المشاركات الجديدة
قسم الكتب و المنشورات : كتب و منشورات و مواقع في كل الميادين المرتبطة بتخصص منتديات الشامل

فوائح الجمال وفواتح الجلال

افتراضي فوائح الجمال وفواتح الجلال
هذا عرض لكتاب فوائح الجمال وفواتح الجلال للعلامة الشيخ نجم الدين كبرى، كتبه الأخ الحبيب الباحث الإسلامي الأستاذ: أحمد ممدوح المصري القاهري الشافعي، وهذا البحث نشره أخونا الحبيب في العدد الأول من مجلة البحوث والدراسات الصوفية، الصادرة عن المركز العلمي الصوفي بالعشيرة المحمدية (يسر الله صدورها مرة أخرى، ودفع عنها كل سوء):

قال سيدي الأستاذ أحمد ممدوح، نفعنا الله به:

------((فوائح الجمال وفواتح الجلال ))------


يعتبر كتاب فوائح الجمال وفواتح الجلال (1) هو أشهر مؤلفات الشيخ نجم الدين كبرى وأكثرها استيعابا لحياته الروحية تحدث فيه عن شتى الموضوعات الصوفية وذكر فيه العديد من الوقائع والتجارب الروحية التي عاينها في خلواته ومارسها خلال صحبته للمشايخ .
ولا يوجد أدنى شك في نسبة هذا الكتاب للشيخ نجم الدين بل يعد الكتاب بمثابة تصوير لتجربة شخصية في السلوك والعروج الروحي.
وكلمتي فواتح ومفاتح من الألفاظ ذات العبق الصوفي وقد استخدمهما غير واحد من المؤلفين في عناوين كتبهم منهم: السندوبي في فوائح عرف الصفا في مدائح السيد أبي الوفا ، وكمال الدين الحلبي في فوائح المسك العبوقي في لوائح السلك الدسوقي، وابن بشاشة في الفوائح المكية والروائح المسكية، وأخيرا مولانا الشيخ محمد زكي الدين إبراهيم رضي الله عنه في فواتح المفاتح .

مؤلف الكتاب:
ومؤلف الكتاب هو مولانا الشيخ أحمد بن عمر بن محمد نجم الدين كبرى الخوارزمي الملقب بصانع الأولياء (2)
قال ابن نقطة: هو شافعي المذهب إمام في السنة(3).
وقال ابن الحاجب: طاف البلاد وسمع واستوطن خوارزم وصار شيخ تلك الناحية وكان صاحب حديث وسنة(4).
يقول الذهبي: نجم الدين الشيخ الإمام العلامة القدوة(5).
استشهد الشيخ نجم الدين كبرى -رضي الله عنه- بخوارزم في فتنة التتار سنة 618هـ، يقول ابن العماد الحنبلي: "لما دخل الكفار البلد نادى الشيخ وأصحابه الباقون الصلاة جامعة ثم قال قوموا نقاتل في سبيل الله ودخل بيته ولبس خرقة شيخه وحمل على العدو فرماهم بالحجارة ورموه بالنبل وجعل يدور ويرقص حتى أصابه سهم في صدره فنزعه ورمى به نحو السماء ، وفار الدم وهو يقول: إن أردت فاقتلني بالوصال أو بالفراق ، ثم مات ودفن في رباطه رحمه الله تعالى" . (6)

أسلوبه:
يتميز أسلوب مولانا نجم الدين كبرى بتلقائية وعدم حرص على استخدام الغريب من الألفاظ ، وأسلوبه يجعله وكأنه يكتب مجموعة من الخواطر كلما سنح له شيء كتبه فنجده يكتب في أمر ثم يعرج على آخر، وهذا الأسلوب نجده عند مثل ابن الجوزي في صيد الخاطر على اختلاف في التناول والعرض.
وكلام نجم الدين كبرى مفعم بالتضمينات القرآنية وضرب الأمثال، وضرب الأمثال كما يقول الغزالي يقصد به تقريب المعنى من الأذهان (7) أو كما يقول المناوي: "وفي ضرب الأمثال زيادة تذكير وتفهيم وتصوير للمعاني" (8) ، فنجد ها الأسلوب منتشرا في كتب الصوفية الذين مارسوا التربية لحرصهم على إيصال المعنى على أكمل صورة في ذهن المريد .
والشيخ كغيره من الكاتبين في التصوف يتمتع أسلوبه بقدر من الرمزية على طريقة الصوفية في الإشارة، لكنه لم يتقيد بالمصطلحات الصوفية تمام التقيد، ومن ذلك تعبيره عن المريد بلفظ "السيار"، واستخدام ألفاظ وتعبيرات خاصة "كالجمود والخمود" (9).
ويستخدم الشيخ في خطابه للمريد لفظ: "يا حبيبي" وهو نداء خاص به كما اختص نداء "يا غلام" بسيدي عبد القادر الجيلاني ،ونداء "أي سادة" بسيدي أحمد الرفاعي(10).
ومن الظواهر الأسلوبية عنده استخدامه الأسلوب الإضافي لتحقيق المعنى في ذهن السامع أو القارئ فإذا استخدم كلمة الوجود راح يضيف إليها ما يوسع معناها ، وهذا الأسلوب نجده عند ابن عربي المتأخر قليلا عنه م 638هـ(11).

عرض لبعض مباحث من الكتاب:
يذكر أهل الله أن للذكر نارا تذيب شحومات الغفلة من على القلب ، ويأتي الشيخ نجم الدين كبرى ليفرق لنا بين هذه النار ونار الشيطان فيقول: "الفرق بين نار الذكر ونار الشيطان أن نيران الذكر صافية سريعة الحركة والصعود إلى الفوق، ونار الشيطان في كدر ودخان وظلمة وكذلك بطيئة الحركة .
الذكر نار لا تبق ولا تذر فإذا دخل بيتا يقول أنا ولا غيري .. فإذا كان في البيت حطب أحرقه فكان نارا وإذا كان في البيت ظلمة كان نورا فأفناها ونور البيت وإذا كان في البيت نور لم يكن ضدا له بل ذلك النور أيضا ذكر وذاكر ومن المذكور فيصطحبان جميعا نور على نور" (12).

ثم بعد ذلك يشير إلى أهمية الشيخ في الطريق إلى الله فيقول: "إذا خطر خاطر بقلبك أو فضاء بصدرك فشاور فيه الشيخ فإذا قال هذا خاطر الحق فاعلم أنه كذلك وهذا ضابط لك ما لم تصل إلى الذوق فإن وصلت إلى الذوق ذقت الخاطر فعرفته وميزته عن غيره بالذوق أما بالعبارة فيصعب نوع صعوبة فإنك تقول في الفرق ذاك حلو وهذا مر ثم يقال ما الحلو وما المر فلا تقدر أن تكشف عن حقيقة الحلاوة والمرارة سوى ان تذكر علاماتهما وثمراتهما"(13).
وتأتي أهمية الشيخ عند السادة الصوفية من أنه بمثابة الدليل الذي سلك تلك المسالك الوعرة من قبل وسبرها فيأخذ بيد المريد ليجنبه المهالك والطرق الوعرة حتى يصل إلى مطلوبه.
يقول الإمام الشعراني في لطائف المنن: "ولو أن طريق القوم يوصل إليها بالفهم من غير شيخ يسير بالطالب فيها لما احتاج مثل حجة الإسلام الغزالي والشيخ عز الدين بن عبد السلام أخذ أدبهما عن شيخ ..وقد سلك الإمام الغزالي على الشيخ أبي محمد البازغاني وسلك الشيخ عز الدين بن عبد السلام على الشيخ أبي الحسن الشاذلي، وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول كثيرا :
لا تسلكن طريقا لست تعرفها بلا دليل فتهوي في مهاويها ". اهـ بتصرف (14)

والشيخ عند الصوفية له شروط يجملها الشيخ عبد المجيد الخاني بقوله:
"اعلم أن الشيخ الكامل هو الذي توفرت فيه شروط التربية والتزكية والإرشاد والإمداد وشهد فيه أهل الكمال بأنه بلغ مبلغ الرجال، وسرت فيه آداب المشيخة سريان الروح في الجسد بحيث ظهرت عليه صبغة الواصلين إلى الله تعالى". (15)
وعلى المريد –كما نص عليه السادة- أن يقصر اعتقاده على شيخه جازما بأنه لا يحصل مطلوبه إلا على يد هذا الشيخ فإذا تشتت نظره إلى شيخ آخر حرم نفع الأول وانسد عليه باب الإمداد الإلهي. (16)
وفي آخر كلام مولانا نجم الدين فائدة أخرى وهي أن الأذواق والمواجيد قد تضيق عنها العبارة، وهذا سر في بعض التجازات الموجودة في تعبيرات الصوفية، فالصوفي الذائق يحاول التعبير عن وجدان معين فتقصر العبارة عن التعبير عنه فيقع الوهم واللبس.
يقول الإمام الشعراني في اليواقيت: "وأما علم الأحوال فلا سبيل إليه إلا بالذوق ولا يقدر عاقل على وجدانه ومعرفته البتة كالعلم بحلاوة العسل ومرارة الصبر ولذة الجماع ونحو ذلك." اهـ . (17)
تأتي بعد ذلك قضية يثيرها كثير من أعداء التصوف وهي قضية سقوط التكاليف عن الأولياء، ولا شك أن دعوى وجود منزلة معينة من بلغها سقطت عنه التكاليف، ولم يعد مطالبا بأداء العبادات هو انسلاخ من ربقة الدين بالكلية، ولكن الشيخ معنا يقرر إمكانية سقوط التكليف عن عباد الله الخواص ولكن ليس على هذا المعنى المطرح بل على معنى آخر رائق مستقيم فيقول :
"هل يسقط التكليف عن عباده الخواص ؟ نعم
بمعنى أن التكليف مأخوذ من الكلفة وهي المشقة فيعبدون الله تعالى بلا مشقة وكلفة بل يتلذذون بها ويطربون" اهـ. (18)
يقول الشيخ فتح الله بناني: "فأهل الولاية لما كمل فناؤهم في الله وبقاؤهم بالله كانت أحوالهم وحركاتهم وسكناتهم جارية على قوانين الشريعة المحمدية في كل لمحة ونفس بكرة وعشيا وامتزجت أنوار المتابعة بدمهم ولحمهم وعظمهم وصارت لهم طبعا وديدنا في سرهم وجهرهم ولم تبق لهم مشقة في ارتكابها بل صارت لهم أحلى من الزبد بالسكر والعسل وانتفى عنهم فيها الكسل والفشل وتعجبوا من التخلف عنها في حال أو مقال ..وقالوا أيضا كما قال متبوعهم إمام أهل الفضل والكمال صلى الله عليه وسلم وآله: أرحنا بها يا بلال .
وبعد الفنا في الله كن كيفما تشا***فعلمك لا جهل وفعلك لا وزر
وهذا معنى قول بعض الكبار يصل العبد أي الكامل في المعرفة إلى مقام يسقط عنه فيه التكليف أي مشقته لا نفسه فافهم وشد يدك على هذا المذهب" اهـ(19).

ثم يحدثنا الشيخ نجم الدين كبرى عن مراتب النفوس حديث الخريت الماهر الذي خبر هذه الدروب واجتاز تلكم المفاوز، فيقول: "النفوس ثلاثة النفس الأمارة بالسوء وهي نفس العامة تكون مظلمة فإذا وقع الذكر كان الذكر مثل السراج الموقد في البيت المظلم فحينئذ تصير لوامة؛ لأنها تبصر أن البيت ملآن من نجاسة وكلب وخنزير وفهد ونمر وحمار وثور وفيل، وكل شيء مذموم في الوجود .
ثم تجتهد في إخراجهم عن هذا البيت بعد أن تلطخت بأنواع النجاسات وتجرحت من أنواع السباع فتلازم ذكر الحق والإنابة حتى يظهر سلطان الذكر عليهم فيخرجهم .
ثم تقرب من المطمئنة فلا تزال تجتهد في جمع أثاث البيت حتى يتزين البيت بأنواع المحمودات فتتحلى بها ويصلح البيت لنزول السلطان فيه فينزل، فإذا نزل فيه السلطان وتجلى الحق اطمأنت" اهـ(20).

ويستطرد الشيخ نجم الدين استطرادا حسنا في تحقيق معنى الخلوة (21)، فقال: "لابد أن يرى صاحب الخلوة والانقطاع إلى الله كل من عاشره خارج الخلوة بالوهم والمشاهدة في الحضور والغيبة يدعونه إلى ما كان عليه فيما سلف فإن كان ضعيفا جذبوه وأخرجوه إلى اللهو واللعب فلعبوا به كما كانوا ييلعبون به وأهلكوه كما أهلكوا أنفسهم ، وإن كان قويا انقطع عنهم بقدر قوته .
فإن تمت له الخلوة علم أنه أقوى من الكل وإن لم تتم له الخلوة علم أنهم أقوى منه .
وفي الأول تكون قوته بالشيخ فإنه صبي بعد فإن حن إليهم وخرج عن الخلوة كان ذلك من ضعف الشيخ وتقصيره حيث أدخله الخلوة وما قطع عنه الجاذب الذي يستجذبه.
إلا أن الشيخ قد يدخله الخلوة لأجل إتمام الأمر عليه وقد يدخله لأجل فائدة ما وذلك أن المريد لا يخلو من دفين مذموم في باطنه والشيخ لا يقدر على قطع ذلك إلا بواسطة صفع الخلوة .
ولا يأنس السيار إلى الخلوة حتى يحاربه كل من عاشره وصاحبه ورآه وملكه وإنما يحاربه لأنه كان إلهه قبل الخلوة فلما أن خلا بالله وأعرض عن كل شيء جاءه كل شيء يدعوه أن يعبده من دون الله …ثم لا يزال يكون مستأنسا بالذكر والخلوة حتى تنقطع عنه الأضداد والآلهة بالكلية وذكرها البتة فيكون أنسه حينئذ بالحق وذلك نهاية ميدان الخلوة ومن ثمة بداية خلوة المعنى فيكون بصورته مع الأغيار وبمعناه مع العارف.
قال الجنيد قدس الله روحه لمريديه أصحاب الخلوات: إن كان أنسكم في الخلوة بالخلوة ذهب أنسكم إذا خرجتم منها وإن كان أنسكم في الخلوة به استوت عندكم الصحاري والخلوات" اهـ(22).

وقد عد أهل الله فضول الخلطة من أعظم مفسدات القلب، قال الشيخ شمس الدين بن القيم في شرح المنازل: "فأما ما تؤثره كثرة الخلطة فامتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم حتى يسود ويوجب له تشتتا وتفرقا وهما وغما وضعفا وحملا لما يعجز عن حمله من مؤنة قرناء اسوء وإضاعة مصالحه والاشتغال عنها بهم وبأمورهم وتقسم فكره في أودية مطالبهم وإراداتهم". (23)
وفي الحكم العطائية: متى أوحشك من خلقه فاعلم أنه يريد أن يفتح لك باب الأنس به. (24)
وهذه المرتبة التي أشار الشيخ نجم الدين أنها منتهى السالك يعبر عنها غيره بقوله: "الخلوة في الجلوة"، فيكون السالك مع الناس بجسمه معتزل لهم بقلبه .
ومن هذا الباب قول رابعة العدوية:
ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي***وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس مؤانس***وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي

وعن التصدر للتربية والمشيخة يقول الشيخ نجم الدين كبرى: "لا تصح التربية والمشيخة إلا لمن سلك الطريق وأبصر المذموم والمحمود في الغيب وقاسى بلاء هواجم العظمة من الهيبة والموت والفناء، ولا يصح للمجذوب فإن المجذوب وإن ذاق المقصود ولكن لم يذق الطريق إلى المقصود فلم يصلح للتربية والمشيخة لأن التربية والمشيخة هما الدلالة والخفارة في الطريق" اهـ(25).

وهو في كلامه هذا يفرق بين السالك والمجذوب فالسالك حتى يصل إلى الله سلك لهذا الطرق القفار وعاني أنواع المجاهدات فعرف أما المجذوب فله من اسمه نصيب فقد اصطفاه الحق لنفسه وجذبه إليه ففاز بجميع المقامات والمراتب بلا كلفة المتاعب(26) ، فلم يصلح المجذوب للتربية لجهله بالطريق -مع وصوله للمقصود-.

وهناك مرتبة أخرى ذكرها أهل الله وهي مرتبة المجذوب السالك وهو وإن كان يعبر على المنازل لكنه يشهد الأشياء بالله تعالى وهذا أعلى ممن يشهد الله تعالى بها، ولذلك قيل إنه أفضل من السالك المجذوب؛ لأن الأخير ينتهي إلى الفناء، وذاك ينتهي إلى البقاء والصحو بعد الفناء، وهذا أكمل من الأول؛ لأنه مقام الأنبياء ووارثيهم من المرشدين المكملين ؛ إذ مقام الإرشاد لا يصح ولا يصلح إلا لمن تحقق بالبقاء بعد الفناء(27).

ويحدثنا الشيخ نجم الدين أن الشيطان الرجيم تحايل عليه في خلوته بحيل وتشويش ليخرجه عما هو فيه، فأنقذه الله تعالى منه بقوة الرابطة الروحية بين الشيخ نجم الدين كبرى وشيخه.
يقول:
"كنت منقطعا إلى الله في الخلوة مواظبا بذكره فجاء اللعين وأكثر على الحيل ليشوش الخلوة والذكر فظهر في يدي سيف الهمة مكتوب عليه من ذؤابته إلى قبضته الله الله ، فكنت أنفي به الخواطر المشغلة عن الله فخطر على قلبي أن أصنف كتابا في الخلوة أسميه حيل المريد على المريد، فقلت لا يصح إلا بإذن الشيخ .
فشاورت الشيخ في الغيب فسمعت كلامه لصحة رابطة كانت بيني وبينه أن أنته عن هذا الخاطر" اهـ(28).

والرابطة الروحية مما اتفقت عليه جميع طرق أهل الله ، يقول الشيخ عبد المجيد الخاني النقشبندي:
"الرابطة عبارة عن ربط القلب بالشيخ الكامل الواصل إلى مقام المشاهدة الإلهية المتصرف بقوة الولاية المشهود له بالكمال من كمل الرجال وحفظ صورته بالخيال ولو عند غيبته أو بعد وفاته ولها صور أهونها أن يتصور المريد صورة شيخه الكامل بين عينيه ثم يتوجه إلى روحانيته في تلك الصورة ولا يزال متوجها إليها بكليته حتى يحصل له الغيبة أو أثر الجذبة فبعد حصول أحد الأمرين يترك الرابطة ويشتغل بالأمر الحاصل بالجذبة أو الغيبة وكلما زال عنه ذلك الحال عاد إلى الرابطة حتى يرجع ذلك إليه وهكذا يداوم على الرابطة حتى يفنى عن ذاته وصفاته في صورة الشيخ فعند ذلك يشاهد روحانية الشيخ مع كمالاته في صورة نفسه لأن الكمالات لا تفارق الروحانية فتربيه روحانية الشيخ بعد ذلك لى أن توصله إلى الله تعالى ولو كان أحدهما في المشرق والآخر في المغرب فالرابطة يستفيض الأحياء من الأموات المتصرفين والشيوخ من الشبان الواصلين" اهـ(29).

والحقيقة أن من أهم مقاصد الرابطة الروحية –خاصة عند متقدمي النقشبندية- قطع مادة التشبيه من ذهن الذاكر؛ لأنه حال الذكر قد يتسارع إلى ذهنه تصور للمذكور، فالرابطة تصرف ذهنه عن هذا التصور(30).

ولمولانا الشيخ خالد النقشبندي رسالة في تحقيق الرابطة-مخطوطة- يقول فيها: " وهو أمر لا يتصور جحوده إلا ممن كتب الله تعالى في جبهته الخسران واتسم والعياذ بالله بالمقت والحرمان؛ لأنه إن كان ممن يعتقد بالأولياء فقد صرحوا بحسنها وعظم نفعها، بل اتفقوا عليها كما لا يخفى على من تتبع كلماتهم القدسية واستنشق نفحاتهم الأنسية، وإلا فلابد أن يعتقد بكلام أئمة الشرع وأساطين الأصل والفرع؛ فقد قال بها من كل مذهب من المذاهب الأربعة أئمة تصريحا " اهـ.

ويشير الشيخ إشارة لطيفة إلى أن بعض الأحوال التي تعتري بعض السالكين ليست علامة كمال بل قد تكون علامة نقصان ، فيروي عن الجنيد أنه كان يوما في سماع لبعض الإخوان وقد طاب لهم الوقت وقاموا للرقص، والجنيد قاعد لم يتحرك فحسبوا أن الرقص عنده حرام فسألوه عن ذلك فقال: { وترى الجبال تحسبها جامدة}..الآية
قال الشيخ نجم الدين كبرى تعليقا: "فالراقص يستولي عليه البسط فيملكه والشيخ لا يملكه شيء وإنما هو يملك الأحوال" اهـ (31).

والحقيقة أن أكابر الأولياء من الصحابة ومن بعدهم كانوا أكمل وأقوى وأثبت في الأحوال الإيمانية من أن تغيب عقولهم، أو يحصل لهم غشي أو صعق أو سكر، وإنما كان مبادئ هذه الأمور -كما يقول ابن تيمية (32) - في التابعين من عباد البصرة فإنه كان فيهم من يغشى عليه إذا سمع القرآن، ومنهم من يموت (33)، كأبي جهير الضرير، وزرارة بن أوفى قاضي البصرة(34).

وعن أهمية الوقت عند الصوفية يروى أن الإمام الشافعي صحب الصوفية فقال: إنه استفاد منهم حرفين: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، ونفسك إن شغلتها بالحق وإلا شغلتك بالباطل(35).
ويعتبر الصوفية أن من نعم الله تعالى على العبد نظره إلى الوقت الذي هو فيه دون الماضي والمستقبل؛ فإن الماضي قد ذهب بما فيه من خير أو شر وختم على صحيفته، والمستقبل لا يدري العبد ما الله صانع فيه، وما بقي إلا الحالة الراهنة، ولا يخلو العبد فيها من أن يكون مخاطبا فيها بأحد ثلاثة أمور : إما أمر يمتثله، أو نهي يجتنبه، أو قدر يرضى به. (36)
وفي هذا المعنى يقول الشيخ نجم الدين كبرى: "الصوفي ابن الوقت؛ لأنه يدور مع الوقت كيفما كان ولا ينظر إلى ما مضى ولا إلى المستقبل لأن نظره إلى الماضي والمستقبل يضيع عليه الوقت"(37).

وحفظ الوقت أو حفظ الأنفاس -كما يعبر عنه بعضهم- هو رأس مال طالب الآخرة، حتى إن الهروي في منازل السائرين عد من أنواع التوبة توبة الخواص من تضييع الوقت .
ويقول الشيخ محمد بن عبد الله الخالدي النقشبندي في كتابه البهجة السنية في آداب الطريقة العلية: "أهل التصوف على ثلاث طبقات : مريد طالب ، ومتوسط سائر ، ومنته واصل فالمريد صاحب وقت والمتوسط صاحب حال والمنتهى صاحب نفس وأفضل الأشياء عندهم عد الأنفاس" اهـ(38).

وكتاب فوائح الجمال وفواتح الجلال عامر بغير ذلك من الفرائد والفوائد والنفائس التي دبجتها يراعة مولانا نجم الدين كبرى بما لم يشتمل عليه كتاب مثله مما لا تتسع هذه العجالة لعرضها جميعها،رحم الله مولانا نجم الدين كبرى ونفعنا به وبعلومه في الدارين .. آمين.

------(الهوامش)------


(1) حققه الدكتور يوسف زيدان ، ونشرته دار سعاد الصباح.
(2) ولهذه التسمية سببان أحدهما معقول: وهو كثرة من وصل إلى مرتبة الولاية بسب صحبته للشيخ وملازمته له ففتح عليه بذلك.
والثاني منقول: وهو ما نقله بعض المؤرخين من أن الشيخ نجم الدين كان إذا نظر لشخص وهو في حالة الوجد والانجذاب فإن هذا الشخص ينجذب ويصير وليا –يعنى بالمآل-، والتربية بالنظرة معروف عند السادة الصوفية، ومن هذا الباب قول الإمام جعفر الصادق : كنت إذا وجدت في قلبي قساوة نظرت في وجه محمد بن واسع فاجتهدت أسبوعا.
(3) طبقات الشافعية لابن السبكي 5/ 11.
(4) سير أعلام النبلاء 22/ 112 .
(5) إحياء علوم الدين 4/ 23.

(6) شذرات الذهب 5/ 79.
(7) إحياء علوم الدين 4/ 23.
(8) فتح القدير 2/ 106.
(9) يقول ص 217، 218: " أما الجمود فيكون بعد انطفاء النيران المذمومة من نار الشهوة وجوع الكلب والعطش ونار الشيطنة ونار النفس وما يشتمل عليها من الخصال المذمومة .. والخمود خمود النار التي وصفناها".
(10) انظر: الفتح الرباني للجيلاني، البرهان المؤيد من كلام سيدي أحمد الرفاعي، وفي ترجمة الحافظ شيخ الإسلام أبي الفتح محمد بن علي بن دقيق العيد أنه كان لا يخاطب أحدا إلا بقوله: "يا إنسان" إلا الشمس بن عدلان كان يخاطبه بقوله: "يا فقيه".

(11) مقدمة تحقيق فوائح الجمال للدكتور يوسف زيدان ص 88، 89.
(12) فوائح الجمال ص 127.
(13) فوائح الجمال ص 145.
(14) لطائف المنن والأخلاق في وجوب التحدث بنعمة الله على الإطلاق ص 43، 44 .
(15) السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبندية ص 9.

(16) السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبندية ص 20 .
(17) اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر ص 21..
(18) فوائح الجمال 146.
(19) إتحاف أهل العناية الربانية في اتحاد طرق أهل الله وإن تعددت مظاهرها الحقانية ص 78، 79.
(20) فوائح الجمال 161.

(21) أخرج الإمام البخاري في صحيحه -كتاب بدء الوحي ، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الله جل ذكره إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده- عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: "أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك" .
قال الإمام ابن أبي جمرة: في الحديث دليل على أن الخلوة عون للإنسان على تعبده وصلاح دينه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتزل عن الناس وخلا بنفسه أتاه هذا الخير العظيم ، وكل أحد امتثل ذلك أتاه الخير بحسب ما قسم الله له من مقامات الولاية. اهـ بواسطة الانتصار لطريق الصوفية الأخيار للزمزمي ص 17.
(22) فوائح الجمال ص 210.
(23) مدارج السالكين 1/ 454.
(24) الحكم العطائية ص 29.
(25) فوائح الجمال ص 256.

(26) التعريفات للسيد الشريف الجرجاني ص 178.
(27) الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية لمحمد بن سليمان البغدادي النقشبندي ص 18، شرح ابن عباد على الحكم العطائية ص 28.
(28) فوائح الجمال ص 144.
(29) السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبندية ص 22، 23.
(30) أفادني به شيخنا صاحب الفضيلة الدكتور علي جمعة بارك الله في أنفاسه .

(31) فوائح الجمال ص 191، 192.
(32) مجموع الفتاوى 10/ 219 .
(33) قال ابن تيمية: "والذي عليه جمهور العلماء أن الواحد من هؤلاء إذا كان مغلوبا عليه لم ينكر عليه وإن كان حال الثابت أكمل منه" مجموع الفتاوى 11/ 6 .
(34) يروى أن زرارة بن أوفى قاضي البصرة قرأ في صلاة الفجر: { فإذا نقر في الناقور } فخر ميتا، وأن أبا جهير الأعمى قرأ عليه صالح المري فمات.
(35) لطائف المنن ص 106 .

(36) لطائف المنن ص 106 .
(37) فوائح الجمال ص 197.
(38) البهجة السنية في آداب الطريقة العلية النقشبندية ص 122.

====((تم البحث والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم))====
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله .. عدد نعم الله وأفضاله



manqool

غير مبريء الذمه نقل الموضوع أو مضمونه بدون ذكر المصدر: منتديات الشامل لعلوم الفلك والتنجيم - من قسم: قسم الكتب و المنشورات


...
....

مواقع النشر (المفضلة)
فوائح الجمال وفواتح الجلال

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
الانتقال السريع
المواضيع المتشابهه
الموضوع
مخطوطة فرج الهموم بمعرفة منهج الحلال والحرام من علم النجوم
للمرأه التى تطلب الحلال
وسواس الجمال القهري
استخبار الحمام العجيب
علم التنجيم بين ( الحلال والحرام ) .....!!!

الساعة الآن 07:18 AM.