوي الرازي مرتني، ولم يقبل املسترهن بشيء ثمني سوى هذا املؤلف.
على أن مؤلفات الرازي ألحقت بصاحبها الأذى، فقد ذكروا في سبب وفاته أنه ألف
كتابًا في الكيمياء، وحمله إلى املنصور الساماني، فلما وصل إلى خراسان قدم الكتاب
إلى املنصور، فأعجبه وشكره، ودفع إليه ألف دينار. ولكنه قال له: أريد أن تخرج هذا
الذي ذكرت في الكتاب إلى حيز الفعل. والظاهر أن الرازي لم يكن يعتقد صحة الكيمياء،
وإمكان تحويل املعادن الخسيسة إلى الذهب والفضة، وإنما كان يؤلف بها الكتب على
ً ما يصفها أصحابها التماسا للمال، فلما طلب املنصور منه هذا الطلب، قال له: إن ذلك
يحتاج إلى املؤن والعدد والعقاقري والدقة في العمل، مما يستغرق نفقات طائلة. فقال
املنصور: كل ما احتجت إليه من الآلات أو العقاقري أو غريها فإني أحضره لك، حتى
تخرج ما ذكرته في كتابك هذا إلى العمل. فلما رأى إصرار املنصور أذعن، ولكنه عجز
ً عن العمل، فقال له املنصور: ما اعتقدت أن حكيما يرضى بتخليد الكذب في كتب ينسبها إلى الحكمة، يشغل بها قلوب الناس، ويتعبهم فيما لا يعود عليهم بمنفعة. ثم قال له:
لقد كافأتك على قصدك وتعبك بما صار إليك من الألف دينار، ولا بد من معاقبتك على
تخليد الكذب. ثم أمر أن يضرب بالكتاب على رأسه حتى يتقطع، ثم جهزه وسريه إلى
بغداد. فكان ذلك الضرب سببًا في نزول املاء في عينيه، وجاءه رجل يداويهما، فقال له
الرازي: كم طبقة للعني؟ قال لا أعلم. فقال لا يقدح عيني من لا يعلم ذلك، ثم قال: قد
نظرت الدنيا حتى مللت فلا حاجة بي إلى عينني.
الفارابي
ممن عاصر الرازي وكتب في الكيمياء واشتغل بها الفارابي، املتوفى سنة ٣٣٩ه. وهو أبو
النصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان. ولد في فاراب، وهي في ما وراء النهر، ولا
يعرف تاريخ ولادته، وتروى حكايات كثرية عن نشأته، ولكن أكثرها مشكوك فيه. روى
ً ابن أبي أصيبعة — في عيون الأنباء — أن الفارابي كان ناطورا في بستان في دمشق،
وكان دائم الاشتغال بالفلسفة، وكان فقريًا، ويستضيء في الليل بالقنديل الذي للحارس،
ثم إنه عظم شأنه.
وأقبل الفارابي على العلم، فتعلم كثريًا من اللغات املتداولة في عصره، كالعربية
والفارسية والتركية واليونانية والسريانية، وطاف بلاد العجم والعراق والشام ومصر،
فأخذ العلم في بغداد عن أبي بشر متى بن يونس، وفي حران عن يوحنا بن حيلان، حتى
صار أعلم أهل زمانه، ووفد على سيف الدولة بن حمدان أمري حلب، فأغدق عليه وبالغ
في إكرامه، وأراد أن يغمره بعطاياه، فامتنع، واكتفى بقبول أربعة دراهم تخصص له في
كل يوم، ولم يقبل سواها. وأقام عنده إلى أن وافته املنية في سياحة من حلب إلى دمشق،
سنة ٣٣٩ هجرية، عن سن يتجاوز الثمانني، ودفن خارج الباب الصغري. وملا توفي تزيا
سيف الدولة بزي صوفي، ورثاه على قبره، ويؤيد هذه الرواية ما نقله ابن أبي أصيبعة،
ً من أن سيف الدولة صلى عليه صلاة الجنازة في خمسة عشر رجلا من خاصته.
وكان الفارابي محبٍّ ً ا للعزلة يصرف أوقاته منفردا تحت ظلال الأشجار، وعلى
مجاري املياه، ويشتغل باملطالعة والتحرير والتأليف، وكان من عاداته أن يحرر مؤلفاته
على أوراق متفرقة، ولذا وجد نقصان وتشويش في كتبه، وأكثر استفادة ابن سينا كانت
من كتب الفارابي. ونقلت عنه في الكيمياء أقوال كثرية، ومن مؤلفاته مقالة في صناعة
الكيمياء والرد على مبطليها. قال ابن خلدون في مقدمته: وأكثر من يعنى بالكيمياء ويقول بصحتها الفقراء من الحكماء، فإن ابن سينا — القائل باستحالتها — كان من علية
الوزراء، ومن أهل الغنى والثروة، والفارابي القائل بإمكانها كان من أهل الفقر، الذين
يعوزهم أدنى بلغة من املعاش، وهذه تهمة ظاهرة في أنظار النفوس املولعة بطرقها،
وانتحالها؛ لأن بعض الوزراء الأغنياء — أمثال الطغرائي — قالوا بصحة الكيمياء،
وإمكان وجودها.
وكان الفارابي ذكي النفس، متجنبًا عن الدنيا، كما رأينا من اكتفائه بأربعة دراهم
في كل يوم، يسري سرية الحكماء، واشتهر بعلو كعبه في الفلسفة واملنطق. واشتغل بكتب
أرسطو. قال: قرأت السماع لأرسطو أربعني مرة وأرى أني محتاج إلى معاودته. وأما في
املنطق فقد جاء في طبقات الأمم أن الفارابي بلغ جميع الفلاسفة في صنعة املنطق، وأربى
عليهم في التحقيق بها، فشرح غامضها، وكشف سرها، وقرب تناولها، وجمع ما يحتاج
إليه منها في كتب صحيحة العبارة لطيفة الإشارة، منبهة على ما أغفله الكندي وغريه،
من صناعة التحليل، وإنحاء التعاليم وأوضح القول فيها عن مواد املنطق الخمس، وأفاد
وجوه الانتفاع بها، وعرف طرق استعمالها، وكيف تعرف صورة القياس في كل مادة،
فجاءت كتبه في ذلك الغاية الكافة والنهاية الفاضلة.
وللفارابي كتب كثرية، أشهرها مبادئ آراء أهل املدينة الفاضلة، وقد طبعت في
ليدن سنة ١٨٩٥ ،وكتاب إحصاء العلوم، وقد ترجم إلى اللاتينية، وله رسالة في املنطق
والتوفيق بني رأيي الحكيمني أرسطو وأفلاطون، وكتب أخرى في الرياضيات والكيمياء
واملوسيقى، متفرقة في مكتبات أوروبا والأستانة.
مسلمة
افتتح املسلمون إسبانيا منذ أواخر القرن الأول للهجرة، وأسسوا فيها دولتهم، واتخذوا
ً قرطبة دارا لخلافتهم، وزينوها بالجوامع واملدارس والقصور، حتى قيل في وصفها:
ب￾￾أرب￾￾ع ف￾￾اق￾￾ت الأق￾￾ط￾￾ار ق￾￾رط￾ب￾￾ة وه￾￾ي ق￾￾ن￾￾ط￾￾رة ال￾￾وادي وج￾￾ام￾ع￾ا ￾ه￾
ه￾￾ات￾￾ان ث￾ن￾ت￾￾ان وال￾￾زه￾￾راء ث￾￾ال￾ث￾￾ة وال￾ع￾￾ل￾￾م أف￾￾ض￾￾ل ش￾￾يء وه￾￾و راب￾￾ع￾￾ه￾￾ا
فكانت بضاعة العلم فيها رائجة، ومدارسها عالية جامعة، وفيها ندوة علمية،
يتقاطر إليها العلماء من جميع الأمصار، ومكتبة عظيمة استوعبت ستمائة ألف مجلد.
ثم انتشر العلم في قرطبة إلى بقية مدن الأندلس، مثل إشبيلية، وطليطلة، ومرسية، وكان
في كل مدينة من هذه املدن مدرسة للطب، وكثري من أفاضل العلماء ومشاهري الحكماء،
وامتاز علماؤها بالتدقيق في املباحث الفلسفية، واستنباط كثري من املسائل العلمية،
فرقصت الأندلس على عهدهم بأكمام الحضارة، وازدهرت فيها العلوم واملعارف، وراجت
سوق الصناعات، وكان للكيمياء حظ وافر من عناية علماء الأندلس، ونبغ في هذه
الصناعة مسلمة بن أحمد املجريطي، ويكنى بأبي القاسم، وينسب ملجريط، التي يقال
لها اليوم مدريد، عاصمة إسبانيا. وقيل: بل ولد في قرطبة في أوائل القرن الرابع للهجرة،
وتوفي سنة ٣٩٨ه. واشتهر في كافة العلوم الطبيعية والرياضية، حتى صار إمام أهل
الأندلس في التعاليم، وهي العلوم الناظرة في املقادير، وهي أربعة: الحساب والهندسة
والهيئة واملوسيقى. وأصبح «إمام الرياضيني في الأندلس في وقته، وأعلم من كان قبله
بعلم الأفلاك، وكانت له عناية بأرصاد الكواكب، وشغف بفهم كتاب بطليموس املعروف
باملجسطي».
ولخص مسلمة كتب من تقدمه، وجمع طرفيها، وكتب في الكيمياء كتابًا سماه
«رتبة الحكيم»، وجعله قرينًا لكتابه الآخر في السحر، الذي سماه «غاية الحكيم»، وزعم
أن هاتني الصناعتني هما نتيجتان للحكمة، وثمرتان للعلوم، ومن لم يقف عليهما فهو
فاقد ثمرة العلم والحكمة أجمع. ولا أدري إن كان لهذين الكتابني اليوم وجود في إحدى
مكتبات الشرق أو الغرب، وهل أحد من علماء الإفرنج عني بترجمتهما ودرسهما أم لا؟
وملسلمة كتاب في الحساب سماه كتاب املعاملات، وآخر في الهيئة سماه اختصار تعديل
الكواكب من زيج البتاني. واشتغل كثريً َّ ا برصد الكواكب، وبني مواقع الكواكب الثابتة،
وأصلح شيئًا من زيج من تقدمه، فقد عنى بزيج الخوارزمي، وقال صاعد الأندلسي
في طبقات الأمم: «وزاد فيه جداول حسنة، على أنه اتبعه إلى خطته فيه، ولم ينبه على
مواضع الغلط منه، وقد نبهت على ذلك في كتابي املؤلف في إصلاح حركات الكواكب،
والتعريف بخطأ الراصدين.
وملسلمة تلاميذ كثريون، اشتهروا بالعلم والفضل، وأنشأ بعضهم مدارس في قرطبة
وفي غريها من مدن الأندلس، منهم الكرماني، وابن الصفار، وابن خلدون. ومن تلامذته
الذين اشتهروا بعلوم الطبيعة على العموم وبعلم الكيمياء على الخصوص أبو بكر بن
بشرون، وأبو السمح الغرناطي، وكلاهما من علماء الأندلس في القرن الرابع والخامس
للهجرة. وللأول رسالة في صناعة الكيمياء، حررها لرفيقه الثاني، وافتتحها بمقدمة في معرفة تكوين املعادن، وتخليق الأحجار والجواهر، وطباع البقاع والأماكن. وملخص
الرسالة مدرج في مقدمة ابن خلدون. قال ابن بشرون في الكلام على ما يسميه الكيميائيون
ً بالبيضة: ولقد سألت مسلمة عن ذلك يوما وليس عنده غريي فقلت له: أيها الحكيم
ً الفاضل، أخبرني لأي شيء سمت الحكماء مركب الحيوان بيضة، اختيارا منهم لذلك
أم ملعنى دعاهم إليه؟ فقال: بل ملعنى غامض. فقلت: أيها الحكيم، وما ظهر لهم من
ذلك من املنفعة والاستدلال على الصناعة، حتى شبهوها وسموها بيضة؟ فقال: لشبهها
ً وقرابتها من املركب، ففكر فيه، فإنه سيظهر لك معناه. فبقيت بني يديه مفكرا لا أقدر
على الوصول إلى معناه، فلما رأى ما بي من الفكر، وأن نفسي قد مضت فيه، أخذ بعضدي
وهزني هزة خفيفة، وقال لي: يا أبا بكر، ذلك للنسبة التي بينهما في كمية الألوان عند
امتزاج الطبائع وتأليفها، فلما قال ذلك، انجلت عني الظلمة، وأضاء لي نور قلبي. وقوي
ً عقلي على فهمه، فنهضت شاكر ً ا الله عليه إلى منزلي، وأقمت على ذلك شكلا هندسيٍّا يبرهن
به على صحة ما قاله مسلمة.» فيظهر لنا من ذلك شدة تحرزهم من إفشاء هذا العلم
وعدولهم عن البيان إلى طريق الإلغاز والإيماء، وملسلمة رسالة في الأصطرلاب ترجمت إلى
ً اللاتينية، كما ترجمت أيضا شروحه على كتاب بطليموس.
وما زال املسلمون في املشرق واملغرب يؤلفون في الكيمياء حتى طما بحرها، وتكلم
فيها من ليس من أهلها، وادعاها كثري من أصحاب الغش، وهم ليسوا على شيء
من العلم ولا من الفلسفة، وإنما هم من املتشبهني بالعلماء. وأشهر حكماء املشرق
املتأخرين الذين ألفوا في الكيمياء الطغرائي، وهو أبو إسماعيل مؤيد الدين ابن علي
الأصبهاني، أكبر فلاسفة القرن السادس وشعرائه، وقصيدته املشهورة بلامية العجم
هي من محاسن الشعر العربي، وشرحها كثري من العلماء، وطبعتها الجوائب، هي
ً وديوانه. وكان الطغرائي وزيرا للسلطان مسعود بن محمد السلجوقي في املوصل،
واشتهر لقبه بالأستاذ. وملا انتصر السلطان محمود على أخيه مسعود السلجوقي سعى
وزيره بالطغرائي، واتهمه بالكفر والإلحاد، فقتل سنة ٥١٣ هجرية. وله في الكيمياء
دواوين ومناظرات مع أهلها، وغريهم من الحكماء. وبعض آرائه وأقواله مذكور في مقدمة
ابن خلدون.
ً وممن ألف في الكيمياء أيضا الإمام فخر الدين الرازي، (٥٤٤–٦٠٦ه) صاحب
التفسري الكبري املسمى مفاتيح الغيب. وهو أبو عبد الله محمد بن عمر التيمي البكري،
ً قرشي النسب، وكان أبوه عاملا خطيبًا، فاشتهر هو بابن الخطيب، وتلقى العلم عن كثري من املشايخ، وارتحل كثريًا في طلب العلم، وتزوج من بنت طبيب من أشهر أطباء
زمانه. وكتبه في العلوم النقلية شهرية، وله في الكيمياء الكتاب املوسوم بالسر املكتوم،
وكتاب في الرمل، ورسالة الجوهر الفرد، وكتاب الأشربة، ومسائل في الطب، وغريها في
الهندسة وبقية العلوم العقلية. وقد ينسبون بعض التآليف في الكيمياء للغزالي صاحب
إحياء علوم الدين، ولغريه من أكابر العلماء ومشاهري الحكماء، مثل البوني وابن العربي،
وجميع املشتغلني بأسرار الحروف وغريها من العلوم السرية والأسرار الخفية، ولكن ذلك
مشكوك فيه.
الكندي
علماء الكيمياء في الإسلام على مذهبني: أحدهما يقول بإمكان كون الذهب والفضة
بالصناعة، ويعتقد بوجود الإكسري الذي يقلب عني املعادن والأحجار إلى املعدنني
الشريفني. والثاني يقول ببطلان ذلك. وكلاهما يشتغل بتركيب الأجسام وتحليلها
وتحضري الأدوية من الجواهر والعقاقري الطبية، وتركيب الأشربة واملعجون وغري ذلك مما
هو مستعمل في الطب. إذ أول ما يلزم لصنعة الطب الاشتغال بالكيمياء. وكذا يشتغلون
بتهيئة أنواع العطر والصبغ، وتعيني خواص املعادن والأحجار، وغري ذلك من تطبيق
علم الكيمياء القديم والحديث.
وأشهر الكيميائيني القائلني بعدم استحالة املعادن الكندي، وهو أبو يوسف يعقوب
بن إسحق بن الصباح بن أشعث الصحابي رضي الله عنه، ابن قيس بن معدي كرب
أمري قبيلة كندة من قبائل العرب. ولد في واسط، في أواخر القرن الثاني للهجرة، وقرأ
ً في البصرة وبغداد، ومهر رغما عن بداوته في كافة العلوم، حتى لقب بالفيلسوف، وهو
أول الفلاسفة. وأبو الحكماء في الإسلام، وكانت له معرفة باليونانية والسريانية، فقربه
املأمون إليه، وأغدق عليه، وكان له نفوذ لدى املعتصم وابنه أحمد. وتآليفه أكثر من أن
تذكر. ومنها يفهم أنه طرق جميع أبواب العلم والفلسفة، وكتب في الكيمياء خاصة رسالة
في التنبيه على خدع الكيميائيني، ورسالة في كيمياء العطر، رسالة في العطر وأنواعه،
رسالة إلى أحمد بن املعتصم باهلل فيما يطرح على الحديد والسيوف حتى لا تنثلم ولا
تكل، رسالة في نعت الحجارة والجواهر ومعادنها وجيدها ورديئها وأثمانها، رسالة في
قلع الآثار من الثياب وغريها. فريى من هذه التآليف أن الكندي اشتغل بأهم فروع الكيمياء، كالكيمياء املعدنية
والكيمياء العضوية والكيمياء الصناعية وكيمياء البيت. ولعل رسالته في قلع الآثار عن
الثياب تشتمل على قليل أو كثري من املواد املستعملة لهذه الغاية في يومنا هذا.
ابن سينا
ومن الكيميائيني القائلني بعدم استحالة املعادن، والذاهبني إلى بطلان علم جابر من
املسلمني الشيخ الرئيس أبو علي حسني بن عبد الله، املعروف بابن سينا، بقراط عالم
الإسلام، وأرسطوطاليسه، وأشهر أطباء العرب، ومن أعظم فلاسفتهم.
كان أبوه من أهل بلخ، فأتى بخارى على عهد نوح بن منصور الساماني، ودخل
في الخدمة، وذهب واليًا لقرية خرميتان إحدى عواصم بخارى، وتزوج بفتاة من تلك
القرية فولدت له صاحب الترجمة. وبعد ميلاده ببضع سنني عاد به أبوه إلى بخارى،
وعني بتربيته. ولم يبلغ ابن سينا العاشرة من عمره حتى كان قد استظهر القرآن، وألم
بجزء صالح من العلوم العقلية والنقلية، ثم بعد ذلك انكب على كتب الحكمة والفلسفة،
فبرع فيها، وطيب نوح ابن منصور الساماني، فشفاه الله على يده. فقربه إليه وأدخله
مكتبته، وكان فيها من نفائس كتب العلم شيء كثري، فطالعها، وطاف البلاد مع والده،
واجتمع بالعلماء الأفاضل، واتصل بالأمري شمس املعالي قابوس بن وشمكري، ثم رحل
إلى داغستان، فأصابه فيها مرض شديد، فأتى جرجان، وحرر كتابه الأوسط املسمى
ً بالأوسط الجرجاني، ثم ذهب إلى الري وقزوين وهمذان، وصار وزيرا لشمس الدولة
مرتني، وذهب بعد ذلك إلى أصفهان ومن ثم إلى همذان فاشتد عليه مرض القولنج،
فمات فيها في رمضان سنة ٤٢٨ هجرية، وهو في الثامنة والخمسني من عمره. وقد دون
تلميذه الجرجاني ترجمته، ونقلت هذه الترجمة إلى اللغة اللاتينية، وافتتحت بها عدة من
مؤلفات الشيخ الرئيس التي نشرت في أوروبا.
وكتب ابن سينا في الطب والحكمة أشهر من أن تذكر، ومنها كتاب الشفاء والنجدة،
والإشارات، والقانون، وقد شرحها وعلق عليها أكثر أطباء الإسلام، وحكمائهم، وترجمت
ً إلى اللغات الأوروبية، وطبعت مرارا. وظل كتابه القانون يشرح في بعض جامعات أوروبا
إلى القرن الثامن عشر للميلاد. ولابن سينا في بطلان الكيمياء والرد على أصحابها رسالة
حررها للشيخ أبي الحسن سهل، وقال فيها ببطلان صنعة الذهب والفضة، وبعدم إمكان
استحالة املعادن بعضها لبعض. وهذه مسألة واحدة من مسائل الكيمياء، وفصل قصري من فصولها الطوال، وأبوابها الكثرية، وله في بقية مسائل الكيمياء أقوال كثرية مذكورة
في الكتب املتقدم ذكرها، وفي غريها من الكتب.
الجلدكي وأبو القاسم
ً إن املصادر التي بني أيدينا تهمل الترجمة لهذين العاملني إهمالا ٍّ تاما، مع أن لكل
منهما أثره العظيم في علم الكيمياء، وذلك بما تركه لنا من مؤلفات كثرية النفع، كبرية
الفائدة. وهما وإن سارا على منهاج من سبقهما من كبار الكيميائيني، وتأثرا في أبحاثهما
وتجاربهما طرق املتقدمني، إلا أن لكل منهما مميزات خاصة، تجعلنا نُعنَى به وندرس
ً مؤلفاته درسا دقيقً ا. فأبو القاسم العراقي الذي ربما عاش في القاهرة في القرن الثالث
عشر للميلاد، ترك لنا عدة مؤلفات تمتاز بأنها تعرفنا اتجاه الفكر الإسلامي في علم
الكيمياء، بعد انتقاله إلى أوروبا بمدة طويلة. وإذا عرفنا أن الفكر الأوروبي في ذلك
العصر، لم يكن قد ابتدأ يؤثر في علماء املسلمني ومفكريهم، اتضحت لنا أهمية أبي
القاسم باملقارنة بينه وبني معاصره روجر باكون، وبذلك يتسنى لنا الاطلاع على ما
أخذه الإفرنج عن املسلمني، ومعرفة ما أضافوه إلى هذا العلم في ذلك العصر.
ففي القرن الثالث عشر للميلاد، كانت قوة الإسلام العظيمة — تلك القوة التي
اكتسح بها العالم، ودوخ املمالك، وثل العروش — قد ابتدأت تضعف وتكل، غري أن تلك
الروح الجديدة — روح العلم والبحث والتحري والاستنباط — التي نشرها علماء الإسلام
في أوروبا، أدت إلى نهضة علمية، وصلت إلى أوج عظمتها بعد مدة وجيزة. وبالرغم من
تقدم علم الكيمياء العملي في ذلك العصر، بقيت آراء أبي القاسم ونظرياته على ما كان
عليه سلفه من العلماء. الذين تقدموه بثلاثة قرون أو أربعة، ولم يكن أبو القاسم يدعم
ً نظرياته بأقوال جابر فقط، بل كان يستشهد بآراء من تقدم جابرا من علماء مدرسة
الإسكندرية. وبالرغم من قيامه بكثري من التجارب في هذا العلم، وظهور آراء في مؤلفاته
تدل على تفكري منطقي سليم، فإنه ظل يتأثر جابر بن حيان، ويتكئ على من شايعه من
علماء املسلمني.
ويختلف املؤرخون في اسم الجلدكي، كما يجهلون تاريخ حياته، فمن قائل إن اسمه
علي، ومن قائل إنه عز الدين أيدمر بن علي. وهو مؤلف كثري من الكتب التي تبحث في
ً العلوم السرية، وخصوصا علم الكيمياء. وله من الكتب املطبوعة كتاب املصباح في أسرار
علم املفتاح، وكتاب آخر اسمه نتائج الفكر في أحوال الحجر. وكل ما يعرف عنه أنه ألف
بعض كتبه في دمشق، والبعض الآخر في القاهرة. ويظهر أثر الجلدكي جليٍّ ً ا واضحا — في تفكريه العميق، وعلمه الواسع — فيما
نسميه بآداب الكيمياء الإسلامية. فإنه على ما يظهر لنا من مؤلفاته، قضى معظم حياته
في جمع كتب الكيمياء، التي استطاع الحصول عليها وتفسريها والتعليق عليها. وقد
ً ا لا ينضب، ومصدرا
أجريت جهوده العظيمة في عصرنا هذا، إذ أصبحت مؤلفاته معينً
مهما لأبحاثنا في علم الكيمياء الإسلامية، ولدراساتنا عن الكيميائيني الإسلاميني. ونلاحظ
ٍّ
ً أيضا من خلال مؤلفاته، أن الجلدكي كان يجري بنفسه تجارب عديدة في هذا املوضوع،
َّدَمه من
َ مع أن القسم الأكبر من مؤلفاته يحتوي على تعليقات وشروح لأعمال م ْن تَقَ
َّ علماء الكيمياء. وعدد له صاحب كشف الظنون عشرات املؤلفات، التي شرح فيها آراء
غريه من العلماء، أهمها شرح شذور الذهب في الإكسري، لأبي الحسن علي بن موسى
الحكيم الأندلسي، وسماه غاية الشذور. قال: قد استوعب فيه جميع الحكمة املطلوبة
والنعمة املرغوبة. وله كتاب البرهان في أسرار علم امليزان، وهو كتاب كبري في أربعة أجزاء
كبار، ذكر فيه قواعد كثرية من الطبيعي والإلهي، على مقدمات أصول القوم، وشرح فيه
كتاب بليناس في الأجساد السبعة، وكتاب جابر في الأجساد، وحل فيه غالب كتب املوازين
لجابر.
أما كتابه نهاية املطلب، فهو تعليقاته على كتاب لأبي القاسم العراقي. ومع أن
ً شروحه لا تزيد عبارات الكتاب إيضاحا، إلا أن عادته الحسنة في كثرة الاستشهاد بأقوال
خالد، وجابر، والرازي، وغريهم من رجال الكيمياء، ونقله عباراتهم الطويلة، مما يزيد
في قيمة مؤلفاته، ويجعلها تزخر باملعلومات القيمة عن الكيمياء الإسلامية. وهنا علينا أن
نتساءل عما إذا كانت تلك العبارات القيمة، والحقائق التي يذكرها في مؤلفاته صادقة،
وعما إذا كان الجلدكي من الذين يوثق بكلامهم، ويعتمد على رواياتهم، أو أننا يجب أن
ننظر إليه بعني الشك، ونقرأ مؤلفاته بكل حذر. ومن دواعي سرورنا أن بعض الكتب
التي ينقل عنها الجلدكي بني أيدينا، ولذلك فإنا نستطيع معرفة مقدار صحة ما نقله
عنها بالرجوع إليها. وبإجراء أمثال هذه املقارنات، نجد أنه حريص على صحة النقل،
وإننا نستطيع أن نأمن جانبه، ونركن إليه، ونعتمد عليه فيما يستشهد به من أقوال
العلماء.
وللجلدكي رأي طريف في التأليف، لا بأس من إيراده. فقد جرت عادة العلماء
والحكماء، أن لا يبسطوا جميع معلوماتهم في مؤلف واحد، بل يفرقوها في كتبهم
املختلفة، قال: «إن من عادة كل حكيم. أن يفرق العلم كله في كتبه كلها ويجعل له من بعض كتبه خواص، يشري إليها بالتقدمة على بقية الكتب، ملا اختصوا به زيادة العلم.»
أما هو فإنه يعتقد أن العالم يجب أن لا يُ ِخفي من علمه شيئًا، إلا إذا كان يبحث في
موضوع الكيمياء. قال: «ومن شروط العلم أن لا يكتم ما علمه الله تعالى، من مصالح
يعود نفعها على الخاص والعام، إلا هذه املوهبة فإن الشرط فيها أن لا يظهر بصريح
ً اللفظ أبدا .

انتقال الكيمياء من العرب إلى الإفرنج
أقدم عمران حققه التاريخ على وجه املعروف من اليابسة، هو العمران الذي كان على
ضفاف الدجلة والفرات والنيل، وعلى سواحل سوريا من الأمم السامية، من الأشوريني،
والكلدانيني، والفنيقيني، واملصريني، وكذا في الأمم الآرية الذين كانوا في بلاد فارس، وعلى
ضفاف السند وضفاف سيحون. ثم اتصل العمران باليونان، ورسخت لهم قدم في العلم
والحكمة، وطار لفلاسفتهم صيت في العالم، وأخذ عنهم الرومان الذين كانوا في روما،
والروم الذين كانوا من القسطنطينية. وكانت الإسكندرية حاضرة علومهم، وكانت لهم
مراكز أخرى للتعليم في بلاد الروم؛ أي في بر الأناضول، وفي الشام، والجزيرة، والعراق،
مثل برغمة ومكتبتها، والرها ومدرستها، ونصيبني، وقنسرين، والحرية، وجنديسابور من
بلاد فارس.
ثم استنار العرب بنور الإسلام، واستولوا على مشارق الأرض ومغاربها، وأحاط
املسلمون بعلوم الأمم السامية، والأمم الآرية، وهذبوا ما أخذوه منها، وزادوا فيه،
وصححوه، وانتشر العلم في جميع البلاد الإسلامية، من سمرقند، فبغداد، فدمشق،
فالقاهرة، فتونس، فمراكش، حتى قرطبة. وملا استقر العلم في الأندلس، وألقى فيها
ً عصاه، وجد سماء صافية وأرضا طيبة، فنبت فيها وأزهر، ونما عوده وأثمر.
وبينما كانت ديار الإسلام في املشرق واملغرب، رافلة في حلل الرفاه والسعادة، راتعة
في بحبوحة الأمن والحضارة، كان الجهل لم يزل ضاربًا أطنابه في ديار الإفرنج، وأهلها
محرومون من النعم، التي يقتضيها استبحار العمران، وتوسع نطاق العلوم. وكان
ً التعصب الديني فيهم شديدا، كما كانت كلمتهم متفرقة، بسبب نظام الحكم الذي كان
ً متبعا في القرون الوسطى. وفي الجملة فقد كان الإفرنج لا يدركون شيئًا من الوسط
الذي كانوا فيه، ولا يفقهون الحق ولا الشرع. وأول شعاع من نور العلم أضاء أفق بلادهم، وإنما انعكس عليهم من شمس علوم الإسلام، التي كانت تتوهج في إسبانيا،
وبيان ذلك أن املسلمني ملا استحكمت حضارتهم في الأندلس، وزخر فيها بحر معارفهم،
واستوطنوا جنوب فرنسا ومعظم سواحل إيطاليا، وجميع جزر البحر الرومي، كثرت
املواصلات بينهم وبني مجاوريهم من الإفرنج، بسبب الحروب والغارات، وعظم الاختلاط
بني الأمتني بسبب أخذ الأسرى، وإرسال السفراء، وكذلك بسبب التجارة ونقل السلع،
فكان الإفرنج يشاهدون بأعينهم ما عليه املسلمون من الرقي والحضارة، فتشوقوا
لاستطلاع أخبار املسلمني ورؤية ديارهم، ليعرفوا سر تقدمهم وسبب حضارتهم، ولكن
كان دون ذلك خوض البحر الرومي، أو قطع عقاب البرينيه، وهي أطول من عقاب
لبنان التي قال فيها املتنبي:
ٍ وع￾￾ق￾￾اب ل￾ب￾￾ن￾￾ان وك￾￾ي￾￾ف ي￾￾ق￾ط￾￾ع￾￾ه￾￾ا وه￾￾ي ال￾ش￾￾ت￾￾اء وص￾￾ي￾￾ف￾￾ه￾￾ن ش￾￾ت￾￾اء
ً ومع ذلك فالحاجز الطبيعي كان بسيطا بالنسبة للحاجز املعنوي، وهو الدين. فقد
ً بلغ التعصب الديني بهم مبلغ ً ا عظيما، حتى كان يحظر رجال الدين على أبناء أمتهم
ً الاختلاط باملسلمني، أو معاملتهم، فضلا عن دراسة كتبهم والإقبال على علومهم، والارتحال
إلى بلادهم، للأخذ من مشايخهم وفلاسفتهم. وداموا على تلك الحال إلى أواخر القرن الرابع
للهجرة. ثم شرع أصحاب العقول النرية، وذوو الأقدام من أبناء أوروبا، يتغلبون على
أمثال تلك املوانع الطبيعية واملعنوية، التي حالت زمنً ً ا طويلا بينهم وبني اقتباس العلوم،
وأخذوا يتكبدون نفقات السفر ومشاق الغربة، وفراق الأهل والوطن، ويتحملون عبث
العابثني ولوم املتعصبني، ويهرعون إلى مدارس الإسلام في قرطبة، ومرسية، وغرناطة،
وطليطلة، كما نهرع نحن اليوم إلى جامعات لندن، وباريس، ونيويورك، وبرلني. وتلقَّى
الإفرنج بهذه الكيفية على مشايخ املسلمني وعلمائهم، أنواع العلوم العقلية والنقلية،
وجميع املعارف الإنسانية. وكان في مقدمة هذا الجيش من العقلاء البابا سلفستر الثاني.
(1 (البابا سلفستر الثاني
ولد جرير سنة ٩٣٠ للميلاد في أورياق الواقعة في جنوب فرنسا، وهي مدينة صغرية،
على مسافة متوسطة بني بوردو ومرسيليا. وكثريًا ما مرت بها جيوش املسلمني في
أوائل القرن الثاني للهجرة، وتجاوزت ما وراء أورياق من البلاد التي تشمل على بواتيه من الغرب، وعلى ليون من الشرق، فكانت مدن كركسون وطولوز وبوردو في قبضة
ً املسلمني، واستولوا أيضا على ما في شمال ليون من املدن، مثل شالون التي على نهر
السون، وأوتون وديجون، وهي على طريق سكة الحديد من باريس إلى مرسيليا. ولكن
ً املسلمني لم يمكثوا طويلا في شمال فرنسا، وإنما استوطنوا جنوبها نحو نصف قرن،
وكانت مدينة نربون من أعظم املدن العامرة باملسلمني، لقربها من ساحل البحر الرومي
والحدود الإسبانية، وكذلك كانت مدينة كركسون، التي تبعد عنها ٥٣ كيلومترًا في الداخل
من جهة الغرب. وكانت املواصلات جارية بني مسلمي هاتني املدينتني، وبني ما في
جوارهما من املدن املتروكة للإفرنج، مثل أورياق التي نشأ بها صاحب الترجمة. وتعلم
جرير القراءة والكتابة في أحد الأديرة باللغة اللاتينية، إذ لم يكن في أوروبا مدارس غري
الأديرة، كما كانت اللاتينية في ذلك العصر لغة العلم والدين، والسياسة لجميع الأقوام
الأوروبية من فرنسيني وإنكليز وأملانيني.
وبعد أن أكمل جرير تحصيل فنون الأدب باللاتينية، ومبادئ العلوم اللاهوتية،
ارتحل في طلب العلم إلى الأندلس، وقطع عقاب البرينيه، وجاور في إشبيلية ثلاث سنني،
وأخذ عن علماء الإسلام علوم الرياضيات والبلاغة والتنجيم، وكذا علم السحر، على ما
رواه مؤرخو ذلك العصر من الإفرنج. قال ماملسبوري املؤرخ الإنكليزي في القرن الثاني
عشر للميلاد: «ملا كان جرير في إسبانيا يقرأ التنجيم والسحر وما شاكلهما من العلوم،
ً التي كان يدرسها علماء العرب، تعلم منهم أيضا منطق الطري — يعني املؤرخ تفسري
ما تخرجه الطيور من أصوات التغريد والصفري وأمثالهما — وتعلم كذلك استخدام
الشياطني، ولا أتكلم عن مهارته في علوم الحساب واملوسيقى والهندسة، التي أدخلها
لفرنسا ...» فبعد تعلم هذه العلوم، لم يترك علم الكيمياء بدون الوقوف على موضوعه،
حيث كان لهذا العلم رواج عظيم في ذلك العصر. وملا عاد جرير إلى بلاد الإفرنج، دخل
سلك الرهبنة، وأقبل على الدرس والتعليم، ونشر العلوم التي أخذها عن املسلمني، فاشتهر
أمره وشاع ذكره.
ً وفي سنة ٩٩٧م أمر الإمبراطور بتعيني جرير رئيسا للأساقفة في مدينة رافن،
وبعد سنتني انتخب للبابوية، فجلس على كرسي بطرس الرسول، وتلقب بالبابا سلفستر
الثاني، وبقي صاحب الأمر والنهي والتحليل والتحريم في العالم املسيحي، إلى أن مات
سنة ١٠٠٤م.
وكان سلفستر الثاني حسن الإدارة، غزير املعارف، وقيل بأنه أول من أدخل لبلاد
الإفرنج الساعة ذات الرقاص، وأرقام الحساب، ولم يزل الإفرنج يسمونها الأرقام العربية، ونسميها نحن الأرقام الهندية، دلالة على أخذنا لها عن الهنود بحق الفتح، وعلى أخذ
الإفرنج لها عنا بطريق التعليم. ويسمونها بالفرنسية «شيفر آراب» فكلمة شيفر chiffre
مأخوذة من كلمة صفر العربية، وكانت تطلق على الرقم، ولم تزل هذه الكلمة تستعمل
في بعض اللغات الأوروبية، فكلمة cipher في الإنكليزية معناها الصفر. فمعنى شيفر
آراب Arabe Chiffre الأرقام العربية. وكان الإفرنج قبل أخذهم هذه الأرقام، يستعملون
أرقام الرومان، وهي حروف تدل على الأعداد، بخلاف الأرقام العربية فإنها تدل بذاتها
على قيمة، وبمنزلتها على قيمة أخرى.
(2 (ترجمة الكتب من العربية إلى اللاتينية
بعد أن قطع البابا سلفستر عقاب البرينيه، وفتح لقومه باب العلوم الإسلامية، دخلوه
طائعني أو مكرهني، وارتحل ملمالك الإسلام كثري من الأقسة والرهابني، اقتداءً بهذا البابا
الحكيم، وأخذوا عن علماء املسلمني، كما أخذ عنهم، واستفاضوا من بحار معارفهم،
وترجموا كتبهم إلى اللاتينية، وانفتح باب الترجمة في العالم املسيحي، كما كان على عهد
املنصور واملأمون في الخلافة العباسية، وصار العقلاء يسعون في طلب العلم من جميع
الجهات. فالعالم إديلار الإنكليزي ارتحل من بريطانيا العظمى إلى الأندلس ومصر، وأقام
في ديار الإسلام من سنة ١١٠٠ إلى سنة ١١٢٠م. وأتقن علوم اللغة العربية، وترجم
مبادئ إقليدس من العربية إلى اللاتينية، قبل أن يعرف اللاتينيون الأصل اليوناني.
وزادت رغبتهم في ترجمة الكتب شيئًا فشيئًا، حتى اجتمع في طليطلة من املترجمني
عدد ليس بقليل. وكانوا سنة ١١٣٠م يرجعون في أمرهم إلى كبريهم الراهب ريمون.
واستمروا يترجمون من اللغة العربية إلى اللاتينية مدة القرن الثاني عشر والثالث عشر
والرابع عشر. ثم صارت تنقل علوم العرب من اللاتينية إلى بقية اللغات الأوروبية، وقد
ذكر الدكتور ليكلرك في كتابه تاريخ طب العرب، أن الكتب العربية التي ترجمت إلى
اللاتينية فقط، تزيد على ثلاثمائة كتاب. فترجموا مؤلفات جابر، والرازي، وابن سينا،
وابن رشد، وأبي القاسم، وغريهم من أكابر علماء الإسلام، وتعلموا منها فلسفة اليونان
وعلوم الأقدمني.
قال جوستاف لوبون فيما ألفه عن املدنية العربية: «إن معرفتنا بعلوم السلف
وحقائق القرون الأولى، كان في الأساس بهمة علماء الإسلام لا بهمة رهبان القرون
الوسطى؛ لأن هؤلاء الرهبان لم يكن لهم في الأصل علم ببلاد اليونان، ولا باللغة اليونانية، وإنما ترجموا كتبهم عن العربية. فالواجب على عالم العلم واملدنية أن يشكر العرب على
استخراجهم هذا الكنز املخفي وحفظه، لا أولئك الرهابني الذين لم يفعلوا إلا ترجمة
الكتب من العربية إلى اللاتينية.» ويجب أن لا ننسى أن هذا عمل ليس بقليل، ويكفي
ً أولئك الرهبان فخرا وشرفًا أنهم أدركوا فوائد العلم، وجاهدوا في سبيل تحصيله ونشره
في بلادهم، وبذلك أنقذوا أوطانهم من غياهب الجهل، ونشروا أنوار العلوم فيها. وبعد
أن اطلع الإفرنج على فلسفة اليونان من كتب العرب، تحولت أنظارهم إلى كتب اليونان
ولغتهم فدرسوها، وافتتنوا بفنون أدبها، وهاموا بأشعارها وخطبها، واستمروا في درسها
إلى يومنا هذا، ولم يرجعوا لدرس الكتب العربية إلا في أواخر القرن الثامن عشر، حيث
ظهر املستشرقون فطبعوا الكتب العربية القديمة، وشرحوها، وعلقوا عليها، وترجموا
كثريًا منها إلى جميع اللغات الأوروبية الحية، مثل الإنكليزية، والفرنسية، والأملانية،
والروسية وغريها. ومن علماء الإفرنج الذين أخذوا الكيمياء عن العرب في القرون
الوسطى ...
ألبري الكبري
ولد سنة ١١٩٣م، وكان أبوه من الأشراف، فأرسله إلى مدينة بادوفة — بجانب البندقية
— لتحصيل العلم فيها. وشهرة بادوفة باملعارف قديمة، ولم يزل فيها مكتبات جامعة
لكثري من كتب الإسلام. وكان بنو الأغلب في إفريقية قد هاجموا جزر بحر الروم وسواحل
إيطاليا، واستولوا على جزر مالطة وصقلية، وسردينية، واستولوا في إيطاليا على بلاد
باري، ونابولي، وأوستيا، وبيزا، وجنوه. وأقاموا في جزيرة صقلية من سنة ٨٢٧م إلى
سنة ١٠٧١م، حينما استردها منهم امللك روجر الأول، وهو والد روجر الثاني، صاحب
الإدريسي. واستبحر عمرانهم في تلك الجزيرة، وزهت بهم مدنها، ثم أغاروا على ساحل
داملاشية، وغزوا فيه ممتلكات البنادقة، وكان فتحهم لبرنديزي سنة ٨٣٦م ولباري سنة
٨٣٩م، وأقاموا في أرض نابولي من سنة ٨٨١ إلى سنة ٩١٦م. واقتربوا من أسوار روما،
فصالحهم البابا على جزية قدرها ٢٥ ألف رطل فضة، كل رطل ثماني أواق، ولم يخرجوا
من سردينية إلا سنة ١٠١٧م. هذا ما افتتحته دولة الإسلام املستقرة في إفريقية. وأما ما
افتتحته دولة الإسلام املستقرة في جزيرة الأندلس غري بلاد إسبانيا، فهو جزائر مايورقة،
ومينورقة، وكورسيكا، كما استولت على القسم الأعظم من فرنسا، واستقرت في القسم الجنوبي منها زمانً ً ا طويلا. ومن مدنها املشهورة أربونة، وطولوز، وكانوا يطلقون عليها
اسم طلوشة، وبوردو وكانوا يسمونها برغشت.
ولم نطل البحث في تعداد هذه الفتوحات وبيان مواقع املدن، إلا لنبني كيفية انتقال
العلم من املسلمني إلى من في جوارهم من املسيحيني. فكانت البلاد واملدن التي تقدم لنا
ذكرها زاهرة بحضارة الإسلام، وكان علماء املسلمني يتجولون فيها، ويذهبون ملا جاورها
من املمالك املسيحية لأجل التعليم والتدريس، فذهب الشريف الإدريسي إلى روجر الثاني
صاحب صقلية، وألف له كتاب نزهة املشتاق في اختراق الآفاق، ونقش له رسم الأرض
على لوح مستدير من الفضة. وفي القرن السابع للهجرة كان أولاد ابن رشد يعلمون
الحيوان والنبات والطب عند خلف روجر املسمى فردريك داراجون، وكان قصر ملكه
ملجأ الحكماء والفلاسفة.
فيفهم مما تقدم ما كانت عليه حالة العلم في تلك العصور، التي ذهب فيها ألبري
الكبري إلى بادوفة، كما يعرف سبب اختياره تحصيل العلم في إيطاليا على ما سواها من
املمالك الأوروبية، التي كانت غارقة في بحار الجهالة. فدرس ألبري الكبري في مدينة بادوفة
كتب الإسلام املترجمة إلى اللاتينية، وتعلم اللغة العربية لتصحيح الترجمة ومقابلتها
بالأصل. وانكب على مؤلفات ابن رشد وابن سينا، وقلد علماء الكلام، ونحا منحاهم،
ً وطبق علم اللاهوت على فلسفة أرسطو. ومما تعلمه أيضا علم الكيمياء والتنجيم والسحر،
فإن درس هذه العلوم في ذلك العصر كان من متممات العلم، وموجبات الكمال. وبعد أن
َّ أكمل ألبري تحصيله جاء باريس سنة ١٢٤٥م. ودرس فيها ثلاث سنوات، وكان الطلبة
والناس يتسابقون إلى استماع درسه، حتى ضاقت بجمهورهم املدرسة، فصار يجلس
للمواعيد في ساحة البلد، ويلقي دروسه تحت السماء، واشتهر في جميع أوروبا، وصار
أوحد علماء عصره في اللاهوت وفي بقية العلوم، وملا طبعت مؤلفاته سنة ١٦٥١م في
ً مدينة ليون، بلغت واحد ً ا وعشرين مجلدا. قال رينان: «علم ألبري كله مأخوذ من كتب
ابن رشد وابن سينا، فهو لم يخرج عن ترجمته كتب العرب واستنساخها.» وعلى كل
فألبري الكبري أول من رفع منار العلم في أوروبا، وفتح لعلماء القرون الوسطى أبواب
البحث والجدل على الأسلوب الذي وضعه علماء الإسلام. وكان له اشتغال بعلوم ما وراء
الطبيعة، وله باع طويل في الطبيعيات والكيمياء. ومن مؤلفاته في ذلك كتاب الأسرار
العجيبة وكتاب الأسرار الصغري وكتاب الكيمياء.

روجر باكون
ومن الكيميائيني الأوروبيني في القرون الوسطى روجر باكون الإنكليزي. ولد سنة
١٢١٤م في إيلشستر وتوفي سنة ١٢٩٤م. قرأ العلم في أكسفورد، ثم أكمل تحصيله في
باريس، وعاد منها إلى وطنه سنة ١٢٤٠م. ولبس صوف الرهبانية، ودخل في طريقة
القديس فرانسوا، واستوطن أكسفورد وتعلم عدا اللغة اللاتينية اللغة العربية ليبحر في
العلم، ويرجع فيه إلى الأصل. وقرأ شيئًا من العبرانية واليونانية. وبعد درس اللغات
درس الرياضيات اقتداءً بالعرب الذين اعتبروها آلة لفهم العلوم. ثم أقبل بعد ذلك
على الاشتغال بالكيمياء والطبيعيات، وإجراء التجارب العديدة فيهما، ونسبت إليه عدة
اكتشافات وآراء، غري أن كثريًا من املحققني مثل العالم سيديو صاحب تاريخ العرب
املطبوع بالعربية، وجوستاف لوبون صاحب كتاب حضارة العرب، وغريهما، يقولون:
إن كثريًا من الاكتشافات والآراء املنسوبة لعلماء الإفرنج، تبني وجودها بعد ذلك في كتب
العرب، وأن الإفرنج أخذوها عنهم، ونسبوها لأنفسهم أو نسبت إليهم.
وقيل: إن روجر باكون أول من أدرك الخطأ في حسابات بطليموس، فأشار بإصلاح
التقويم املعروف بتقويم يوليوس. وعلى كل فهو الذي مهد طريق العلوم الطبيعية أمام
العلامتني الشهريين، غاليليو، ونيوتن، وأوضح كثريًا من املسائل املتعلقة بقوس قزح،
وبانتشار النور والأشعة، وبما يراه الناظر من جسامة قرص الشمس والقمر، عند الطلوع
والغروب في الأفق. ووصف تركيب العني وطبقاتها وأغشيتها وصفً ا مدققً ا، ونسب إليه
عن طريق الخطأ اختراع النظارات املكبرة واملصغرة املسماة تلسكوب وميكرسكوب.
ً وأما في الكيمياء فنسب إليه عن طريق الخطأ أيضا اختراع بارود املدافع، والسبب
في ذلك ما قرءوه في كتبه من الكلام على البارود، وإيضاح تركيبه الكيميائي. ولكن
تبني لهم بعد ذلك أن هذا الكلام مأخوذ من كتب العرب. قال املستشرق الفرنسي رينو،
ووافقه على ذلك أكثر املؤرخني والكتاب: إن الصينيني لم يستعملوا في الصنائع النارية إلا
ملح البارود، وهو الذي يرسب على جدران البيوت واملغارات، التي تكثر فيها الرطوبة.
فالصينيون موجدون للبارود من هذه الجهة، وأما الذي أوجد دقيق البارود املستعمل في
يومنا للقذف بالأجسام الثقيلة، فهم لا الصينيون ولا الإفرنج بل هم العرب. وقد وجد في
كثري من كتبهم كلام على كيمياء البارود، وكيفية اصطناعه، وصورة استعماله في الحرب.
وينقل عن ابن خلدون أن أمري مراكش أبا يوسف، استعمل في حصار صقلية آلة غير املنجنيق، مشابهة للمدافع وذلك سنة ٦٧٢ه. مع أن املؤرخني متفقون على أن استعمال
املدافع في أوروبا لأول مرة، كان سنة ١٣٤٦م في الحرب التي وقعت بني إنكلترا وفرنسا.
وملا كان روجر باكون قريب عهد بعلماء الإسلام، أدرك اصطلاحاتهم وفهم ألغازهم
ً في علم الكيمياء، ولذا كان أقل وسوسة وأكثر تعقلا ممن جاء بعده من الكيميائيني
الأوروبيني، وكان قصده من التحري على الحجر الفلسفي التوصل لإصلاح بعض املعادن،
بواسطة الحرارة والتدابري الكيميائية، وتقليد الطبيعة في تخليقها املعادن، وهذا مقصد
علماء الإسلام من اشتغالهم بهذا العلم. واشتغل باكون بالفلسفة واللاهوت، واجتهد في
حل املسائل التي كانت موضوع بحث القوم في ذلك العصر، مثل مبحث الشكل واملادة،
وحاول حلها بصورة مخالفة لعلم ما وراء الطبيعة، وخارجة عن أصول أرسطو. ومع
ذلك فهو راهب متصلب في دينه، ملازم لتلاوة الكتاب املقدس، وطريقته الفلسفية هي
ً قراءة التوراة والإنجيل في النسخ الأصلية، وفهمها فهما حقيقيٍّا، بقطع النظر عن التراجم
والتفاسري. ومن قواعده أن: «العلم التجاربي لا يتناول الحقيقة مما فوقه من العلوم
العالية، بل هو الحاكم املطلق وغريه من العلوم خدام له.»
وملا شرع باكون في إجراء التجارب الكيميائية، اتهمه الناس بالسحر والشعوذة
وباستخدامه الجن، فأعانه البابا كليمان الرابع، ومكنه من مداومة أعماله وتجاربه،
فازداد حسد أبناء طريقته له، ونقموا عليه، وملا مات كليمان الرابع سنة ١٢٦٨م سعوا
به ورموه بكيدهم، فحكم عليه بالسجن املؤبد، ولم يخل سبيله إلا بعد موت البابا نيقولا
ً الرابع سنة ١٢٩٢م. ولكنه لم يعش طويلا بعد ذلك، ومات في أكسفورد عن عمر يتجاوز
الثمانني.
ومؤلفات باكون كثرية، وجميعها باللاتينية، فمنها مرآة الكيمياء، أعمال الطبيعة
والفن وبطلان السحر، التدبري في تأجيل هرم الشيخوخة وفي املحافظة على حواسنا، وقد
ألف هذا الكتاب وهو في السجن، وبعث به إلى البابا نيقولا الرابع لرييه فوائد مؤلفاته،
وعدم وجود الكفر فيها. ثم هناك مرآة الحساب، رسالة في النظارات، مؤلف جليل باسم
البابا كليمان، وهو أعظم مؤلفاته، وقد قلد في تسميته صاحب كتاب الطب املنصوري.


بصيل فالانتني
ً وهو راهب أيضا، قيل إنه بروسياني، وقيل ألزاسي، وقيل لا بل اسم مفروض لا حقيقة
ً ملسماه، وإنما جعل رمزا عن قوة املاء امللكي؛ لأن معنى بصيل باليونانية امللك، ومعنى
فالانتني باللاتينية القادر، فمعنى الاسم امللك القادر، وهو إشارة إلى املاء امللكي الذي
يذيب الذهب، وهو ملك املعادن عند املتقدمني. فكيفما كانت الحال، قيل بأن صاحب هذا
الاسم أول من استعمل معدن الأنتيموني في معالجة الإسهال، وألف في ذلك رسالة ذكر
فيها خواص هذا املعدن في الإسهال، وتصفية الدم، كما ذكر في هذه الرسالة استحضارات
كيميائية كثرية، مثل روح امللح، ويسمى اليوم حامض كلوريدريك، استخلصه من ملح
ً البحر، ومن زيت الزاج املعروف بحامض الكبريتيك. وذكر فيها أيضا استحضار روح
الخمر باستقطار الخمر، أو البرية، وتصفية الحاصل من الاستقطار على ملح الطرطري
ً املكلس، أي (كربونات البوتاس). كما ذكر أيضا كيفية استخراج النحاس من أحجار
ً الكبريت، بتحويله أولا إلى زاج النحاس (كبريتات النحاس)، بتأثري الهواء الرطب عليه،
ً ثم بتغطيس قطعة من الحديد في هذا املذاب. وذكر فيها أيضا معلومات تامة عن تنفس
الحيوانات. وله رسالة في الأملاح، تشتمل على كثري من العمليات الكيميائية، وله كتاب
سماه «أسرار العالم وطب الإنسان»، كله ألغاز لا يفهم، وله كتاب آخر سماه «مفاتيح
الفلسفة الاثني عشر».
فهؤلاء املتقدم ذكرهم هم مشاهري الكيميائيني الأوروبيني، الذين أخذوا الكيمياء
عن املسلمني في القرون الوسطى، وترجموا كتب العرب إلى اللاتينية. ويوجد كثري غريهم
على شاكلتهم، وكلامهم فيها أجمع على نسق كلام علماء املسلمني، ولهم فيها أشعار
ودواوين باللاتينية، والفرنسية، وغريهما من اللغات الأوروبية، وأسماء كتبهم تدل على
أنها مأخوذة ومترجمة عن العربية.
ليونار تورنايسر
وما برح املنتحلون للكيمياء من الإفرنج يرتحلون في طلبها إلى بلاد الشرق الإسلامية،
ويجوبون أقطارها الشاسعة، حتى القرن السادس عشر للميلاد، وأشهر هؤلاء املرتحلني
في طلبها ليونار تورنايسر، وترجمته من عجائب القصص وفاكهة الروايات. ولد في
بال سنة ١٥٣٠م. واشتغل بالكيمياء، وتوصل إلى تمويه املعادن وتذهيبها، حتى كادت تخفى على بعض النقاد، فانخدع به كثري من الناس واشتروا منه الذهب املموه بسعر
الذهب الخالص، فانتبهت له الحكومة، وأرادت إلقاء القبض عليه، ففر إلى فرنسا، وجال
في مدنها ومدن إنكلترا، واشتهر أمره بالاحتيال، ومهر في تقليد الذهب. ثم عاد إلى أملانيا
سنة ١٥٥٥م، واتصل بدسائسه بالأرشيدوق فرديناد، فحظي عنده بالقبول والإكرام،
وأمده باملال وسريه على نفقته في البلاد، يتحرى فيها على كتب الكيمياء، ويتعلم صناعة
الإكسري الذي فيه السعادة وطول الحياة، فطاف البلاد التي كانت محط رحال املسلمني،
ومظنة وجود كتبهم، مثل إسبانيا، والبرتغال، وإيطاليا، واليونان، واملجر، وكذا أكسفورد
وباريس، ثم ذهب ملصر، والشام، والعراق، وبلاد العرب، واصطحب املسلمني وعاشرهم،
وتحرى فيهم أصحاب املظنة، فلم يقف على حقيقة الإكسري ولا ظفر بصناعته.
ك￾ج￾￾وه￾￾ر ال￾￾ك￾￾ي￾￾م￾￾ي￾￾اء ل￾س￾￾ت ت￾￾رى م￾￾ن ن￾ال￾￾ه والأن￾￾ام ف￾￾ي ط￾￾ل￾￾ه ￾ب￾
غري أنه استفاد فائدة عظمى، من أطباء مصر والشام املسلمني، وتعلم منهم كثريًا
من املسائل الطبية وتراكيب الأدوية، واطلع على ما كان لديهم من العقاقري والبلاكم
والكحل، واملعجون والشراب، وغري ذلك. وبعد سياحة طويلة عاد لأملانيا، ونزل مدينة
فرانكفورت، فوجد فيها أمري براندبورغ، وكانت امرأته مصابة بداء عضال حار فيه
نطس الأطباء، فطببها ونجح في معالجتها، فعينه الأمري طبيبً ٍّ ا خاصا له، وأنشأت له
ً الأمرية زوجته معملا للكيمياء، فاشتغل فيه واصطنع أنواع البلاسم واملعجونات، وصار
يبيعها بأغلى الأثمان للأمراء واملترفني من الرجال والنساء، ويسمي مصطنعاته بأسماء
موهمة، مثل سراب الذهب، وصبغ الذهب، وإكسري الشمس، وغري ذلك، واستخدم في
ً معمله هذا عددا كبريً ً ا من العمال، وأسس فيه مطبعة ومسبكا للحروف، فطبع مؤلفاته
التي استخرجها من كتب الإسلام، ونشر بعضها في أكثر لغات أوروبا، فاشتهر شهرة
عظيمة، حتى صار أحدوثة امللوك والأمراء والأعيان، في جميع العالم الأوروبي. ومما تعلمه
في سياحاته التنجيم والسحر والشعوذة، وكان يوهم الناس بأنه استخدم الشياطني،
فكان يريهم شيطانه في زجاجة، فحصل بذلك على ثروة عظيمة واعتبار زائد. ثم إن
أحد علماء فرانكفورت أظهر حيله وشعوذته، ونشر فيه كتابًا، فغضب عليه الأمري الذي
ً كان يحميه، فأدرك حينئذ الخطر املحدق به، وفر ليلا من برلني سنة ١٥٨٥م. فدخلوا
معمله واكتشفوا أسراره، ووجدوا أن الشيطان الذي كان يريه للناس في زجاجة، عبارة عن عقرب مغموس بالزيوت. فيتضح مما تقدم أن نخبة العلماء من الإفرنج حتى املشعوذين منهم، اغترفوا
الكيمياء من بحر علوم الإسلام، ثم تفرغوا لدرسها وإجراء التجارب فيها، وكانوا
يسرونها لتلامذتهم، ويحرصون على كتمانها وإخفاء كتبها، والإلغاز فيها، على نسق ما
ُّ
تقدم من خبر مسلمة مع تلميذه ابن بشرون. ولم يزل الإفرنج يشتغلون في الكيمياء
ًجيلا بعد جيل، حتى عم انتحالها في القرن الخامس عشر للميلاد، وتداولها الكثري منهم.
غري أنه لعدم رسوخ العلم وانتشار الحضارة فيهم إذ ذاك، أنزلوها من أوج الحقائق
الفلسفية، الذي وضعها فيه علماء الإسلام إلى مستوى الأوهام السخيفة، وأدخلوها في
جملة الأسرار الخفية. وقد علل السبب في ذلك أحد علمائهم في هذا العصر، وهو موسيو
فيكيه الفرنسي، في كتابه املسمى الكيمياء والكيميائيون بقوله: إن أساس التوحيد وبساطة
الاعتقاد في الإسلام، أبعدا عن عقول املنتحلني للكيمياء من املسلمني التورط في مهاوي
ً الخزعبلات والأباطيل. فلما وصلت الكيمياء إلى أوروبا في القرون الوسطى، اتخذت شكلا
ً جديدا، ودخلت فيها أفكار جديدة، فأوصلت بعض املشتغلني بها إلى الاعتقاد بالخرافات
والترهات؛ وذلك لأنهم لم يفقهوا حقيقة املعاني التي ألغز بها جابر ومن تبعه من علماء
املسلمني، فحملوها على ظاهرها، وغاصوا بها في بحار الأوهام، وطاروا في جو الخيالات،
َّ حتى اعتقدوا في الإكسري والحجر الفلسفي خواص لم يقبلها العقل، مثل شفاء جميع
الأمراض وإطالة العمر عن أجله الطبيعي، ودخول صاحب الحجر الفلسفي في عالم
امللكوت، ورفع الحجاب له عما وراء الطبيعة، كما جعلوا في الحجر الفلسفي سعادة
الإنسان في دنياه وآخرته.
قال نيقولا فلامل، وهو من أكابر الكيميائيني في القرون الوسطى، بأن الحجر
الفلسفي طاهر مطهر لحامله من جميع الخطايا، وباعث على الصلاح والطاعة ومخافة
الله. فالذي جرهم إلى هذا هو إلغاز جابر في مؤلفاته، كقوله في بعضها: «آتوني بالأبارص
الستة أشفهم مما بهم.» فحملوا ذلك على ظاهره، وظنوا الإكسري يشفي الأبرص، وما
دروا أن قصده آتوني املعادن الستة أحولها للمعدن السابع وهو الذهب. فهذه الخرافات
لم تظهر إلا في القرن الثالث عشر وما بعده، حينما أوشكت رياح الجهل أن تتلاعب
بنور العلم الإسلامي. وعلماء الكيمياء املعتد بهم في الإسلام، لم يقولوا إلا بخاصة واحدة
للحجر املكرم أو الإكسري، وهي تحويله املعادن كتحويل الرصاص للفضة، والزئبق
للذهب، ويشبهون فعل الإكسري في املعدن بفعل الخمرية في العجني، فهم يساوقون
الطبيعة في عملها، كما يفعل اليوم املشتغلون بعلم التركيب الكيميائي الحديث، وهم ذلك أصحاب رأي علمي، واكتشاف فني، وما على القائل منهم بصحة الكيمياء واملدعي
وجود الإكسري أو الحجر املكرم، إلا إثبات مدعاه، والإتيان بالحجج والبراهني، لتثبت
دعواه ثبوتًا علميٍّا. غري أن هذا املدعي ليس من غرضه إثبات ذلك، بل هو يتخذ هذا
ٍّ الاكتشاف سرا له، ويخفيه، كما يخفي في زماننا أصحاب املصانع واملعامل الأسرار
الصناعية، فلا نرى صاحب معمل في أوروبا إلا ويكتم سر صناعته، فلا يفشي منها إلا ما
لا أهمية له، خوفًا من تقليد الغري له، وكثريً ً ا ما يطلبون من الحكومة امتيازا في انحصار
العمل بمكتشف السر الصناعي.
ثم إن العلم لم يبرهن لهذا التاريخ على أن انقلاب املعادن بعضها لبعض أمر
يستحيل، غري أن أصحاب الكيمياء لم يعثروا إلى الآن في معاملهم وتجاربهم على ما يؤيد
هذا الانقلاب، كما أنه لم يثبت لديهم علميٍّا استحالة هذا الانقلاب، فهم لا يقولون بصحته،
كما يقول جابر وأشياعه، ولا ببطلانه كما يقول الكندي وابن سينا ومن تبعهما. وقد
زعم برتلو الكيميائي الفرنسي، أن الاكتشافات التي اكتشفت في الكيمياء الحديثة، لم
ً تهدم أساس الكيمياء القديمة التي هي علم جابر. ومن القائلني بصحتها أيضا من كبار
العلماء، الفيلسوف الهولندي سبينوزا (١٦٣٢–١٦٦٧م)، املنتمي ملذهب وحدة الوجود،
وكذا الفيلسوف ليبنج (١٦٤٦–١٧١٦م)، فإن كليهما من املعتقدين بإمكان استحالة
املعادن، وبوجود الحجر الكريم.

الصورة الرمزية يناير
يناير
عضو
°°°
افتراضي رد: الكيمياء عند العرب
مذهب المتقدمين في الكيمياء
لا نطمع في تلخيص مذهب املتقدمني في الكيمياء، ولا في تحقيق آرائهم وبيان الجرح
والتعديل فيها؛ لأن ذلك عائد لأربابه املتخصصني لدرس هذا العلم واملتبحرين فيه. وإنما
نذكر منهم من مذهبهم الشيء اليسري، لنبني أن حكماء الإسلام كانوا على جانب من
العلم والتحقيق، لا كما يخالج أفئدة الكثريين من أنهم مجردون عن كل رأي سديد،
وإن كلامهم في الكيمياء خرافات وأباطيل، وقواعدهم فيها وهمية فاسدة، أظهر بطلانها
العلم الحديث. فمن أمعن النظر في كتبهم، وجدهم قد تبحروا في درس عوالم الطبيعة
وحقائق املكونات، وأظهروا من الآراء الفلسفية ما لم يجسر علماء العصر من الإفرنج
ً على أن يهزءوا بها، بل لم يزل كثري منهم يدرسها درسا دقيقً ا، ليستكشف خفاياها،
ويظهر غوامضها؛ لأن النظر في هذه الكتب يحتاج إلى دقة عظيمة، وتيقظ شديد، لجنوح
أصحابها إلى الإلغاز والإبهام فيها على القارئني.
ولم يصل علماء الإفرنج بعد إلى حل رموزها، ولا إلى استخراج جميع كنوزها،
لعدم رسوخهم في اللغة العربية، وعدم وقوفهم على اصطلاحات القوم فيها. ولم يزل
املستشرقون يوسعون دائرة معارفهم في كل سنة عما قبلها. على أن التفريق في هذه
الكتب بني الغث والسمني ليس بالأمر الهني؛ لأن الفريق الأعظم من املدعني معرفة هذا
العلم، واملؤلفني فيه، ليسوا على شيء من الحكمة، وكلامهم في الكيمياء سفسطة لا يعبأ
به، ولا يعول عليه. وأما املتكلمون فيها من الحكماء الذين شهدت لهم مؤلفاتهم بالفضل
وكثرة التحقيق، فلهم نظر فلسفي، هو الذي أدى إلى ما نشاهده من الترقي العصري في
هذا العلم. ولولا قواعد املتقدمني الأساسية لتأخر ظهور الكيمياء الحديثة أحقابًا طويلة.


عالم العناصروعالم الأفلاك
لا يخفى أن الحكماء املتقدمني من أهل الإسلام — وهم الذين نقل عنهم املسعودي في
مروج الذهب، وابن خلدون في مقدمته — يقسمون الوجود كله — أي ما سوى الله
سبحانه وتعالى — إلى قسمني: أحدهما الحسي والآخر ما وراء الحسي، وهو عالم ما وراء
الطبيعة من عوالم الروح والجن والآخرة ... إلخ. ولا كلام لنا الآن على هذا القسم. وأما
الحسي فهو هذه الكرة الأرضية وما أحاط بها من الهواء وما دار حولها من الأجرام
السماوية بحسب مرأى الرائي. ولا نتعرض الآن ملا حققه العالم الفلكي كوبرنيكس
Copernicus من الأصول الجديدة.
وينقسم الحسي عندهم إلى عالم العناصر املشاهدة، وإلى عالم الأفلاك. فالعناصر
أربعة: الأرض، واملاء، والهواء، والنار. والأفلاك تسعة: الفلك الأول وهو أصغرها وأقربها
إلى الأرض للقمر، وهو فوق كرة الهواء. والفلك الثاني فوق الأول لعطارد. والثالث
للزهرة. والرابع للشمس. والخامس للمريخ. والسادس للمشترى. والسابع لزحل. وحيث
لم يروا بآلات رصدهم الضعيفة إلا مجرد الكواكب املذكورة، قالوا بأن في كل فلك — أي
في كل مدار من هذه املدارات أو الأفلاك السبعة — كوكبً ً ا واحدا فقط. ثم فوق الفلك
السابع — وهو فلك زحل — الفلك الثامن، وهو للكواكب الثابتة. ثم فوقه الفلك التاسع
للبروج الاثني عشر. ونصوا على أن هيئة هذه الأفلاك هيئة الأكر بعضها في جوف بعض،
َّ وأشكالها الهندسية مستديرة، وهي أكبر الأشكال وأوسعها. وعرفوا الفلك بأنه نهاية ملا
تصري إليه الطبائع — أي العناصر — فهو بهذا التعريف ما يعبر عنه علماء الإفرنج
بالأثري املنتشر في الفضاء الذي فيه مدارات الكواكب.
ً ثم إنهم يقولون إن عالم العناصر يتدرج صاعدا من الأرض إلى املاء، ثم إلى الهواء،
ً ثم إلى النار متصلا بعضها ببعض. وكل واحد منها مستعد بالقوة إلى أن يستحيل إلى ما
ً يليه صاعد ً ا وهابطا، وقد يستحيل بعض الأوقات بالفعل والصاعد منها ألطف مما قبله
إلى أن ينتهي إلى عالم الأفلاك، وهو ألطف من الكل على طبقات اتصل بعضها ببعض، على
هيئة، لا يدرك الحس منها إلا الحركات فقط، وبها يهتدي بعضهم إلى معرفة مقاديرها
وأوضاعها. والحامل لهم على هذا القول، هو من جهة مشاهدتهم الوجود الحسي على
هذا الترتيب. فالكرة الأرضية يغمر املاء ثلاثة أرباعها تقريبًا، ويعلوها الهواء وفوقه النار
أو النور املنبعث من الشمس. ومن جهة أخرى، مشاهدتهم بعض الأجسام تنقلب من
حالة الجسم الجامد، إلى الجسم السائل، إلى الجسم الغازي، إلى الجسم املحترق. وهذه الاستحالة موجودة في جميع الأجسام بالقوة، ولكنها لم تتحقق بالفعل إلا في بعضها،
بسبب تزايد الحرارة أو تناقصها. فاملاء الذي هو جسم سائل في حاله املعروفة، إذا نزلت
ً درجة حرارته بميزان سنتغراد إلى الصفر، استحال إلى جسم جامد؛ أي صار جليدا. وإذا
ً ارتفعت درجة حرارته وتجاوزت املائة درجة، غلى املاء وتبخر وصار جسما غازيٍّا. فإذا
تحلل هذا الغاز كما في بعض املستنقعات، ظهر فيه جزء محترق يشتعل، كما يشتعل
زيت الزيتون وزيت البترول في املصباح. وكلما عثروا على واسطة لتزييد الحرارة أو
تنقيصها، كثر عدد الأجسام التي تجرى فيها هذه الاستحالة بالفعل. وقد توصلوا إلى
إذابة أشد املعادن قساوة، كالحديد، والبلاتني، برفع درجة الحرارة إلى درجة عظيمة،
كما توصلوا إلى إذابة الأجسام الغازية، مثل الأكسجني، والأزوت بخفض درجة الحرارة
تحت الصفر إلى ما دون ١١٨ درجة للأكسجني، وإلى ما دون ١٤٦ درجة للأزوت. مع
استعمالهم الضغط والتضييق علاوة على التبريد.
ومن لطائف الفكاهات التي حدثت أول ما توصل العلماء إلى تحويل الهواء إلى جسم
سائل، وحفظه في إناء بارد خوفًا من تبخره إذا عرض لحرارة الجو، أن أحد الظرفاء
ذهب يتغدى مع رفيق له في أحد مطاعم باريس املشهورة، فجلس على مائدة الطعام،
وطلب من الخادم أن يأتيه بصحن (بفتيك) وأوصاه بالاعتناء بها، فأحضر له الخادم
ً أحسن قطعة مشوية، وكان ذاك الظريف مستحضرا معه على قليل من الهواء السائل،
فنقط منه نقطة على قطعة اللحم، فيبست من البرودة، فنادى الخادم ووبخه، ثم رفع
قطعة اللحم بالشوكة والسكني، وتركها تسقط في الصحن، فنزلت فيه كأنها قطعة من
حجر وكسرته. فعجب الحاضرون لذلك أشد العجب، ولم يعرفوا السبب. ثم إن ذاك
الظريف وضع من ذلك السائل في شراب رفيقه فبرد، وشرب منه فاستطابه، ولم يمض
عليه بضع دقائق إلا واحمر وجهه، وتفجرت عيناه، وانتفخ بطنه، وسقط من كرسيه
مغشيٍّ ً ا عليه؛ لأن ذلك السائل تبخر في جوفه، وصار جسما غازيٍّا — أي هواءً — واتسع
حجمه، فضغط على جدران معدة الرجل وسبب له تلك الانفعالات.
ثم إن املتقدمني من أهل الكيمياء، لم يقصدوا بالعناصر الأربعة عني الأرض، أو
املاء، أو الهواء أو النار، كما قد يتبادر للذهن. كلا، بل هم يقولون إن كل جسم متكون
لا بد فيه من اجتماع العناصر الأربعة على نسب متفاوتة؛ أي لا بد أن يكون أحد
العناصر غالبًا على الكل؛ إذ لو كانت غري متفاوتة بل كانت متكافئة، ملا تم امتزاجها
على زعمهم. ومن هذا يظهر معنى قولهم: «خذ الحجر الكريم وأودعه القرعة والإنبيق، وفصل طبائعه الأربع التي هي النار والهواء واملاء والأرض.» فكل جسم عندهم مركب
من هذه العناصر الأربعة. فإن كان عنصر الأرض غالبًا في هذا الجسم، كان على هيئة
ً الأرض، أي جامدا صلبًا. وإن كان عنصر املاء غالبً ً ا كان الجسم على هيئة املاء؛ أي مائعا
ًسائلا. وإن كان عنصر الهواء غالبً ً ا كان الجسم على هيئة الهواء، أي غازا. وإن كان
عنصر النار غالبًا كان الجسم على هيئة النار أي محترقًا، إما بالاحتراق الشديد كاشتعال
الفحم وضوء السراج، أو بالاحتراق البطيء كصدإ الحديد، وذلك أن الاحتراق في عرف
ً ا، وهو ينشر نورا وحرارة،
الناس هو أن يتلاشى الجسم املحترق في الهواء شيئًا فشيئً
كاشتعال الفحم، والحطب، وزيت الزيتون، وزيت البترول. وأما في اصطلاح أهل الكيمياء
ً الحديثة، فاحتراق الجسم هو اتحاده بمولد الحموضة املسمى أكسجني. فإن نشر نورا
ً ا شديد ً ا، وإن لم ينشر نورا ولا حرارة سموه احتراقًا بطيئًا، كاتحاد
وحرارة سموه احتراقً
الرصاص، والقصدير والزئبق بمولد الحموضة. هذا قول لافوازيه وأتباعه؛ وأما جابر
وأتباعه فإنهم يحذرون في صناعتهم من النريان املحرقة، فليت شعري هل مرادهم من
ذلك الاحتراق الشديد؟
فعالم العناصر الأربعة وعالم الأفلاك وهو العنصر الخامس عند املتقدمني، هما
بمثابة قول أهل الكيمياء الحديثة بالأجسام البسيطة. فإن علماء الكيمياء الحديثة من
الإفرنج يقسمون الأجسام إلى قسمني: أحدهما بسيط وهو الذي لا يمكن أن يستخرج
ً بالتحليل الكيميائي، إلا نوع ً ا واحدا من املادة مهما يكن املحلل، سواء أكان من الأرواح
الكيميائية، أم الحرارة الشديدة، أم الكهربائية، فيبقى الجسم بعد معالجته بجميع ما ذكر
ً بسيطا، وذلك كالذهب، والفضة، والبلاتني، والقصدير، والحديد، والنحاس، والأكسجني،
والهيدروجني، وغري ذلك. ويبلغ عدد الأجسام البسيطة في يومنا اثنني وتسعني، وكلها
عناصر بسيطة لا سبيل بالصناعة من تحليلها إلى عناصر أخرى، وقلب عنصر منها لآخر.
ً فإذا اتحد نوعان فأكثر من هذه العناصر البسيطة اتحادا كيميائيٍّا سمى الجسم
حينئذ مركبًا، لتركبه من عنصرين فأكثر. وهذه الأجسام املركبة هي جميع ما في الكون
من الأجسام التي ليست ببسيطة. ويقسمون الأجسام البسيطة إلى قسمني: معدن وشبه
معدن. ويقسمون الأجسام املركبة إلى ثلاثة أقسام: حامض، وأساس، وملح. ثم لهم في
تقسيم كل منها وتصنيفها طرق مخصوصة لا حاجة بنا للتعرض إليها.
فقول املتقدمني بتألف الأجسام من العناصر الأربعة — التي هي الأرض واملاء
والهواء والنار — له نظري عند علماء الكيمياء الحديثة؛ وذلك أن علماء العصر من الإفرنج يذهبون إلى أن الأجسام التي فيها الحياة، ويسمونها ذوات الأعضاء، وهي عالم
النبات، وعالم الحيوان، وكذا الأجسام املستخرجة منها، كالنشاء املستخرج من الحبوب،
والسكر املستخرج من نبات قصب السكر، والألبومني املستخرج من بيض الدجاج، وكثري
غريها، ويسمونها الأجسام العضوية — جميع هذه الأجسام مؤلفة تقريبًا من أربعة
عناصر بسيطة: (١ (عنصر الفحم. (٢ (عنصر الهيدروجني وهو مولد املاء. (٣ (عنصر
الأكسجني وهو مولد الحموضة والباعث على الاحتراق. (٤ (عنصر الأزوت وهي العنصر
الأساسي في الهواء. ويسمون هذه العناصر الأربعة العناصر العضوية لتكوينها الأجسام
العضوية. نعم يوجد في بعض هذه الأجسام غري العناصر الأربعة املذكورة شيء قليل من
عنصر الكبريت، أو الفسفور، أو من عنصر الكلور، أو البرومني، أو اليود، ومن عناصر
املعادن، كالحديد، وغريه، ولكن بدرجة طفيفة لا أهمية لها. والعناصر الأربعة املتقدم
ذكرها املسماة بالعناصر العضوية، هي الأساسية، واملكونة لجميع الأجسام العضوية،
وكل جسم منها يتركب من الفحم، ومن عنصر أو عنصرين آخرين، وهي الأكسجني
ً والهيدروجني والأزوت. ويعتبر أيضا علماء العصر من الإفرنج أن الأجسام املعدنية —
أي عالم املعادن وهو ما اشتملت عليه الكتلة اليابسة من كرة الأرض — مؤلفة من
ً العناصر البسيطة، التي اكتشفت الآن، وعددها اثنان وتسعون عنصرا منها الذهب،
والفضة، والبلاتني، والنحاس ... إلخ. فبناءً على قولهم هذا تكون العناصر العضوية
الأربعة املتقدم ذكرها، هي املكونة للهواء املحيط بكرة الأرض، وللماء الغامر ثلاثة أرباع
وجه الأرض، ولجميع الأجسام الحية التي على الأرض من حيوان ونبات، وملا استخرج
من هذه الأجسام الحية من فحم وسكر ونشاء وأمثالها. فالعناصر الأربعة التي يقول بها
جابر، أشبه بالعناصر الأربعة التي يقول بها لافوازيه. فالأرض نظري الفحم، واملاء نظري
الهيدروجني، وهو مولد املاء، والهواء نظري الأزوت، وهو العنصر الأساسي فيه، والنار
نظري الأكسجني وهو مولد الحموضة والباعث على الاحتراق.
وملا كان املتقدمون من حكماء الإسلام، يذهبون إلى أن الجسم املتكون لا بد فيه من
اجتماع العناصر الأربعة، فهذا الجسم املتكون يبتدئ عندهم من املعادن، ثم النبات، ثم
الحيوان على هيئة بديعة من التدريج. فآخر أفق املعادن متصل بأول أفق النبات، وآخر
أفق النبات متصل بأول أفق الحيوان. ومعنى الاتصال في هذه املكونات أن آخر أفق منها
مستعد لأن يصري أول أفق الذي بعده. وبالاختصار فعالم التكوين عند املتقدمني من
حكماء الإسلام، هو بمثابة الأجسام املركبة عند املتأخرين من علماء الكيمياء الحديثة.


مذهبا ابن سينا والفارابي في الكيمياء
إذا تقرر هذا فنقول: إن مبنى الكلام في صناعة الكيمياء عند املتقدمني من حكماء الإسلام
على حال املعادن السبعة املتطرقة، وهي الذهب، والفضة، والرصاص، والقصدير،
والنحاس، والحديد، والخارصني؛ أي التوتية املعدنية، املسمى زينكو من كلمة زنك، Zinc
الإفرنجية. هل كل واحد من هذه املعادن السبعة نوع قائم بنفسه، أو كلها أصناف لنوع
واحد، يختلف كل صنف منها باختلاف خواصه وكيفياته؟
فالذي ذهب إليه أبو علي ابن سينا، وتابعه عليه حكماء املشرق — وهو في الأصل
مذهب الكندي كما علمت، وإنما اشتهر بني حكماء الإسلام بمذهب ابن سينا لوقوف
الشهرة عنده — أن املعادن السبعة املذكورة أنواع متباينة، كل نوع منها قائم بنفسه،
متحقق بحقيقته، ولا سبيل بالصناعة إلى قلب نوع منها إلى نوع آخر. وبنوا على هذا
الرأي إنكار هذه الصناعة واستحالة وجودها. فهذا املذهب شبيه بقول علماء هذا العصر
من الإفرنج، الذين يقسمون الأجسام إلى قسمني: بسيط، ومركب، ويقولون إن املعادن
املذكورة هي من الأجسام البسيطة، كل واحد منها نوع قائم بذاته، متحقق بحقيقته،
ولم يتوصلوا بالصناعة إلى قلب واحد منها للآخر.
والذي ذهب إليه أبو النصر الفارابي، وتابعه عليه حكماء الأندلس — وهو في
الأصل مذهب جابر وخالد بن يزيد، وإنما اشتهر بني حكماء الإسلام بمذهب الفارابي،
لوقوف الشهرة عنده — أن املعادن السبعة املذكورة كلها نوع واحد، وأن اختلافها
إنما هو بالكيفيات، من الرطوبة، واليبوسة، واللني، والصلابة، وبالألوان من الصفرة،
والبياض، والسواد، وبالجلاء املعدني والرونق، وهي كلها أصناف لذلك النوع الواحد.
وبنوا على اتفاقها بالنوع إمكان انقلاب بعضها إلى بعض، لإمكان تبدل الأعراض حينئذ
وعلاجها بالصنعة. فمن هذا الوجه كانت صناعة الكيمياء عندهم ممكنة سهلة املأخذ.
ومن القائلني بهذا املذهب أبو الحسن الأنصاري الأندلسي املتوفى سنة ٥٩٣ه في فاس،
ً ونظم رسالة في الكيمياء، سماها شذور الذهب، وكان حكيم ً ا شاعرا، وله قصيدة طائية
مطلعها:
ب￾￾زي￾￾ت￾￾ون￾￾ة ال￾￾ده￾￾ن ال￾م￾￾ب￾￾ارك￾￾ة ال￾￾وس￾￾ط￾￾ى غ￾ن￾ي￾￾ن￾￾ا ف￾￾ل￾￾م ن￾￾ع￾￾دل ب￾￾ه￾￾ا الأن￾￾ض وال￾خ￾￾م￾ط￾￾ا


وكلهم في هذا املذهب عالة على أبي موسى جابر بن حيان الصوفي، وهو الإمام فيه
على التحقيق، ولكنه لم يشتهر في قومه وبني أبناء لغته كما اشتهر بني الإفرنج الذين
ترجموا شيئًا من كتبه إلى اللاتينية، وقدروه حق قدره.
فهذا املذهب يشبه رأي بعض فلاسفة الكيمياء في عصرنا، وصاحب هذا الرأي يذهب
إلى أن مواد الكون كله إنما تتألف في الأصل من عنصر واحد. ثم باختلاف حركة أجزائه
الفردة، واختلاف ترتيب أوضاعها، تكونت العناصر البسيطة املتقدم ذكرها، وبتركيب
هذه العناصر بعضها مع بعض تكونت الأجسام، التي تتألف منها الأرض وسائر الأجرام.
قول الجابريني بوجود الزئبقية والكبريتية في املعادن
أما سبب اختلاف املعادن بالكيفيات والألوان على زعم جابر وشيعته، فهو ناشئ من
تخلف مقدار الكبريت والزئبق، املوجودين في كل واحد من املعادن السبعة املذكورة.
فالذهب في رأيهم داخله كثري من الزئبق اللطيف، وقليل من الكبريت الصافي. والنحاس
فيه من الزئبق بمقدار ما فيه من الكبريت. وكلاهما في النحاس لم يبلغا الغاية في اللطف
ولا في الصفاء. والقصدير فيه كثري من الكبريت الرديء، وقليل من الزئبق الغليظ وهكذا
... ويدعون أن الكبريت والزئبق الداخلني في جسم كل معدن على قولهم، ليسا هما عني
الزئبق ولا عني الكبريت املشاهدين في مناجم الطبيعة. وإنما الزئبقية في اصطلاحهم هي
العنصر الأصلي في املعادن، والباعث على جلائها وانطراقها؛ أي للخاصة املعدنية فيها.
والكبريتية تدل على العنصر املحترق وامللون. اسمع ما قاله جابر في هذا املبحث:
الشمس (يعني الذهب) تتألف من الزئبق اللطيف، ومن قليل من الكبريت
الصافي الواضح، الذي له احمرار فاتح. وحيث لم يكن لهذا الكبريت لون واحد،
ً بل كان بعضه أغمق من بعض، نشأ عن ذلك أن بعض الذهب أشد اصفرارا
ٍ من بعضه الآخر ... فإذا كان الكبريت غري صاف ً ، غليظا، أحمر، أغبر، وكان
ً ا وأقله غري ثابت، وكان ممزوج ٍ ا بزئبق غليظ غري صاف، بكيفية
أكثره ثابتً
يكون معها الواحد لا أقل ولا أكثر من الآخر، تشكل من هذا املزيج الزهرة
(يعني النحاس) ... وإذا كان للكبريت ثبات قليل وبياض غري ناصع، وكان
ٍ الزئبق غري صاف، وبعضه ثابت وبعضه طيار، ولم يكن له إلا بياض غري
كامل، تشكل من هذا املزيج املشترى (يعني القصدير)

فهذه الجملة منقولة بالحرف عن أصل كتاب جابر املترجم إلى اللاتينية باسم
مختصر الإكسري الكامل. ولا يخفى أنهم يكثرون من استعمال الألغاز والرموز، ولذا
كنى جابر في هذه العبارة عن الذهب بالشمس، وعن النحاس بكوكب الزهرة، وعن
ٍّ القصدير باملشترى، وهلم جرا. وكثريًا ما يلقبون الذهب ألقاب امللوك لاعتبارهم إياه ملك
املعادن. فأول من وضع هذه القاعدة النظرية في تركيب املعادن هو جابر بن حيان
الصوفي.
قول الجابريني بتخليق املعادن في أحشاء
الأرض وانقلابها من طور لآخر
ثم إن لهم قاعدة أخرى أساسية في هذا العلم، وهي قولهم بأن املعادن تتخلق في أحشاء
الأرض، كما يتخلق الجنني في أرحام الحيوانات؛ وذلك أنهم يعتبرون أن كل متكون
من املولدات العنصرية، لا بد فيه من اجتماع العناصر الأربعة على نسبة متفاوتة؛ أي
لا بد أن يكون أحد العناصر، التي هي الأرض، واملاء، والهواء، والنار غالبًا على الكل
كما مر ذكره. ولا بد في كل ممتزج من املولدات العنصرية من حرارة غريزية، هي
الفاعلة لكونه الحافظة لصورته. والحرارة تكون فوق الصفر وتحته. فحرارة الثلج تحت
الصفر، والجسم الإنساني حرارته الطبيعية سبعة وثلاثون درجة ونصف درجة بميزان
ً سنتغراد. فإن زادت الحرارة عن ذلك كان الجسم الإنساني محموما، وإن تجاوزت
الحرارة ٤٣ درجة أسرع إليه الهلاك. ثم إن كل متكون من املولدات العنصرية لا بد من
اختلاف أطواره وانتقاله في زمن التكوين من طور إلى طور، حتى ينتهي إلى غايته. مثال
ذلك الإنسان في طور النطفة، ثم العلقة، ثم املضغة، ثم التصوير، ثم الجنني، ثم الرضيع
... إلى نهايته، ونسب العناصر الأربعة في كل طور تختلف في مقاديرها وكيفياتها، وإلا
لكان الطور الأول هو بعينه الطور الآخر. وكذا الحرارة الغريزية في كل طور مخالفة
للحرارة الغريزية في الطور الآخر. فجميع حكماء الإسلام من املوافقني لجابر واملخالفني
له، يقولون بهذه املقدمات التي ذكرناها، غري أن الجابريني منهم يزعمون أن املعادن
تتشكل في بطن الأرض، كما يتخلق الجنني في أحشاء الحيوانات، ولا يرون فرقًا بني تولد
املعادن وتولد الحيوان والنبات. فالذهب على زعمهم ينتقل في أحشاء الأرض من طور
إلى طور، وينقلب من حال إلى حال، ولا يتم تكوينه في معدنه إلا بعد ألف وثمانني من
السنني من دورة الشمس الكبرى.

قال العلامة بويراف (١٦٦٨–١٧٣٨م): «إن الكيميائيني — يعني جابرا وشيعته
— يذهبون إلى أن جميع املخلوقات تتولد من مخلوقات من نوعها سابقة عليها في الوجود.
فالحيوان يتولد من حيوان آخر سابق عليه في الوجود. والنبات كذلك يتولد من نبات
آخر واملعدن من معدن آخر. ويدعون أن القوة املولدة مختفية في البزرة املكونة للجسم،
وهي التي تفعل في الأجسام الأفاعيل املطلوبة، وتصريها بالتدريج مشابهة للأصل الذي
نشأت منه. وهذه البزور لا تتغري بمفاعيل الطبيعة، ولا تأكلها النريان املحرقة، بل النار
تقوي خاصتها املولدة. فبناءً على ذلك يمكنها أن تتصرف في الجسم املعالج بأسرع ما
يكون، وأن تغري مادة زئبقية إلى معدن من جنسها.»
وقال الحراني: «إن الصبغ كله أحد صبغني. إما صبغ جسد كالزعفران في الثوب
الأبيض حتى يحول فيه، وهو مضمحل منتقض التركيب. والصبغ الثاني تقليب الجوهر
من جوهر نفسه إلى جوهر غريه. ولونه، كتقليب الشجر التراب إلى نفسه، وقلب الحيوان
النبات إلى نفسه، حتى يصري التراب نباتًا والنبات حيوانًا. ولا يكون إلا بالروح الحي
والكيان الفاعل، الذي له توليد الأجرام وقلب الأعيان.» وهم يكنون بالروح عن الإكسري،
وكان الحراني هذا من مشاهري أطباء الإسلام، ارتحل إلى الأندلس، واستوطن قرطبة،
واشتغل بالطب والكيمياء، ورتب دواءً سماه (املغيث الكبري)، وكتم كيفية عمله وما
يشتمل عليه من العقاقري الطبية، فاتفق عليه خمسة من أطباء قرطبة، واشتغلوا مدة من
الزمن بتحليل الدواء، فتوصلوا إلى معرفة ما فيه من الأجزاء، ولكنهم لم يعرفوا مقدار
كل جزء منها، فلما رأى منهم ذلك باح لهم بسر دوائه، وعلمهم تركيب أجزائه، فشاع
استعماله بني جميع أطباء الأندلس، وكان ذلك في أواسط القرن الثالث للهجرة، على زمن
محمد بن عبد الرحمن الخليفة الأموي.
فإذا تقررت هذه القاعدة فهم يقولون: إن املشتغل في الكيمياء إذا عثر على بزرة
معدن من املعادن، تمكن من صوغ هذا املعدن بإضافة بزوره إلى الجسم املعالج. فإذا
ً عثر مثلا َّ على بزرة معدن الذهب أو الفضة — أي على إكسريهما املعبر عنه بالروح
— أضافه إلى الجسم الذي يكون فيه استعداد لقبول صورة الذهب أو الفضة، وحاوله
بالعلاج إلى أن يتم له املراد. فهذه البزور أو الإكسري تفعل في الجسم املعالج على زعمهم،
كما تفعل الخمرية في العجني، أو كما يفيض النور على الأجسام بالصقل والإمهاء، كما
َّعبر بذلك الأستاذ أبو إسماعيل الطغرائي قال:
وإذا كنا قد عثرنا على تخليق بعض الحيوانات مثل العقرب من التراب، والنتن،
ومثل الحيات املتكونة من الشعر، ومثل ما ذكره أصحاب الفلاحة من تكوين النحل إذا فقدت من عجاجيل البقر، وتكوين القصب من قرون ذوات الظلف
ً وتصيريه سكرا بحشو القرون بالعسل، فما املانع إذًا من العثور على مثل ذلك
في الذهب أو الفضة.
فصاحب الكيمياء يحتاج إلى أن يساوق فعل الطبيعة في تخليقها املعادن. ولذا فهو
يتصفح املكونات كلها؛ أي يمتحن جميع الأجسام البسيطة والأجسام املركبة، ويجري
فيها الأعمال الكيميائية، مثل حل الأجسام إلى أجزائها الطبيعية، بالتصعيد، والتقطري،
وجمد الذائب منها بالتكليس، وإمهاء الصلب بالفهر والصلاية وأمثال ذلك. ويعني مزاج
كل جسم وقواه وخواصه وأشكاله. وبعد وقوفه على املادة املستعدة لقبول صورة الذهب
ً يجعلها موضوعا لعمله، ويحاذي في تدبريها وعلاجها تدبري الطبيعة في الجسم املعدني،
وقلبها له من طور إلى طور، حتى تصريه ذهبًا أو فضة. فهو يضاعف القوة الفاعلة —
أي الحرارة الغريزية — ليتم عمله في زمن أقصر من زمن الطبيعة، وهو ألف وثمانون
من السنني على زعمهم؛ لأن مضاعفة قوة الفاعل تنقص من زمن فعله، فإذا تضاعفت
القوى والكيفيات في العلاج كان زمن كون الذهب أقصر من ألف وثمانني سنة بكثري.
ً ولا بد له أيضا من تصور حالات الذهب، ونسب عناصره الأربعة في كل طور من أطواره،
واختلاف الحرارة الغريزية عند انتقاله من حالة لأخرى، ومقدار الزمان في كل طور،
وما ينوب عنه من مقدار القوى املضاعفة، ويقوم مقامه، حتى يحاذي بذلك كله فعل
الطبيعة في املعدن. أو أن يعد لبعض املواد صورة في مزاجها، تكون كصورة الخمرية
للخبز، وتفعل في هذه املادة بالنسبة لقواها ومقاديرها.
ثم إن اعتقادهم بتقلب املعادن في بطن الأرض من طور لطور، وبارتقائها على
رأيهم من حالة النقص إلى حالة الكمال، جعلهم يقسمون املعادن إلى قسمني: ناقص
ُّ وكامل، أو خسيس وشريف. ويقولون بأن تكون املعادن الخسيسة — مثل الرصاص
والقصدير والنحاس — لم يكن فيه الغاية املطلوبة؛ لأن الطبيعة في عرفهم تسعى بإفراغ
ً مصنوعاتها في أكمل قالب، وتجتهد دائما بتوليد الذهب، ولكن الأقدار لا تبلغ الدنيا كل
ً املنى، رغما عما لها من املهارة والدهاء. فيحصل في عملها هذا خطأ، ويتولد معها غري
الذهب من املعادن، إذ تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. قال بعض السالكني طريقة
جابر من الإفرنج، وهو املسمى سلمون:
ينبغي لنا ضرورة أن نقر بأن قصد الطبيعة في توليدها املعادن لم يكن عمل
ً الرصاص، أو الحديد، أو النحاس، أو القصدير، بل ولا الفضة رغما عن كونها قريبة من الكمال، وإنما قصدها عمل الذهب. فهو ابن أمانيها، لأن الصانعة
ً الحكيمة تبغي دائما أن يكون صنعها في أعلى درجة من الإتقان فإذا قصرت فيه
عن رتبة الكمال، وظهر العيب في صنعها، فإنما يحصل ذلك بالرغم عنها. فلا
ينبغي لنا أن نوجه اللوم عليها في ذلك، بل اللوم على حدوث الأسباب الخارجية
... فلذلك يلزمنا أن نعتبر تولد املعادن الناقصة كتولد املسخ والناقص الأعضاء
في الحيوان، فإن ذلك لا يحدث إلا لكون الطبيعة حادت في عملها عن الصراط
املستقيم، فوجدت في طريقها عثرة زلت بها قدمها، وغلَّت يدها عن العمل، فلم
تنصرف في أعمالها على مألوف عادتها. فالعثرة التي زلت بها قدم الطبيعة في
تكوينها الذهب، هي ما تجده من الدرن — أي الوسخ — امللتصق في الزئبق،
بسبب عدم نظافة املكان الذي يستقر فيه الزئبق، ليتحد بالكبريت، ويشكل
ً الذهب، وبسبب رداءة الكبريت املتحد أيضا وشدة قابليته للاحتراق.
ً فاملعادن عندهم تستحيل من حالة لأخرى، والطبيعة على زعمهم تسعى دائما
في إخراج املعادن من حالة النقص والخسة إلى حالة الشرف والكمال. فحالة النقص
هي اتصاف املعادن بالتغري، وحالة الكمال هي اتصافها بعدم التغري؛ أي بالثبات على
مقاومة العوامل الطبيعية. فالحديد، والرصاص، والقصدير، والنحاس، والخارصني،
ِّ وكذا الزئبق، كلها سريعة التغري، ولا ثبات لها على مقاومة العوامل الطبيعية، إذا عرضت
للهواء الرطب واملاء، وتتأثر بالحوامض الكيميائية. ولذا يسرع العطب لسطل الحديد
الذي يستخرج به املاء من الآبار، ولذا نحتاج إلى إرسال الأواني النحاسية للبياض بني
آونة وأخرى، كما نحتاج إلى صبغ حديد الأبواب وقضبان النوافذ؛ لأن جميع ذلك متخذ
من املعادن الخسيسة، كالحديد، والنحاس، والخارصني، الذي يصنع منه مزاريب املياه،
ً ويوضع على سطوح بعض البيوت عوض ً ا عن القرميد، منعا للدلف وتسرب املياه. فجميع
هذه املعادن تتغري وتصدأ. فصدأ الحديد في اللغة وسخه كما ورد في مختار الصحاح.
وفي اصطلاح الكيميائيني في عصرنا هو اتحاد املعادن بالأكسجني، وهو مولد الحموضة.
فإذا صدئ املعدن قالوا باصطلاحهم: تأكسد املعدن. ويسمون الصدأ أكسيد الحديد، أو
الرصاص، أو النحاس. ولذا سميت املعادن املتقدم ذكرها باملعادن الخسيسة، أو الدنيئة،
أو الناقصة، أو غري الثمينة. بخلاف الذهب والفضة فإنهما لا يتغريان بالعوامل الجوية؛
أي لا يصدآن، ولا تذيبهما النار إلا إذا كانت الحرارة في درجة عظيمة كألف درجة
ً سنتغراد أو نيف. ولا تؤثر فيهما الحوامض الكيميائية إلا ما ندر منها. فالذهب مثلا لا يذاب إلا باملاء امللكي، الذي هو عبارة عن «حامض كلوريدريك وحامض أزوتيك» وأما في
ً الزئبق فيمتزج به امتزاج ً ا، ويسمى حينئذ ملغما فمن أجل ذلك أطلق على الذهب والفضة
اسم املعدنني الشريفني، أو الحجرين الثمينني، أو الكاملني، وعززتهما الاكتشافات الأخرية
بثالث هو البلاتني، أو الفضة الأمريكية، وهو يفوق الذهب في هذا الشرف والكمال، ولذا
كان أغلى منه ثمنًا.
َّ أما الذي جرهم إلى القول بأن الطبيعة تدبر الجسم املعدني، وتعالجه قرونًا كثرية،
حتى يصري ذهبًا، فهو ما شاهدوه من الحالات الكثرية والصور املختلفة، التي توجد عليها
شذور الذهب؛ أي حجارتها قبل الغسل والتصفية. فتارة تكون الشذور على هيئة عروق
في أحشاء الأرض وبني طبقاتها الصخرية والرملية، وتارة تكون على وجه الأرض وفي
مجاري الأنهار. فظنوا هذه الحالات الكثرية والصور املختلفة، هي الأطوار التي يتقلب
فيها املعدن من طور لآخر. ولذا قالوا بأن املعادن يستحيل الأخس منها إلى الخسيس،
وهذا يستحيل إلى الشريف، وتنتهي الاستحالات إلى أشرف املعادن وأكملها وهو الذهب
الإبريز؛ أي الخالص. ثم اختلفوا إذا انتهى املعدن إلى هذه الدرجة القصوى من الكمال،
ٍّ هل يبقى مستمر ً ا على هذه الحالة الشريفة أو ينعكس راجعا إلى التراب؟ فاملسألة عندهم
فيها قولان.
قولهم بأن املعادن روح
لا يخفى أن حكماء الإسلام يقولون: إن املعدن يستحيل نباتًا، والنبات يستحيل حيوانًا،
ً والحيوان لا يستحيل إلى شيء هو ألطف منه إلا أن ينعكس راجعا إلى الغلط. ويقولون
ً أيضا إنه لا يوجد في العالم شيء تتعلق به الروح غري الحيوان. والروح ألطف ما في
العالم. ولم تتعلق الروح بالحيوان على زعمهم، إلا بمشاكلته إياها. فأما الروح التي في
النبات فإنها يسرية، فيها غلظ وكثافة، وهي مع ذلك مستغرقة كامنة فيه، لغلظها وغلظ
جسد النبات، ولذلك لم يقدر النبات على الحركة لغلظه وغلظ روحه. والروح املتحركة
ألطف من الروح الكامنة كثريًا؛ وذلك لأن املتحركة لها قبول الغذاء والتنقل والتنفس،
وليس للكامنة غري قبول الغذاء وحده. ولا تجري إذا قيست بالروح الحية إلا كالأرض
عند املاء. كذلك النبات عند الحيوان. ولا يخفى أن مقصودهم بمقايسة الأرض عند املاء
ً هو مقايسة الجسم الصلب السائل، فهم يعتبرون أن للمعادن روحا، ولكن هذه الروح
أغلظ وأكثف من الروح الكامنة في النبات، كما أن روح النبات غليظة وكثيفة بالنسبة
لروح الحيوان املتحركة. فليت شعري ما قصدهم بروح املعدن؟

قولهم بتأثري الكواكب في تكوين املعادن
ثم إنهم يزعمون أن للنجوم تأثريًا على فعل الطبيعة في الجسم املعدني حتى يصري ذهبًا.
ٍّ ولكن هذا التأثري بطيء جدا، ولا يتم إلا في مئات من السنني. فالاعتقاد بتأثري الأجرام
ٍّ العلوية في عالم العناصر قديم جدا، وعليه كان دين أهل بابل الأقدمني.
أما أثر الشمس في عالم العناصر؛ أي في كرتنا الأرضية وفي هوائها، فظاهر، لا يسع
أحد جحده، مثل أثر الشمس في جميع أفعال الحياة وفيما على وجه الأرض من التغريات،
وكذا أثر القمر في املد والجزر. وأما تأثري غري الشمس والقمر من الكواكب فمشكوك فيه.
ولا برهان على صحته، وقد جرت مناقشات عديدة في هذا التأثري بني علماء الفلك وعلماء
التنجيم، ألطفها املناقشة التي جرت على أثر مقالة نشرها العلامة فلاماريون، الفلكي
الشهري في باريس بكثرة مؤلفاته، ومن علماء هذا العصر. وقد جاء في هذه الرسالة أنه
إن كان لغري النريين من الكواكب السيارة والثابتة تأثري على الأرض من جهة الجاذبية
والشعاع، فهذا التأثري بمثابة العدم، ولا حكم له في عالم العناصر. فكلام فلاماريون
ينصت له العلماء، ويثق به الناس أجمعون، إذ هو صاحب الاكتشافات العظيمة في
كوكب املريخ، ولذا دعاه أحد علماء أمريكا كريستوفر كوملبس املريخ. وملا نشر العلامة
فلاماريون هذا الرأي قام عليه املنجمون وسلقوه بألسنة حداد، وشددوا عليه النكري
لإنكاره تأثري الكواكب، وأوردوا من حججهم وبراهينهم ما لا يسعنا التعرض لها هنا
لضيق املقام، ولأن الخوض في مثل هذا البحث خارج عن حدود ما رسمناه لبحثنا هذا.
ففي أوروبا كثري من املنجمني واملعتقدين بأحكام النجوم، وتأثريها في عالم العناصر،
وبمعرفتهم بهذا التأثري قبل حدوثه وإنبائهم عن الغيب على زعمهم ودعواهم. ويقولون
ً ا في غري املد والجزر أيضا. من ذلك أن قص الشعر في أول الشهر القمري
بأن للقمر تأثريً
موجب لتوقيف تساقط الشعر، وأن الجهة املقابلة ملطالع القمر من الأبنية القديمة أسرع
ً انهدام ً ا وأقرب ميلا لتلك الجهة مما عداها، وغري ذلك مما يسخر منه العلم الحديث.
وكاميل فلاماريون املشار إليه من علماء الفلك، الذين يقولون بوجود النفس الإنسانية،
وبأنها جسم لطيف قائم بذاته ومنفصل عن املادة. والذي أداه إلى هذا القول هو التحقيق
والتدقيق الذي أجراه في ٤٣٨ مسألة من مسائل الروح والنفس، وعالم ما وراء الطبيعة،
واستنتج من ذلك هذه النتائج الأربع:
(١ ً (النفس موجودة وجودا حقيقيٍّا ومنفصلة عن الجسد.

(٢ (للنفس خصائص لم تزل مجهولة في نظر العلم.
(٣ (للنفس تأثري وإدراك عن بعد بغري واسطة الحواس البدنية.
(٤ (املستقبل مهيأ من قبل الوقوع، ومعني بالأسباب الداعية لحدوثه. فالنفس يمكنها
إدراك املستقبل في بعض الأحيان.
فهذا العلامة يعتقد بأن النفس مدركة للغيب في بعض حالاتها؛ أي إنها تحس
ببعض الحوادث قبل وقوعها، وهو يقول عندما سأله أحد الصحفيني، إن كان رأى
بنفسه شيئًا من الروحانيات: «كلا مع الأسف. لم تظهر لي ولا روح من أرواح الأحياء
ولا الأموات، وليس لي إحساس قلبي بذلك، ولا أصدق بهذه الأمور إلا بناءً على مشاهدة
الآخرين الذين امتحنتهم واختبرتهم بنفسي.» أي اختبر ما حدث لهم في إدراك النفس
للغيب وفي تأثريها. وهي منفصلة عن الجسد بدون اعتماد في إدراكها على الحواس
الخمس وآلاتها. ولا نطيل الكلام في هذا املوضوع، بل نكتفي بذكر ما قاله أبو القاسم
الرحوي، وكان من شعراء تونس في القرن الثامن للهجرة، من قصيدة نظمها عندما
غلب العرب عساكر السلطان أبي الحسن، وحاصروه بالقريوان، وكثر إرجاف املرجفني،
وتنبؤ املنجمني:
رض￾￾ي￾￾ت ب￾￾ال￾￾ل￾￾ه ل￾ ً ￾ي إل￾￾ه￾ا ح￾￾س￾ب￾￾ك￾￾م ال￾ب￾￾در أو ذك￾￾اء
م￾￾ا ه￾￾ذه الأن￾￾ج￾￾م ال￾￾س￾￾واري إلا ع￾ب￾ادي￾د أو إم￾اء
ي￾￾ق￾￾ض￾￾ى ع￾￾ل￾￾ي￾￾ه￾￾ا ول￾￾ي￾￾س ت￾￾ق￾￾ض￾￾ي وم￾￾ا ل￾￾ه￾￾ا ف￾￾ي ال￾￾ورى اق￾￾ت￾￾ض￾￾اء
ض￾￾ل￾￾ت ع￾ق￾￾ول ت￾￾رى ق￾ ً￾م ￾دي￾ا م￾￾ا ش￾￾أن￾￾ه ال￾￾ج￾￾رم وال￾￾ف￾ن￾￾اء
وح￾ك￾￾م￾￾ت ف￾￾ي ال￾￾وج￾￾ود ط￾ً￾ع ￾ب￾￾ا ي￾￾ح￾￾دث￾￾ه ال￾￾م￾￾اء وال￾￾ه￾￾واء
وهي قصيدة جيدة، وأحسن منها قول أبي العلاء املعري، وله فضل املتقدم لوقوع
وفاته في سنة ٤٤٩ه:
ل￾￾ل￾￾م￾￾ل￾￾ي￾￾ك ال￾￾م￾￾ذك￾￾رات ع￾￾ب￾￾ي￾￾د وك￾￾ذاك ال￾￾م￾￾ؤن￾￾ث￾￾ات إم￾￾اء
ف￾ال￾ه￾￾لال ال￾م￾￾ن￾￾ي￾￾ف وال￾￾ب￾￾در وال￾￾ف￾￾ر ق￾￾د وال￾￾ص￾ب￾￾ح وال￾ث￾￾رى وال￾￾م￾￾اء
وال￾￾ث￾￾ري￾￾ا وال￾￾ش￾￾م￾￾س وال￾￾ن￾￾ار وال￾ن￾￾ث￾￾ـ ـ￾￾رة والأرض وال￾￾ض￾ح￾￾ى وال￾س￾￾م￾￾اء

ه￾￾ذه ك￾￾ل￾￾ه￾￾ا ل￾￾رب￾￾ك م￾￾ا ع￾￾ا ب￾￾ك ف￾￾ي ق￾￾ول ذل￾￾ك ال￾￾ح￾￾ك￾￾م￾￾اء
النثرة اسم لنجمني صغريين يقال لهما أنف الأسد. والقصيدة بديعة، وهي في
اللزوميات.
ماهية الإكسري
تبني مما ذكرناه من املذاهب والآراء، أن السالكني طريقة جابر من أهل الكيمياء، يزعمون
ً أن هناك بزورا تفعل في الجسم فعل الخمرية في العجني، وتقلبه ذهبًا. وهذا ما يعبرون
ً عنه بالإكسري، ويسمونه أيضا الصبغ والحجر املكرم أو الكريم والإفرنج منهم يقولون
له الحجر الفلسفي، أو حجر الفلاسفة، أو الإكسري الكامل، والعلم الأكبر، والعنصر
الخامس. وإذا لم يقلب الجسم املعدني إلا للفضة فقط سموه حجر الفلاسفة الصغري،
والإكسري الناقص، والعلم الأصفر.
واختلفوا في ماهية هذا الإكسري، إلا أن فحول املشتغلني بعلم جابر من مسلمني
وإفرنج يشهدون على وجوده بالفعل لا بالقوة فقط، وعلى مشاهدتهم له واستعمالهم
ً إياه. قال ابن بشرون في هذا املعنى: «ينبغي لطلاب هذا العلم أن يعلموا أولا ثلاث خصال؛
أولها: هل تكون؟ والثانية: من أي شيء تكون؟ والثالثة: كيف تكون؟ فإذا عرف هذه
الثلاث وأحكمها فقد ظفر بمطلوبه، وبلغ نهايته من هذا العلم. فأما البحث عن وجودها
والاستدلال على تكونها، فقد كفيناكه بما بعثنا به إليك من الإكسري.» وهو الذي بعثه
إلى صاحبه أبي السمح تلميذ مسلمة كبري علماء الأندلس. لكن ابن بشرون لم يعرفنا
حقيقة الإكسري وخواصه بصريح العبارة، بل يقول إنه يخرج من الحيوان وينفصل
ً طبائع أربعا؛ أي يمر من حالة الجسم الصلب إلى السائل إلى الغازي إلى النار، وهي
الحرارة والنور. فهو بهذه الأوصاف لم يزل في حيز الخفاء عندنا. وقال ألبري الكبري في
كتابه الكيمياء والفلسفة: «عرفت كثريًا من الأغنياء والرهبان وكبار املوظفني والجهلاء
املقلدين، كلهم أضاعوا وقتهم ونقدهم في البحث عن هذه الصناعة، ولم يظفروا منها
بشيء. ولكن ذلك لم يستوجب فتور همتي، ولا صدني عن مباشرتي، فاشتغلت بكل
اجتهاد وسافرت من بلد لآخر وأنا أقول في نفسي: إن كانت تكون فكيف تكون؟ وإن
كانت لا تكون فكيف لا تكون؟ وبقيت على ذلك إلى أن وصلت إلى معرفة كون استحالة
املعادن إلى الفضة والذهب ممكنة.» فإن دققنا في هذه العبارة املنقولة عن كتاب فيكيه
في الكيمياء والكيميائيني، نجدها عني عبارة ابن بشرون املدروجة في مقدمة ابن خلدون.

وأول من قال بهذه الخصال الثلاث املتقدم ذكرها هو خالد بن يزيد بن معاوية.
وشهد فان هيلمون على أنه رأى الحجر الفلسفي بعيني رأسه، وملسه بيده، قال: «فكان
ً بكفي ثقيلا، ولونه كلون مسحوق الزعفران، وله ملعان كثري.» وشهد غريه عليه أنه جسم
صلب، لونه كلون الياقوت الغامق، شفاف قابل للانحناء، ولكنه ينكسر كالزجاج. وقال
غريه: لونه كلون الخشخاش البري، ورائحته كرائحة امللح البحري. ويقول بعضهم: إنه
كقطع الفحم، والبعض الآخر يقول: لونه كلون الكبريت. فتضاربت أقوالهم وتناقض
كلامهم، ولكنهم في الغالب يصفونه بالتراب الأحمر، ومن هنا شاع على الألسن قولهم:
أندر من الكبريت الأحمر. ويصفون به العلماء فيقولون: فلان هو الشيخ الأكبر والكبريت
الأحمر. ويقال: ذهب كبريت؛ أي خالص. وورد في كتاب خالد بن يزيد الأموي املترجم
إلى اللاتينية باسم «رسالة في الكلمات الثلاث» — ولعلها الخصال الثلاث املتقدم ذكرها
— عبارة تصحح هذه الأقوال، وتزيل التناقض والإشكال. وهذه العبارة هي قوله: «إن
هذا الحجر يجتمع فيه جميع الألوان، فهو أبيض، وأحمر، وأصفر، وأزرق سماوي،
وأخضر ...» أما الإكسري الناقص الذي يقلب إلى الفضة فقط، فيصفونه غالبًا بالبياض
الناصع، ويسمونه الصبغ الأبيض، ولكنهم قلما يبحثون فيه لاتجاه أفكارهم نحو الإكسري
الكامل؛ إذ هو مطمح أنظارهم، ومبتغى آمالهم، وغاية أعمالهم.
ً وقد ينسبون إلى هذا الإكسري أفعالا عجيبة، كخاصة الدواء الشافي لكل داء. روى
لنا جابر عن نفسه هذه القصة، وهي تؤيد ما ذهب إليه الكيميائيون من وجود هذه
الخاصة في الإكسري، قال: «كان ليحيى بن خالد البرمكي جارية، يضرب بها املثل في
الجمال والذكاء، وكان يحبها كثريًا، فمرضت ذات يوم، واشتد بها املرض حتى كان يودي
ً بحياتها. فأرسل يحيى إلي رسولا ً يستشريني في الأمر، ويطلب لها علاجا، ولم أكن رأيت
ً الجارية من قبل، ولا عرفت سبب مرضها لأصف لها العلاج. فظننت أن بها تسمما،
ً فأشرت عليه باستعمال املاء البارد فلم يجد ذلك نفعا. ثم أشرت بعدها بالدلك فلم ينفع
ً ذلك أيضا. وأخريًا دعاني يحيى إلى بيته لأرى الجارية، وأصف لها الدواء. فذهبت إلى
ً بيته ومعي الإكسري، وأعطيتها منه جرعة صغرية فشفيت بإذن الله، وفرح يحيى فرحا
ً عظيما، وأجازني على ذلك.»
هذه هي زبدة آراء الكيميائيني في القرون الوسطى، وخلاصة الأقوال التي تبنى
عليها صناعتهم، وتدور عليها مباحثتهم، ذكرناها دون مناقشة فيها، ليعلم أن السالكني
طريقة جابر ليسوا مجردين عن العلم والتحقيق، وليست صناعتهم صرف وهم وخيال.

نعم إن الإكسري لم يوجد للآن، ولا علمت حقيقته، ولا توصل أحد من أهل الكيمياء
الحديثة إلى إثبات كون الذهب مركبًا من عنصر آخر غري عنصره البسيط، ولكن الجميع
ً يعلمون أن للسالكني طريقة جابر قواعد علمية، ونظرا فلسفيٍّا في املكونات، هو الذي
أدى إلى اكتشاف الكيمياء الحديثة، وإلى وضع قواعدها؛ لأن الفكر البشري لا بد له من
أن يتسلسل في املسائل، ويرتقي في الإدراك درجة فدرجة، حتى يصل إلى نقطة الأوج
ً والكمال. سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا. فوجود علم جابر كان ضروريٍّا
لوجود علم لافوازيه، لتوقف وجود الثاني على وجود الأول.

الصورة الرمزية يناير
يناير
عضو
°°°
افتراضي رد: الكيمياء عند العرب
اكتشافات المسلمين في الكيمياء الحديثة
هذا الباب هو من أهم ما ورد في هذه الرسالة؛ إذ هو الغاية من الكيمياء والنتيجة
الصحيحة التي أنتجها علم جابر. ولكن الإحاطة بجميع ما اكتشفه املسلمون في الكيمياء
الحديثة متعسرة، بل وربما كانت متعذرة؛ لأن الكتب الإسلامية ضاع أكثرها ودثر.
فمنها ما أغرق في دجلة حينما دخل هولاكو بغداد، ومنها ما أحرق في الأندلس حينما
استردها الإسبان، ولم تزل النكبات تتوالى على ما بقي من تآليف املسلمني في مكتبات
الخواص من ذوي البيوت القديمة، أو في مكتبات الجوامع واملدارس العمومية، حيث
كانت عادة العلماء املتقدمني في الغالب أن يجعلوا مؤلفاتهم في أوراق متفرقة، وكراريس
غري محبوكة، يضعونها في محفظة من الجلد. وعلى مر الأيام وكر الأعوام اختلط بعض
الأوراق ببعض، وصارت (دشتًا) متفرقًا، لا يعرف لها أول ولا آخر. ثم إن كثريًا من
هذه الكتب لم يعن بها العناية التامة، فطمستها الرطوبة ورعت في جوانبها الأرضة،
ولذلك تلف ولم يزل يتلف من تلك املؤلفات الثمينة أكثر مما أغرق في بغداد أو أحرق في
الأندلس.
هذا ولا يزال هناك مؤلفات كثرية مبعثرة في أنحاء العالم، وهي في طي النسيان
لم تمتد إليها يد، لوجودها بني يدي أفراد لم يتيسر لهم نشرها على العالم، أو
طبعها للاستفادة منها. وأمثال ذلك كثري؛ فاملستشرقون في هذا العصر ما يزالون
يواصلون البحث، وينفقون الأموال الطائلة، ويقضون السنني الطويلة لاستخراج الكتب
من املكتبات املندثرة، أو الحصول عليها بجميع الوسائل املمكنة، ونفض الغبار عنها،
ومقابلتها، وتصحيحها، وطبعها، وترجمتها، والتعليق عليها، والاطلاع منها على مختلف
العلوم والفنون، والوصول منها إلى النتائج الصحية لتلك العلوم. ولو أخذنا نعدد أسماء
الكتب التي استخرجت وطبعت في مختلف املوضوعات لطال بنا البحث، وبحسبنا أن نذكر أن تمبكتو — وهي املدينة التي كانت تعد في أقصى املعمور من الأرض — بعد أن
افتتحها الفرنسيون وجدوا بها مكتبة عظيمة وكتبًا قيمة، فجاءوا بها إلى باريس. وقد
استخرج منها املستشرق الفرنسي املسيو هوداس كتابًا لطيفً ا عنوانه «تاريخ السودان»،
وطبعه سنة ١٨٩٨م. ومؤلف هذا التاريخ هو الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله السعدي،
وقد ذكر فيه ملوك السودان، ومدينة تمبكتو، ونشأتها، ومن ملكها من امللوك، وذكر
العلماء والصالحني الذين توطنوا فيها، وغري ذلك من الأخبار والفوائد إلى سنة ١٠٦٥ه.
فيفهم من ذلك أن السلف الصالح من املسلمني لم يهملوا شيئًا، ولم يغادروا صغرية
ولا كبرية من مسائل العلم إلا قيدوا أوابدها، ووضعوا فيها الرسائل واملؤلفات العديدة.
وكثرة كتبهم تفوق الحصر؛ فمنها ما انعدم اسمه ورسمه كالذي أغرق وأحرق، ومنها
ً ما خفي علينا وجوده كالذي بقي في خزائن الكتب مهملا ً ، ومنها ما بقي اسمه مذكورا
وذهب مسماه، كالكتب التي وردت أسماؤها في كتاب الفهرست لابن النديم، وفي كتاب
كشف الظنون للكاتب جلبي املشهور بالحاج خليفة، وفي غريهما من الكتب، ولم يجد
ً علماء زماننا لهذه الكتب أثرا ولا في مكتبة من مكتبات الشرق والغرب، ومنها ما فقد
أصله العربي، ولم تبق إلا ترجمته اللاتينية أو العبرانية، أو غريهما من اللغات. مثال ذلك
كتاب «نهاية الإتقان» و«رسالة الأفران» و«رسالة في الكلمات الثلاث» لخالد بن يزيد،
وجميعها باللاتينية. وبعض كتب ابن رشد بالعبرية، وهي محفوظة في املكتبة الأهلية
َّ في باريس، ونحو ذلك. فإن السلف الصالح جد واجتهد وخلَّ ً ف لنا كنوزا، أضعناها ولم
نحافظ عليها.
ً ￾￾ا ذه￾￾اب ال￾￾ص￾￾ال￾ح￾￾ي￾￾ن م￾￾ع￾￾ا ون￾￾ح￾￾ن ب￾￾ع￾ ُ￾م ￾ده￾ ف￾￾ي الأرض ق￾￾ط￾￾ان
ي￾￾ك￾ف￾￾ي￾￾ك ح￾￾زنً
فيتضح من ذلك أن كتب الكيمياء كثرية لإقبال الناس على هذه الصناعة وعنايتهم
بها. ومنها ما هو مستقل بالتأليف، ومنها ما هو مندمج في غريه من املؤلفات، مثل كتاب
الوشي املصون واللؤلؤ املكنون في علم الخط، الذي بني الكاف والنون، ذكره العالم املحقق
أحمد زكي باشا في رسالته موسوعات العلوم العربية، قال: وهو عبارة عن مجلدات
ً كثرية في علم الجفر والحروف، أورد فيه مؤلفه ستمائة وثلاثة وعشرين علما. وصاحب
هذا الكتاب رجل اسمه أحمد بن محمد، صنفه للملك املظفر: فليت شعري من هو أحمد
بن محمد، ومن هو امللك املظفر؟ سوف يعرفنا املستقبل بهما. ونظري هذا كتاب العلم
املخزون في علم الخواص، وهو مجلد على أجزاء مشتمل على ثلاثمائة كتاب كما قيل، ومثله عيون الحقائق وكشف الطرائق، ذكروه في الجفر، وهو على ثلاثني بابًا، كل باب
في علوم غريبة. وكذا الغيث املنسجم في شرح لامية العجم للصفدي، فإنه أفاض في
ذكر العلوم العربية والفلسفية، وأتى بلمع وافية من علم الكيمياء ومن علم الأفلاك؛ لأن
الطغرائي صاحب اللامية من أئمة هذا الشأن، مع ما له من اليد الطولى في فنون الأدب
وشجون العجم والعرب، وما هو عليه من جلالة القدر وأبهة الوزارة. وذكر الصفدي
في شرحه هذا شيئًا كثريًا، على طريق الاستطراد، فصار الكتاب مشحونًا بغرائب الجد
والهزل. وعلى هذا الشرح حاشية. وفي رسائل إخوان الصفا أبحاث في املعادن وتكوينها،
ً ومن ذلك أيضا كتب املجربات، وهي كثرية.
فجميع هذه الكتب تشتمل على مسائل كثرية وفوائد مهمة في علم الكيمياء، والإحاطة
بجميع هذه املؤلفات متعذرة كما رأينا، وقد علمنا أن فهم الرسالة الواحدة من رسائل
ً جابر مثلا يتوقف على الإحاطة بجميع ما في رسائله السبعني، فكيف يتيسر لنا جمعها،
وهي إن لم يفقد أكثرها فما بقي منها مشتت في جميع جهات الكرة الأرضية. واملتحري
عليها ينبغي أن يبتدئ من مكتبة إسكوريال في إسبانيا، ويتعقب املكتبات الإسلامية
واحدة واحدة، حتى ينتهي منها جميعها، وهذا عمل فيه من املصاعب ما لا يخفى على
أحد.
هذا ما كان من أمر كتب الكيمياء الإسلامية، وأما ما احتوت عليه هذه الكتب
ً فاملظنون أيضا بأنه شيء كثري؛ لأن قاعدتهم الأساسية تلجئهم إلى فحص جميع العناصر
واملكونات، وتعيني أمزجتها وقواها. ولذا لم يتركوا شيئًا بدون أن يجروا فيه تجاربهم،
واتصلوا بذلك لأغرب املجربات، منها ما نقل عن مسلمة املجريطي، وهو وإن كان غريبًا
لا يقبله العقل فإنا نورده على سبيل التفكهة. ذكر مسلمة في كتابه غاية الحكيم: أن
آدميٍّ ً ا إذا جعل في دن مملوء بدهن السمسم ومكث فيه أربعني يوما يغتذي بالتني والجوز،
حتى يذهب لحمه ولا يبقى منه إلا العروق، وشئون رأسه، فيخرج من ذلك الدهن فحني
يجف عليه الهواء يجيب عن كل شيء يسأل عنه من عواقب الأمور الخاصة والعامة.
وقد أجروا كثريًا من التجارب في أنفسهم بالرياضة، ليتعرفوا تأثري القوى املوجودة في
العالم. فصاموا الأيام الكثرية، ودخلوا الفرن الحار ليختبروا أثر الجوع وفعل الحرارة
في الجسد. وحاولوا باملجاهدة موتًا صناعيٍّا بإماتة جميع القوى البدنية، ليثبتوا وجود
النفس، ويتعرفوا أخبارها، وليبرهنوا بالبرهان التجريبي على قولهم بأن املوت إذا نزل
بالبدن ذهب الحس وحجابه، واطلعت النفس على ذاتها وعاملها.

والخلاصة أن أهل الكيمياء في الإسلام أجروا تجارب عديدة، ودونوا مجرباتهم في
كتب كثرية، فلا بد أن يكونوا عثروا أثناء تجاربهم على اكتشافات مهمة في علم الكيمياء
الحديثة، تلقى بعضها عنهم الإفرنج فنسبت لهم، ولم يزل البعض الآخر مدفونًا في كنوز
الكتب التي تختزن في طياتها الرطوبة، وترتع في صفحاتها الأرضة. ومهما يكن فنحن
لا نذكر في هذا الفصل إلا ما أقر الإفرنج أنفسهم بأنهم تلقوه عن املسلمني، من مسائل
ً الكيمياء، وما نزال ندرسه في مدارسنا الابتدائية، فضلا عن العالية في يومنا هذا. ونحن
نعجز عن حصر جميع هذه الاكتشافات ملا ذكرناه سابقً ا من الأسباب. غري أن ما يدرك
ً جله لا يترك كله. فإذا أجلنا النظر في كتب الكيمياء الحديثة — وخصوصا في تلك الكتب
التي عني بها مؤلفوها بتاريخ الكيمياء — نجد أنها تكرر اسم جابر والرازي وابن
سينا وغريهم من علماء الكيمياء في الإسلام. ونفهم منها أن أبا موسى جابر بن حيان
الصوفي هو أول من وصف املعادن الشائع استعمالها وصفً ا مدققً ا، كاملعادن السبعة
ا
املتطرقة، والزئبق والكبريت والزرنيخ. فهو أول من تكلم على هذه املعادن وعرفها تعريفً
كيميائيٍّا. ولم يزل علماء الإفرنج يقولون به ويرددونه في كتبهم. وفي كتاب جابر املترجم
إلى اللاتينية باسم الشيميا كلام مفيد على استحضار ماء الفضة، واملاء امللكي، وكيفية
تأثري ماء الفضة على املعادن، وتأثري املاء امللكي على الذهب والفضة والكبريت. وفي كتاب
ً جابر هذا أيضا كلام جيد في وصف كثري من املركبات الكيميائية املستعملة في املعامل
الصناعية، وفي الصيدليات الطبية مثل كلامه على حجر جهنم املستعمل في فن الجراحة
لإحراق العضلات الفاسدة، وإماتتها، ولغري ذلك، ويسميه أهل الكيمياء الحديثة «نترات
الفضة»، ومثل كلامه على الزئبق املصعد الذي يأكل الأجسام، ويدفع التعفن، ويسهل
البطن وهو سام قتال.
ً وتكلم أيضا على ما يسميه أهل الكيمياء اليوم «رايالغار»، وهو أكسيد الأرسنيك
املكبرت الأحمر، وعلى زهرة الكبريت، وملح الطرطري، وملح البارود، والزاج، والقبرصي،
وروح النشادر، وحجر الشب، والشب اليماني. وجاء في كتاب «واضعو علم الكيمياء»
ملؤلفه أريك جون هوملريد: «لم يهمل جابر تطبيق الكيمياء عمليٍّا وإجراء التجارب فيها،
فهو يصف لنا طرقًا لصنع الفولاذ وصقل املعادن الأخرى، كما وصف طرقًا لصبغ
الأقمشة والجلود، واستحدث مركبات لصبغ الشعر ونحو ذلك.»
ومما اكتشفه الرازي في الكيمياء، وصرح الإفرنج بأنهم أول ما رأوه في كتبه
كالحاوي وغريه الكئول. قال في معجم لاروس: Alcool كلمة عربية الأصل، مؤلفة من أل التعريف وكلمة «كحل» بضم الحاء أو تسكينها، ومعناها الشيء الدقيق الناعم. وقيل:
لا بل من كلمة «القلي» املرادفة للشوي، والأول أظهر من جهة الاشتقاق، والثاني أتم من
جهة املعنى. ولم يكن الرومانيون ولا اليونانيون يعرفون الكئول. وأول من نقله عن كتب
العرب وأشاع استعماله في أوروبا هو أرنو دو فيلنيف، في القرن الثالث عشر للميلاد. ثم
شرح أوصاف الكئول ريمون لول، ثم جاء لافوازيه وعرفه التعريف اللائق، وبني كيفية
استحصاله، وكان الرازي يستعمل الكئول في الصيدليات لاستحضار الأدوية والعلاجات،
ً حينما كان يطبب ويدرس في مدارس بغداد والري. ومما ذكره في كتبه أيضا الزرنيخ،
وملح الصباغة، وبعض مركبات الكبريت مع الحديد والنحاس، وبعض أملاح الزئبق،
وكثري من مركبات السليماني، وأطنب في ذكر منافع الكيمياء وخدمتها لفن الطب.
وحيث كانت أفكار املتقدمني متجهة نحو قلب املعادن الخسيسة إلى املعدنني
الشريفني، أطنبوا في ذكر أوصاف املعادن السبعة املتطرقة، ثم أردفوها بذكر الأرواح
املعدنية وهي أربعة: الكبريت، والزئبق، والزرنيخ، وروح النشادر، ويسميه الإفرنج
أمونياك. وزعموا أن هذه الأرواح هي التي تؤثر في بعض املعادن السبعة. وتقلبها
بالصناعة إلى الذهب والفضة. فاملتقدمون وصفوا جميع هذه الأجسام أحسن وصف،
وبينوا جميع خواصها، وهي كلها مما يسميه أهل الكيمياء الحديثة من العناصرالبسيطة،
ما عدا روح النشادر فإنه مركب من الأزوت والهيدروجني.
وجاء في كتب الكيمياء الحديثة: ومما اكتشفه العرب:
الحامض الأزوتي: أول من ذكره جابر وسماه املاء املحلل، ثم جاء ألبري الكبري فوصف
استحضاره وصفً ا مدققً ا، وتوجد اليوم معامل كثرية لاصطناعه، ويستهلك منه
كميات كبرية في العالم للصناعات املختلفة التي لا بد فيها من استعماله، مثل صنع
الحامض الكبريتي، واملاء امللكي، والنيترو بنزين، والنيتروكليسرين، وقطن البارود،
واملواد امللونة، ويستعمله الحكاكون لحك النحاس ويسمونه املاء الغالب، ويستعمله
املصورون ويسمونه املاء املساعد، كما يستعمله الصياغ ويسمونه ماء الفضة.
حامض كلوريدريك: أخذه علماء الكيمياء الحديثة عن كتاب بصيل فالانتني، وهو أخذ
عن كتب العرب وسماه روح امللح، ويستعمل هذا الحامض لاستحضار املاء امللكي،
والحامض الكربونيك وروح النشادر وغريها.
املاء امللكي: اكتشفه جابر، وهو مزيج من الحامضني املتقدمني؛ وهما الحامض الأزوتي
وحامض كلوريدريك، ومن خواصه إذابة الذهب والبلاتني؛ لأنهما لا يذوبان في كل واحد من الحامضني املذكورين على حدته، بخلاف غريهما من املعادن فإنها تذوب في
حامض الأزوتيك. وسمي باملاء امللكي لأنه يذيب ملك املعادن وهو الذهب.
روح النشادر: ً وسماه العرب أيضا القلي الطيار، وكلهم وصفوه وعرفوه أحسن تعريف،
ويسميه الإفرنج أمونياك، ويستعملونه في الصناعات وفي الطب، ويصنع به الجليد
بآلات مخصوصة.
الحامض الكبريتي: أول من ذكره في مؤلفاته أبو بكر الرازي، وسماه زيت الزاج والزاج
الأخضر. فنقله من كتبه ألبري الكبري وسماه كبريت الفلاسفة وروح الزاج الروماني.
وذكره بصيل فالانتني في كتبه ووصفه وصفً ا غري تام. واعلم أنه لا صنعة إلا ويستعمل
فيها الزاج، وهو أنفع ما جاءت به الكيمياء.
ً قال الكيميائي دوما: يمكننا الاستدلال على توسع صناعات الأمة من مقدار زيت
الزاج الذي تستهلكه؛ لأنه يستعمل لاستحضار غريه من الحوامض الكثرية الاستعمال
في الصناعات وفي الأصبغة، ويستعمل في اصطناع املياه املعدنية والشمع والسكر
وتصفية كثري من الزيوت.
البارود: لعهد قريب كان الناس والعلماء يظنون أن مخترعه أملاني يدعى شوارتز،
ولكنهم اليوم عدلوا عن هذا الرأي وقالوا: البارود مزيج من الكبريت والفحم ومن ملح
البارود. والأولان من العناصر املحترقة والأخري من العناصر املشتعلة. ولصنعه أصول
مخصوصة، وقد زالت أهميته في زماننا لاكتشاف غريه من املواد املتفجرة، وبقي
ٍّ استعماله مختصا بالصيد. استمر الناس زمنً ً ا طويلا وهم يعزون اختراعه للراهب
الأملاني شوارتز من أهل القرن الرابع عشر للميلاد، ولكن ظهر اليوم للمحققني بأن
الصينيني يعلمون من قديم الزمان ممزوجات العناصر املحترقة. وأول ذكر في الكتب
لبارود املدافع وجد في كتاب عربي يبحث فيه عن آلات الحرب، ويظهر منه أن مؤلفه
كان في مصر في منتصف القرن الثالث عشر للميلاد، وذلك في تاريخ الحرب الصليبية
َّ التي قام بها لويس القديس. ثم نقله ألبري الكبري وبني تركيبه وخواصه.
وكان استعمال البارود في املدافع لأول مرة سنة ١٣٤٦م، في الحرب التي نشبت بني
إنكلترا وفرنسا، وكانت جنود الإنكليز مسلحة بالقوس والنشاب ومعهم بعض املدافع.
غري أن ابن خلدون ذكر في تاريخه أن أبا يوسف سلطان مراكش ملا حاصر سجلماسة
سنة ٦٧٢ه املوافقة سنة ١٢٧٣م «نصب عليها آلات الحصار من املجانيق والعردات وهندام النفط القاذف بحصى الحديد، ينبعث من خزانة أمام النار املوقدة في البارود
بطبيعة غريبة، ترد الأفعال إلى قدرة باريها.» وقيل بأن أهل مراكش استعملوا الأسلحة
ً النارية قبل ذلك أيضا في محاربتهم سرقوسة سنة ١١١٨م. وكانوا قبل هذا التاريخ
يستعملون في حروبهم النار اليونانية. ذكر املؤرخ الإنكليزي جيبون أن مخترع هذه
النار رجل من بعلبك اسمه كالينيكوس، كان يصنعها من النفط، أو الغاز السائل،
ومن الكبريت وخشب الصنوبر بطريقة مخصوصة. ثم فر من الخلفاء إلى القسطنطينية
وعلمها لقياصرة الروم فسلحوا بهذه النار عساكرهم وقابلوا بها جنود املسلمني الذين
أتوا لحصار القسطنطينية في خلافة معاوية ثم في خلافة الوليد.
ونحن لا نقصد في هذا الفصل ذكر جميع املكتشفات الكيميائية التي أقر الإفرنج
بأخذهم إياها وتلقيهم لها عن املسلمني؛ لأن ذلك من وظيفة أساتذة الكيمياء الذين
يؤلفون الكتب في هذا العلم الجليل. وفيما ذكر في هذا الرسالة من الأمثال والقواعد كفاية
لفهم حقيقة علم جابر وكيفية توليده للكيمياء الحديثة، وكيفية أخذ الإفرنج هذا العلم
عن املسلمني. ولم تزل الكلمات العربية موجودة في اصطلاحات هذا العلم بأصلها العربي
أو بترجمتها الحرفية عن العربية، كقولهم «سبريتو» ومعناه الروح، و«أسبري دوفني»
بالفرنسية ومعناه روح الخمر، وكذا قولهم «لودو في» ومعناه ماء الحياة، وأمثال ذلك.
ً والذي أبقوه على لفظه العربي كثري أيضا مثل الكحل املتقدم ذكره، والأمبيق الذي هو آلة
التقطري، والقلي وهو نبات بحري يصنع من رماده الصابون، ويقال له بالاصطلاحات
الجديدة الصودة. والقطران والصابون وعشرات من الكلمات.
على أن أعظم فائدة أفادها جابر ومن سلك طريقته هي وضعهم فن املجربات؛
أي إثباتهم القضايا العلمية بالتجربة والاختبار؛ لأن املتقدمني لذلك العهد كانوا يثبتون
ً قضاياهم العلمية بالقياس املنطقي، فيقولون مثلا: هذا معدن ذهب، فاملعدن جنس،
والذهب فصل، فهو كقولنا للإنسان: هذا حيوان ناطق. والفصل لا سبيل بالصناعة إليه.
ً وإنما يخلقه خالق الأشياء وهو الله عز وجل، والفصول مجهولة الحقائق رأسا بالتصور،
ً فكيف يحاول انقلابها بالصنعة. إذ من شرط الصناعة أبدا تصور ما يقصد إليه بالصنعة،
فمن الأمثال السائرة للحكماء: أول العمل آخر الفكرة، وأول الفكرة آخر العمل. فلا بد
لنا من تصور الفصل ليتيسر لنا تخليقه وإبداعه. وتصور الفصل غري ممكن، فينتج من
ً ذلك أن تخليقه أيضا مستحيل. وبناءً عليه فصناعة الذهب؛ أي قلب املعادن مستحيل.
فأثبتوا استحالة هذه الصناعة بالقياس املنطقي، شأنهم في سائر املسائل العلمية. وهذه
كانت طريقتهم ومذهبهم الذي تلقوه بالسند املتصل إلى أرسطوطاليس. ولا يخفى ما في
هذا املذهب من الخلل؛ لأننا كثريًا ما نرى مباينة بني البرهان العقلي والبرهان التجريبي.
وربما قام الدليل العقلي أو القياس على ثبوت شيء ثم ظهر بالتجربة ضد ذلك الشيء.
وقولهم أول العمل آخر الفكرة باطل؛ لأن أكثر املكتشفات في الكيمياء — بل وفي غريها —
عثر عليها العلماء بالصدفة. وكثريًا ما نرى الكيميائي يشتغل في معمله لاستحصال مادة
ثم في نتيجة العمل تظهر له مادة أخرى. ولو بقي العلماء على غفلتهم منتظرين تصور
الفصل ملا تيسر لهم إيجاد شيء من اللوالب التي تدور عليها رحى هذه املدنية. فمن هذا
يتضح لنا السبب الذي حمل علماء الإفرنج على الإقبال على علم الكيمياء وعلم الطبيعة،
وتخصيص غرفة في كل معهد لتكون مختبرًا يجري فيه التلاميذ تجاربهم واختباراتهم،
ويستعملون لذلك أدوات وآلات بلغت في زماننا من الإتقان والكثرة درجة عظيمة.
فجابر لم يلتفت لذاك القياس املنطقي، بل شرع يتصفح املكونات كلها، ويجري
فيها أنواع التجارب والامتحانات، ويعني أمزجتها وقواها عله يعثر فيها على الإكسري،
ً فعثور جابر على الإكسري — كما يزعم — لم يزل مشكوكا فيه لهذا التاريخ، ولم تزل
هذه القضية محتملة للصدق والكذب، وأغلب الظن أنها حديث خرافة ومجرد وهم،
ولكن عثور جابر وأتباعه على كثري من الحقائق العلمية ثابت بالعيان. ومجموع هذه
الحقائق هي التي أنتجت بالضرورة علم الكيمياء الحديث الذي بهر العالم، وغري وجه
الأرض بنتائج اكتشافاته وتطبيقاته التي نشأت بأجمعها عن هذا الأصل الذي وضعه
جابر، وتسلسلت عنه كحلقات السلسلة املرتبط بعضها ببعض.
أما قواعد التجربة والامتحان التي وضعها جابر في هذا الفن فهي مذكورة في كتبه
املترجمة إلى اللاتينية، مثل كتاب «نهاية الإتقان» و«رسالة الأفران» فإنهما يشتملان على
وصف التجارب والعمليات وصفً ا يليق استعماله وتطبيقه في عصرنا لدرس املسائل
الكيميائية في كافة املدارس، التي فيها غرفة لحفظ الإنبيق والقرعة والأنابيب والأباريق،
والفرن، وبقية أدوات الكيمياء.
ثم سلك فريق من العلماء — وهم القائلون بصحة الكيمياء — مسلك جابر،
واقتفوا أثره في فن التجارب وأصول الامتحان، وانتقلت الكيمياء بعد ذلك من العرب إلى
الإفرنج بما فيها من قواعد التجارب وأصولها، فطبقها علماؤهم، واشتغلوا على موجبها
في القرون الوسطى، وتوصل روجر باكون في القرن الثالث عشر للميلاد بهذه الأصول
التجاربية إلى إظهار اكتشافات في علم الطبيعيات، حارت لها عقول أبناء زمانه. فالشرف في إيجاد الأصول التجاربية وعدم الالتفات لأصول املناطقة راجع لجابر وأهل طريقته.
واستعمال هذه الأصول وتطبيقها في القرن السابع عشر للميلاد هو الذي أحدث الانقلاب
العلمي الذي كان من أبطاله غاليليو، وفرانسس باكون، ونيوتن، وغريهم من علماء
الإفرنج. وإن النقطة التي ابتدأت منها الأصول التجاربية على التحقيق هي مؤلفات جابر
وأتباعه، لا مؤلفات ألبري الكبري كما زعم بعضهم؛ لأن ذلك العدد القليل من الإفرنج
الذين عكفوا في القرن الثالث عشر على درس العلوم الطبيعية كما سبقت الإشارة إليه ما
هم إلا صادرون عن حياض املعارف الإسلامية. وناهلون من بحار علومهم، ومقتبسون
لطرقهم وأصولهم، وإن كنا لا ننكر فضلهم في خدمة الإنسانية؛ إذ إنهم حملوا مشاعل
العلم في عصر كانت فيه أوروبا تئن تحت نري الجهل، فأناروا بذلك الطريق، ومهدوا
السبيل ملن جاء بعدهم.
فيتبني لنا مما تقدم أن أصحاب الكيمياء في الإسلام هم الذين وضعوا أصول
التجارب الذي عليه مدار الكيمياء الحديثة وسائر العلوم الطبيعية. ولهم في الكائنات
نظر فلسفي، لم يجرؤ علماء الإفرنج في هذا العصر على الادعاء بأنه حديث خرافة أو
ً أباطيل. وهذا رغما عما كان يلحق علماء الكيمياء في الإسلام من أذى املتعصبني وظلم
املستبدين، وهم يجاهدون بأنفسهم وأموالهم في سبيل كشف الحقائق وتحوير املسائل
العلمية. ولو حصل لهم تنشيط من الأمة ومدت إليهم أيدي املساعدة لتأسيس املعامل
الكيميائية، واملختبرات العلمية، وتنظيم املكتبات وجمع الكتب اللازمة لها، لتوصلوا —
ولا شك — إلى وضع العلوم الحقيقية، وأصول الفلسفة الجديدة، ولتوسعوا في دوائر
ً بحوثهم، وجاءوا بنتائج أعظم مما جاءوا به، وأحدثوا قسما كبريًا من هذا الانقلاب
العظيم الذي جاء به الإفرنج، وغريوا بسببه وجه الأرض، ولم يزالوا يظهرون لنا في كل
يوم من معجزات العلم وخوارق الاكتشافات والاختراعات ما تحار في صنعها الألباب،
وتقصر عن إدراكها العقول.

منقول

صورة رمزية إفتراضية للعضو صلااح الدين
صلااح الدين
عضو
°°°
افتراضي رد: الكيمياء عند العرب
مشكور أخي يناير ....

صورة رمزية إفتراضية للعضو براخيا
براخيا
عضو
°°°
افتراضي رد: الكيمياء عند العرب
جزاك الله خيرا

الصورة الرمزية يناير
يناير
عضو
°°°
افتراضي رد: الكيمياء عند العرب
شكرا لجميع الأخوة وجزاكم الله خيرا


شكرا لجميع الأخوة وجزاكم الله خيرا


شكرا لجميع الأخوة وجزاكم الله خيرا


مواقع النشر (المفضلة)
الكيمياء عند العرب

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
الانتقال السريع
المواضيع المتشابهه
الموضوع
شعراء الكيمياء العرب
علم الكيمياء والصيدلة عند العرب
سجون الغرب وسجون العرب !! .
الكيمياء وصنع الاكسير عند الغرب
الدوره الدمويه عرفت في العرب قبل الغرب

الساعة الآن 02:21 PM.