عرض مشاركة واحدة
الصورة الرمزية يناير
يناير
عضو
°°°
افتراضي رد: الكيمياء عند العرب
ابو بكر الرازي
ثم اقتفى العلماء أثر جابر في هذا العلم، ونحوا منحاه، وألفوا فيه رسائل عديدة، وكتبًا
كثرية متنوعة، واشتهر من هؤلاء املؤلفني في املشرق أبو بكر محمد بن زكريا الرازي
(٢٤٠–٣٢٠ه) ولد في الري، وكانت في جوار طهران، وارتحل في طلب العلم إلى العراق،
ُ والشام، ومصر، والأندلس، فارتوى من بحوره، واشتهر بالطب، حتى سِّم َي جالينوس
ً عصره، وحتى قيل: إن الطب كان معدوما فأحياه جالينوس، وكان متفرقًا فجمعه
ً الرازي، وكانت ناقص ُ ا فكمله ابن سينا. وعِّني ً الرازي مديرا للبيمارستان في بغداد، فكان
من أشهر أساتذة مدرستها، وتقلد غريها من الوظائف، وصار طبيبًا للمنصور بن نوح
الساماني، صاحب ما وراء النهر وخراسان.
وكان الرازي يجلس في مجلسه ودونه التلاميذ، ودونهم تلاميذ آخرون، فكان يجيء
الرجل فيصف ما يجد لأول من يلقاه، فإن كان عندهم علم وإلا تعداهم إلى غريهم، فإن أصابوا وإلا تكلم الرازي. وكان كبري الرأس جليل الطلعة، يتهيب الناس مجلسه.
ويروون عن ذكائه وإصابته نوادر كثرية لا محل لها هنا.
وألف الرازي كتبً ً ا كثرية، كبرية الحجم كثرية الفوائد، منها ما هو في ثلاثني مجلدا،
ً ومنها ما هو في عشرة أو خمسة عشر مجلدا، وخلَّف أكثر من مائتي مؤلَّف، لا يزال
باقيًا منها إلى الآن بضعة وعشرون مؤلفً ا، يطول بنا وصفها، وإنما نذكر أشهرها، وهو
كتاب الحاوي في علم التداوي، وهو مترجم إلى اللاتينية، ومطبوع في البندقية، ومنها
كتاب املنصوري، وكان يدرس في باريس. وله في الكيمياء خاصة اثنا عشر كتابًا، منها
كتاب الرد على الكندي في إدخال صناعة الكيمياء في املمتنع، كتاب الإثبات، كتاب الحجر
الأصفر، كتاب في محنة الذهب والفضة وامليزان الطبيعي، وغريها. وتُرجم الكثري من
تآليفه إلى اللاتينية. وبعد أن ذكر في كتابه الحاوي الفوائد التي استفادها علم الطب
من صناعة الكيمياء قال: وأما سر هذه الصناعة في تحول املعادن، فهو من املمكن لا
من املستحيل، ولا يكشف الغطاء عن هذا السر إلا بكثرة التجارب والامتحان، وما أسعد
الإنسان إذا تمكن من رفع طرف هذا الحجاب الذي احتجبت به الطبيعة عنا.
ولم يزل اسم الرازي يذكر في كتب الكيمياء الحديثة، وطريقته مستعملة في
استحضار زيت الزاج، ويسميه الإفرنج حامض الكبريتيك. وقد قدر علماء أوروبا الرازي
حق قدره؛ فقد اتفق أن جامعة باريس الطبية، أرادت في القرن الرابع عشر للميلاد أن
تقوم ببعض ترميمات، وأعوزها املال، فلم تجد من يسلفها املال، إلا بعد أن استودعته
حاوي الرازي مرتني، ولم يقبل املسترهن بشيء ثمني سوى هذا املؤلف.
على أن مؤلفات الرازي ألحقت بصاحبها الأذى، فقد ذكروا في سبب وفاته أنه ألف
كتابًا في الكيمياء، وحمله إلى املنصور الساماني، فلما وصل إلى خراسان قدم الكتاب
إلى املنصور، فأعجبه وشكره، ودفع إليه ألف دينار. ولكنه قال له: أريد أن تخرج هذا
الذي ذكرت في الكتاب إلى حيز الفعل. والظاهر أن الرازي لم يكن يعتقد صحة الكيمياء،
وإمكان تحويل املعادن الخسيسة إلى الذهب والفضة، وإنما كان يؤلف بها الكتب على
ً ما يصفها أصحابها التماسا للمال، فلما طلب املنصور منه هذا الطلب، قال له: إن ذلك
يحتاج إلى املؤن والعدد والعقاقري والدقة في العمل، مما يستغرق نفقات طائلة. فقال
املنصور: كل ما احتجت إليه من الآلات أو العقاقري أو غريها فإني أحضره لك، حتى
تخرج ما ذكرته في كتابك هذا إلى العمل. فلما رأى إصرار املنصور أذعن، ولكنه عجز
ً عن العمل، فقال له املنصور: ما اعتقدت أن حكيما يرضى بتخليد الكذب في كتب ينسبها إلى الحكمة، يشغل بها قلوب الناس، ويتعبهم فيما لا يعود عليهم بمنفعة. ثم قال له:
لقد كافأتك على قصدك وتعبك بما صار إليك من الألف دينار، ولا بد من معاقبتك على
تخليد الكذب. ثم أمر أن يضرب بالكتاب على رأسه حتى يتقطع، ثم جهزه وسريه إلى
بغداد. فكان ذلك الضرب سببًا في نزول املاء في عينيه، وجاءه رجل يداويهما، فقال له
الرازي: كم طبقة للعني؟ قال لا أعلم. فقال لا يقدح عيني من لا يعلم ذلك، ثم قال: قد
نظرت الدنيا حتى مللت فلا حاجة بي إلى عينني.
الفارابي
ممن عاصر الرازي وكتب في الكيمياء واشتغل بها الفارابي، املتوفى سنة ٣٣٩ه. وهو أبو
النصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان. ولد في فاراب، وهي في ما وراء النهر، ولا
يعرف تاريخ ولادته، وتروى حكايات كثرية عن نشأته، ولكن أكثرها مشكوك فيه. روى
ً ابن أبي أصيبعة — في عيون الأنباء — أن الفارابي كان ناطورا في بستان في دمشق،
وكان دائم الاشتغال بالفلسفة، وكان فقريًا، ويستضيء في الليل بالقنديل الذي للحارس،
ثم إنه عظم شأنه.
وأقبل الفارابي على العلم، فتعلم كثريًا من اللغات املتداولة في عصره، كالعربية
والفارسية والتركية واليونانية والسريانية، وطاف بلاد العجم والعراق والشام ومصر،
فأخذ العلم في بغداد عن أبي بشر متى بن يونس، وفي حران عن يوحنا بن حيلان، حتى
صار أعلم أهل زمانه، ووفد على سيف الدولة بن حمدان أمري حلب، فأغدق عليه وبالغ
في إكرامه، وأراد أن يغمره بعطاياه، فامتنع، واكتفى بقبول أربعة دراهم تخصص له في
كل يوم، ولم يقبل سواها. وأقام عنده إلى أن وافته املنية في سياحة من حلب إلى دمشق،
سنة ٣٣٩ هجرية، عن سن يتجاوز الثمانني، ودفن خارج الباب الصغري. وملا توفي تزيا
سيف الدولة بزي صوفي، ورثاه على قبره، ويؤيد هذه الرواية ما نقله ابن أبي أصيبعة،
ً من أن سيف الدولة صلى عليه صلاة الجنازة في خمسة عشر رجلا من خاصته.
وكان الفارابي محبٍّ ً ا للعزلة يصرف أوقاته منفردا تحت ظلال الأشجار، وعلى
مجاري املياه، ويشتغل باملطالعة والتحرير والتأليف، وكان من عاداته أن يحرر مؤلفاته
على أوراق متفرقة، ولذا وجد نقصان وتشويش في كتبه، وأكثر استفادة ابن سينا كانت
من كتب الفارابي. ونقلت عنه في الكيمياء أقوال كثرية، ومن مؤلفاته مقالة في صناعة
الكيمياء والرد على مبطليها. قال ابن خلدون في مقدمته: وأكثر من يعنى بالكيمياء ويقول بصحتها الفقراء من الحكماء، فإن ابن سينا — القائل باستحالتها — كان من علية
الوزراء، ومن أهل الغنى والثروة، والفارابي القائل بإمكانها كان من أهل الفقر، الذين
يعوزهم أدنى بلغة من املعاش، وهذه تهمة ظاهرة في أنظار النفوس املولعة بطرقها،
وانتحالها؛ لأن بعض الوزراء الأغنياء — أمثال الطغرائي — قالوا بصحة الكيمياء،
وإمكان وجودها.
وكان الفارابي ذكي النفس، متجنبًا عن الدنيا، كما رأينا من اكتفائه بأربعة دراهم
في كل يوم، يسري سرية الحكماء، واشتهر بعلو كعبه في الفلسفة واملنطق. واشتغل بكتب
أرسطو. قال: قرأت السماع لأرسطو أربعني مرة وأرى أني محتاج إلى معاودته. وأما في
املنطق فقد جاء في طبقات الأمم أن الفارابي بلغ جميع الفلاسفة في صنعة املنطق، وأربى
عليهم في التحقيق بها، فشرح غامضها، وكشف سرها، وقرب تناولها، وجمع ما يحتاج
إليه منها في كتب صحيحة العبارة لطيفة الإشارة، منبهة على ما أغفله الكندي وغريه،
من صناعة التحليل، وإنحاء التعاليم وأوضح القول فيها عن مواد املنطق الخمس، وأفاد
وجوه الانتفاع بها، وعرف طرق استعمالها، وكيف تعرف صورة القياس في كل مادة،
فجاءت كتبه في ذلك الغاية الكافة والنهاية الفاضلة.
وللفارابي كتب كثرية، أشهرها مبادئ آراء أهل املدينة الفاضلة، وقد طبعت في
ليدن سنة ١٨٩٥ ،وكتاب إحصاء العلوم، وقد ترجم إلى اللاتينية، وله رسالة في املنطق
والتوفيق بني رأيي الحكيمني أرسطو وأفلاطون، وكتب أخرى في الرياضيات والكيمياء
واملوسيقى، متفرقة في مكتبات أوروبا والأستانة.
مسلمة
افتتح املسلمون إسبانيا منذ أواخر القرن الأول للهجرة، وأسسوا فيها دولتهم، واتخذوا
ً قرطبة دارا لخلافتهم، وزينوها بالجوامع واملدارس والقصور، حتى قيل في وصفها:
ب￾￾أرب￾￾ع ف￾￾اق￾￾ت الأق￾￾ط￾￾ار ق￾￾رط￾ب￾￾ة وه￾￾ي ق￾￾ن￾￾ط￾￾رة ال￾￾وادي وج￾￾ام￾ع￾ا ￾ه￾
ه￾￾ات￾￾ان ث￾ن￾ت￾￾ان وال￾￾زه￾￾راء ث￾￾ال￾ث￾￾ة وال￾ع￾￾ل￾￾م أف￾￾ض￾￾ل ش￾￾يء وه￾￾و راب￾￾ع￾￾ه￾￾ا
فكانت بضاعة العلم فيها رائجة، ومدارسها عالية جامعة، وفيها ندوة علمية،
يتقاطر إليها العلماء من جميع الأمصار، ومكتبة عظيمة استوعبت ستمائة ألف مجلد.
ثم انتشر العلم في قرطبة إلى بقية مدن الأندلس، مثل إشبيلية، وطليطلة، ومرسية، وكان
في كل مدينة من هذه املدن مدرسة للطب، وكثري من أفاضل العلماء ومشاهري الحكماء،
وامتاز علماؤها بالتدقيق في املباحث الفلسفية، واستنباط كثري من املسائل العلمية،
فرقصت الأندلس على عهدهم بأكمام الحضارة، وازدهرت فيها العلوم واملعارف، وراجت
سوق الصناعات، وكان للكيمياء حظ وافر من عناية علماء الأندلس، ونبغ في هذه
الصناعة مسلمة بن أحمد املجريطي، ويكنى بأبي القاسم، وينسب ملجريط، التي يقال
لها اليوم مدريد، عاصمة إسبانيا. وقيل: بل ولد في قرطبة في أوائل القرن الرابع للهجرة،
وتوفي سنة ٣٩٨ه. واشتهر في كافة العلوم الطبيعية والرياضية، حتى صار إمام أهل
الأندلس في التعاليم، وهي العلوم الناظرة في املقادير، وهي أربعة: الحساب والهندسة
والهيئة واملوسيقى. وأصبح «إمام الرياضيني في الأندلس في وقته، وأعلم من كان قبله
بعلم الأفلاك، وكانت له عناية بأرصاد الكواكب، وشغف بفهم كتاب بطليموس املعروف
باملجسطي».
ولخص مسلمة كتب من تقدمه، وجمع طرفيها، وكتب في الكيمياء كتابًا سماه
«رتبة الحكيم»، وجعله قرينًا لكتابه الآخر في السحر، الذي سماه «غاية الحكيم»، وزعم
أن هاتني الصناعتني هما نتيجتان للحكمة، وثمرتان للعلوم، ومن لم يقف عليهما فهو
فاقد ثمرة العلم والحكمة أجمع. ولا أدري إن كان لهذين الكتابني اليوم وجود في إحدى
مكتبات الشرق أو الغرب، وهل أحد من علماء الإفرنج عني بترجمتهما ودرسهما أم لا؟
وملسلمة كتاب في الحساب سماه كتاب املعاملات، وآخر في الهيئة سماه اختصار تعديل
الكواكب من زيج البتاني. واشتغل كثريً َّ ا برصد الكواكب، وبني مواقع الكواكب الثابتة،
وأصلح شيئًا من زيج من تقدمه، فقد عنى بزيج الخوارزمي، وقال صاعد الأندلسي
في طبقات الأمم: «وزاد فيه جداول حسنة، على أنه اتبعه إلى خطته فيه، ولم ينبه على
مواضع الغلط منه، وقد نبهت على ذلك في كتابي املؤلف في إصلاح حركات الكواكب،
والتعريف بخطأ الراصدين.
وملسلمة تلاميذ كثريون، اشتهروا بالعلم والفضل، وأنشأ بعضهم مدارس في قرطبة
وفي غريها من مدن الأندلس، منهم الكرماني، وابن الصفار، وابن خلدون. ومن تلامذته
الذين اشتهروا بعلوم الطبيعة على العموم وبعلم الكيمياء على الخصوص أبو بكر بن
بشرون، وأبو السمح الغرناطي، وكلاهما من علماء الأندلس في القرن الرابع والخامس
للهجرة. وللأول رسالة في صناعة الكيمياء، حررها لرفيقه الثاني، وافتتحها بمقدمة في معرفة تكوين املعادن، وتخليق الأحجار والجواهر، وطباع البقاع والأماكن. وملخص
الرسالة مدرج في مقدمة ابن خلدون. قال ابن بشرون في الكلام على ما يسميه الكيميائيون
ً بالبيضة: ولقد سألت مسلمة عن ذلك يوما وليس عنده غريي فقلت له: أيها الحكيم
ً الفاضل، أخبرني لأي شيء سمت الحكماء مركب الحيوان بيضة، اختيارا منهم لذلك
أم ملعنى دعاهم إليه؟ فقال: بل ملعنى غامض. فقلت: أيها الحكيم، وما ظهر لهم من
ذلك من املنفعة والاستدلال على الصناعة، حتى شبهوها وسموها بيضة؟ فقال: لشبهها
ً وقرابتها من املركب، ففكر فيه، فإنه سيظهر لك معناه. فبقيت بني يديه مفكرا لا أقدر
على الوصول إلى معناه، فلما رأى ما بي من الفكر، وأن نفسي قد مضت فيه، أخذ بعضدي
وهزني هزة خفيفة، وقال لي: يا أبا بكر، ذلك للنسبة التي بينهما في كمية الألوان عند
امتزاج الطبائع وتأليفها، فلما قال ذلك، انجلت عني الظلمة، وأضاء لي نور قلبي. وقوي
ً عقلي على فهمه، فنهضت شاكر ً ا الله عليه إلى منزلي، وأقمت على ذلك شكلا هندسيٍّا يبرهن
به على صحة ما قاله مسلمة.» فيظهر لنا من ذلك شدة تحرزهم من إفشاء هذا العلم
وعدولهم عن البيان إلى طريق الإلغاز والإيماء، وملسلمة رسالة في الأصطرلاب ترجمت إلى
ً اللاتينية، كما ترجمت أيضا شروحه على كتاب بطليموس.
وما زال املسلمون في املشرق واملغرب يؤلفون في الكيمياء حتى طما بحرها، وتكلم
فيها من ليس من أهلها، وادعاها كثري من أصحاب الغش، وهم ليسوا على شيء
من العلم ولا من الفلسفة، وإنما هم من املتشبهني بالعلماء. وأشهر حكماء املشرق
املتأخرين الذين ألفوا في الكيمياء الطغرائي، وهو أبو إسماعيل مؤيد الدين ابن علي
الأصبهاني، أكبر فلاسفة القرن السادس وشعرائه، وقصيدته املشهورة بلامية العجم
هي من محاسن الشعر العربي، وشرحها كثري من العلماء، وطبعتها الجوائب، هي
ً وديوانه. وكان الطغرائي وزيرا للسلطان مسعود بن محمد السلجوقي في املوصل،
واشتهر لقبه بالأستاذ. وملا انتصر السلطان محمود على أخيه مسعود السلجوقي سعى
وزيره بالطغرائي، واتهمه بالكفر والإلحاد، فقتل سنة ٥١٣ هجرية. وله في الكيمياء
دواوين ومناظرات مع أهلها، وغريهم من الحكماء. وبعض آرائه وأقواله مذكور في مقدمة
ابن خلدون.
ً وممن ألف في الكيمياء أيضا الإمام فخر الدين الرازي، (٥٤٤–٦٠٦ه) صاحب
التفسري الكبري املسمى مفاتيح الغيب. وهو أبو عبد الله محمد بن عمر التيمي البكري،
ً قرشي النسب، وكان أبوه عاملا خطيبًا، فاشتهر هو بابن الخطيب، وتلقى العلم عن كثري من املشايخ، وارتحل كثريًا في طلب العلم، وتزوج من بنت طبيب من أشهر أطباء
زمانه. وكتبه في العلوم النقلية شهرية، وله في الكيمياء الكتاب املوسوم بالسر املكتوم،
وكتاب في الرمل، ورسالة الجوهر الفرد، وكتاب الأشربة، ومسائل في الطب، وغريها في
الهندسة وبقية العلوم العقلية. وقد ينسبون بعض التآليف في الكيمياء للغزالي صاحب
إحياء علوم الدين، ولغريه من أكابر العلماء ومشاهري الحكماء، مثل البوني وابن العربي،
وجميع املشتغلني بأسرار الحروف وغريها من العلوم السرية والأسرار الخفية، ولكن ذلك
مشكوك فيه.
الكندي
علماء الكيمياء في الإسلام على مذهبني: أحدهما يقول بإمكان كون الذهب والفضة
بالصناعة، ويعتقد بوجود الإكسري الذي يقلب عني املعادن والأحجار إلى املعدنني
الشريفني. والثاني يقول ببطلان ذلك. وكلاهما يشتغل بتركيب الأجسام وتحليلها
وتحضري الأدوية من الجواهر والعقاقري الطبية، وتركيب الأشربة واملعجون وغري ذلك مما
هو مستعمل في الطب. إذ أول ما يلزم لصنعة الطب الاشتغال بالكيمياء. وكذا يشتغلون
بتهيئة أنواع العطر والصبغ، وتعيني خواص املعادن والأحجار، وغري ذلك من تطبيق
علم الكيمياء القديم والحديث.
وأشهر الكيميائيني القائلني بعدم استحالة املعادن الكندي، وهو أبو يوسف يعقوب
بن إسحق بن الصباح بن أشعث الصحابي رضي الله عنه، ابن قيس بن معدي كرب
أمري قبيلة كندة من قبائل العرب. ولد في واسط، في أواخر القرن الثاني للهجرة، وقرأ
ً في البصرة وبغداد، ومهر رغما عن بداوته في كافة العلوم، حتى لقب بالفيلسوف، وهو
أول الفلاسفة. وأبو الحكماء في الإسلام، وكانت له معرفة باليونانية والسريانية، فقربه
املأمون إليه، وأغدق عليه، وكان له نفوذ لدى املعتصم وابنه أحمد. وتآليفه أكثر من أن
تذكر. ومنها يفهم أنه طرق جميع أبواب العلم والفلسفة، وكتب في الكيمياء خاصة رسالة
في التنبيه على خدع الكيميائيني، ورسالة في كيمياء العطر، رسالة في العطر وأنواعه،
رسالة إلى أحمد بن املعتصم باهلل فيما يطرح على الحديد والسيوف حتى لا تنثلم ولا
تكل، رسالة في نعت الحجارة والجواهر ومعادنها وجيدها ورديئها وأثمانها، رسالة في
قلع الآثار من الثياب وغريها. فريى من هذه التآليف أن الكندي اشتغل بأهم فروع الكيمياء، كالكيمياء املعدنية
والكيمياء العضوية والكيمياء الصناعية وكيمياء البيت. ولعل رسالته في قلع الآثار عن
الثياب تشتمل على قليل أو كثري من املواد املستعملة لهذه الغاية في يومنا هذا.
ابن سينا
ومن الكيميائيني القائلني بعدم استحالة املعادن، والذاهبني إلى بطلان علم جابر من
املسلمني الشيخ الرئيس أبو علي حسني بن عبد الله، املعروف بابن سينا، بقراط عالم
الإسلام، وأرسطوطاليسه، وأشهر أطباء العرب، ومن أعظم فلاسفتهم.
كان أبوه من أهل بلخ، فأتى بخارى على عهد نوح بن منصور الساماني، ودخل
في الخدمة، وذهب واليًا لقرية خرميتان إحدى عواصم بخارى، وتزوج بفتاة من تلك
القرية فولدت له صاحب الترجمة. وبعد ميلاده ببضع سنني عاد به أبوه إلى بخارى،
وعني بتربيته. ولم يبلغ ابن سينا العاشرة من عمره حتى كان قد استظهر القرآن، وألم
بجزء صالح من العلوم العقلية والنقلية، ثم بعد ذلك انكب على كتب الحكمة والفلسفة،
فبرع فيها، وطيب نوح ابن منصور الساماني، فشفاه الله على يده. فقربه إليه وأدخله
مكتبته، وكان فيها من نفائس كتب العلم شيء كثري، فطالعها، وطاف البلاد مع والده،
واجتمع بالعلماء الأفاضل، واتصل بالأمري شمس املعالي قابوس بن وشمكري، ثم رحل
إلى داغستان، فأصابه فيها مرض شديد، فأتى جرجان، وحرر كتابه الأوسط املسمى
ً بالأوسط الجرجاني، ثم ذهب إلى الري وقزوين وهمذان، وصار وزيرا لشمس الدولة
مرتني، وذهب بعد ذلك إلى أصفهان ومن ثم إلى همذان فاشتد عليه مرض القولنج،
فمات فيها في رمضان سنة ٤٢٨ هجرية، وهو في الثامنة والخمسني من عمره. وقد دون
تلميذه الجرجاني ترجمته، ونقلت هذه الترجمة إلى اللغة اللاتينية، وافتتحت بها عدة من
مؤلفات الشيخ الرئيس التي نشرت في أوروبا.
وكتب ابن سينا في الطب والحكمة أشهر من أن تذكر، ومنها كتاب الشفاء والنجدة،
والإشارات، والقانون، وقد شرحها وعلق عليها أكثر أطباء الإسلام، وحكمائهم، وترجمت
ً إلى اللغات الأوروبية، وطبعت مرارا. وظل كتابه القانون يشرح في بعض جامعات أوروبا
إلى القرن الثامن عشر للميلاد. ولابن سينا في بطلان الكيمياء والرد على أصحابها رسالة
حررها للشيخ أبي الحسن سهل، وقال فيها ببطلان صنعة الذهب والفضة، وبعدم إمكان
استحالة املعادن بعضها لبعض. وهذه مسألة واحدة من مسائل الكيمياء، وفصل قصري من فصولها الطوال، وأبوابها الكثرية، وله في بقية مسائل الكيمياء أقوال كثرية مذكورة
في الكتب املتقدم ذكرها، وفي غريها من الكتب.
الجلدكي وأبو القاسم
ً إن املصادر التي بني أيدينا تهمل الترجمة لهذين العاملني إهمالا ٍّ تاما، مع أن لكل
منهما أثره العظيم في علم الكيمياء، وذلك بما تركه لنا من مؤلفات كثرية النفع، كبرية
الفائدة. وهما وإن سارا على منهاج من سبقهما من كبار الكيميائيني، وتأثرا في أبحاثهما
وتجاربهما طرق املتقدمني، إلا أن لكل منهما مميزات خاصة، تجعلنا نُعنَى به وندرس
ً مؤلفاته درسا دقيقً ا. فأبو القاسم العراقي الذي ربما عاش في القاهرة في القرن الثالث
عشر للميلاد، ترك لنا عدة مؤلفات تمتاز بأنها تعرفنا اتجاه الفكر الإسلامي في علم
الكيمياء، بعد انتقاله إلى أوروبا بمدة طويلة. وإذا عرفنا أن الفكر الأوروبي في ذلك
العصر، لم يكن قد ابتدأ يؤثر في علماء املسلمني ومفكريهم، اتضحت لنا أهمية أبي
القاسم باملقارنة بينه وبني معاصره روجر باكون، وبذلك يتسنى لنا الاطلاع على ما
أخذه الإفرنج عن املسلمني، ومعرفة ما أضافوه إلى هذا العلم في ذلك العصر.
ففي القرن الثالث عشر للميلاد، كانت قوة الإسلام العظيمة — تلك القوة التي
اكتسح بها العالم، ودوخ املمالك، وثل العروش — قد ابتدأت تضعف وتكل، غري أن تلك
الروح الجديدة — روح العلم والبحث والتحري والاستنباط — التي نشرها علماء الإسلام
في أوروبا، أدت إلى نهضة علمية، وصلت إلى أوج عظمتها بعد مدة وجيزة. وبالرغم من
تقدم علم الكيمياء العملي في ذلك العصر، بقيت آراء أبي القاسم ونظرياته على ما كان
عليه سلفه من العلماء. الذين تقدموه بثلاثة قرون أو أربعة، ولم يكن أبو القاسم يدعم
ً نظرياته بأقوال جابر فقط، بل كان يستشهد بآراء من تقدم جابرا من علماء مدرسة
الإسكندرية. وبالرغم من قيامه بكثري من التجارب في هذا العلم، وظهور آراء في مؤلفاته
تدل على تفكري منطقي سليم، فإنه ظل يتأثر جابر بن حيان، ويتكئ على من شايعه من
علماء املسلمني.
ويختلف املؤرخون في اسم الجلدكي، كما يجهلون تاريخ حياته، فمن قائل إن اسمه
علي، ومن قائل إنه عز الدين أيدمر بن علي. وهو مؤلف كثري من الكتب التي تبحث في
ً العلوم السرية، وخصوصا علم الكيمياء. وله من الكتب املطبوعة كتاب املصباح في أسرار
علم املفتاح، وكتاب آخر اسمه نتائج الفكر في أحوال الحجر. وكل ما يعرف عنه أنه ألف
بعض كتبه في دمشق، والبعض الآخر في القاهرة. ويظهر أثر الجلدكي جليٍّ ً ا واضحا — في تفكريه العميق، وعلمه الواسع — فيما
نسميه بآداب الكيمياء الإسلامية. فإنه على ما يظهر لنا من مؤلفاته، قضى معظم حياته
في جمع كتب الكيمياء، التي استطاع الحصول عليها وتفسريها والتعليق عليها. وقد
ً ا لا ينضب، ومصدرا
أجريت جهوده العظيمة في عصرنا هذا، إذ أصبحت مؤلفاته معينً
مهما لأبحاثنا في علم الكيمياء الإسلامية، ولدراساتنا عن الكيميائيني الإسلاميني. ونلاحظ
ٍّ
ً أيضا من خلال مؤلفاته، أن الجلدكي كان يجري بنفسه تجارب عديدة في هذا املوضوع،
َّدَمه من
َ مع أن القسم الأكبر من مؤلفاته يحتوي على تعليقات وشروح لأعمال م ْن تَقَ
َّ علماء الكيمياء. وعدد له صاحب كشف الظنون عشرات املؤلفات، التي شرح فيها آراء
غريه من العلماء، أهمها شرح شذور الذهب في الإكسري، لأبي الحسن علي بن موسى
الحكيم الأندلسي، وسماه غاية الشذور. قال: قد استوعب فيه جميع الحكمة املطلوبة
والنعمة املرغوبة. وله كتاب البرهان في أسرار علم امليزان، وهو كتاب كبري في أربعة أجزاء
كبار، ذكر فيه قواعد كثرية من الطبيعي والإلهي، على مقدمات أصول القوم، وشرح فيه
كتاب بليناس في الأجساد السبعة، وكتاب جابر في الأجساد، وحل فيه غالب كتب املوازين
لجابر.
أما كتابه نهاية املطلب، فهو تعليقاته على كتاب لأبي القاسم العراقي. ومع أن
ً شروحه لا تزيد عبارات الكتاب إيضاحا، إلا أن عادته الحسنة في كثرة الاستشهاد بأقوال
خالد، وجابر، والرازي، وغريهم من رجال الكيمياء، ونقله عباراتهم الطويلة، مما يزيد
في قيمة مؤلفاته، ويجعلها تزخر باملعلومات القيمة عن الكيمياء الإسلامية. وهنا علينا أن
نتساءل عما إذا كانت تلك العبارات القيمة، والحقائق التي يذكرها في مؤلفاته صادقة،
وعما إذا كان الجلدكي من الذين يوثق بكلامهم، ويعتمد على رواياتهم، أو أننا يجب أن
ننظر إليه بعني الشك، ونقرأ مؤلفاته بكل حذر. ومن دواعي سرورنا أن بعض الكتب
التي ينقل عنها الجلدكي بني أيدينا، ولذلك فإنا نستطيع معرفة مقدار صحة ما نقله
عنها بالرجوع إليها. وبإجراء أمثال هذه املقارنات، نجد أنه حريص على صحة النقل،
وإننا نستطيع أن نأمن جانبه، ونركن إليه، ونعتمد عليه فيما يستشهد به من أقوال
العلماء.
وللجلدكي رأي طريف في التأليف، لا بأس من إيراده. فقد جرت عادة العلماء
والحكماء، أن لا يبسطوا جميع معلوماتهم في مؤلف واحد، بل يفرقوها في كتبهم
املختلفة، قال: «إن من عادة كل حكيم. أن يفرق العلم كله في كتبه كلها ويجعل له من بعض كتبه خواص، يشري إليها بالتقدمة على بقية الكتب، ملا اختصوا به زيادة العلم.»
أما هو فإنه يعتقد أن العالم يجب أن لا يُ ِخفي من علمه شيئًا، إلا إذا كان يبحث في
موضوع الكيمياء. قال: «ومن شروط العلم أن لا يكتم ما علمه الله تعالى، من مصالح
يعود نفعها على الخاص والعام، إلا هذه املوهبة فإن الشرط فيها أن لا يظهر بصريح
ً اللفظ أبدا .

انتقال الكيمياء من العرب إلى الإفرنج
أقدم عمران حققه التاريخ على وجه املعروف من اليابسة، هو العمران الذي كان على
ضفاف الدجلة والفرات والنيل، وعلى سواحل سوريا من الأمم السامية، من الأشوريني،
والكلدانيني، والفنيقيني، واملصريني، وكذا في الأمم الآرية الذين كانوا في بلاد فارس، وعلى
ضفاف السند وضفاف سيحون. ثم اتصل العمران باليونان، ورسخت لهم قدم في العلم
والحكمة، وطار لفلاسفتهم صيت في العالم، وأخذ عنهم الرومان الذين كانوا في روما،
والروم الذين كانوا من القسطنطينية. وكانت الإسكندرية حاضرة علومهم، وكانت لهم
مراكز أخرى للتعليم في بلاد الروم؛ أي في بر الأناضول، وفي الشام، والجزيرة، والعراق،
مثل برغمة ومكتبتها، والرها ومدرستها، ونصيبني، وقنسرين، والحرية، وجنديسابور من
بلاد فارس.
ثم استنار العرب بنور الإسلام، واستولوا على مشارق الأرض ومغاربها، وأحاط
املسلمون بعلوم الأمم السامية، والأمم الآرية، وهذبوا ما أخذوه منها، وزادوا فيه،
وصححوه، وانتشر العلم في جميع البلاد الإسلامية، من سمرقند، فبغداد، فدمشق،
فالقاهرة، فتونس، فمراكش، حتى قرطبة. وملا استقر العلم في الأندلس، وألقى فيها
ً عصاه، وجد سماء صافية وأرضا طيبة، فنبت فيها وأزهر، ونما عوده وأثمر.
وبينما كانت ديار الإسلام في املشرق واملغرب، رافلة في حلل الرفاه والسعادة، راتعة
في بحبوحة الأمن والحضارة، كان الجهل لم يزل ضاربًا أطنابه في ديار الإفرنج، وأهلها
محرومون من النعم، التي يقتضيها استبحار العمران، وتوسع نطاق العلوم. وكان
ً التعصب الديني فيهم شديدا، كما كانت كلمتهم متفرقة، بسبب نظام الحكم الذي كان
ً متبعا في القرون الوسطى. وفي الجملة فقد كان الإفرنج لا يدركون شيئًا من الوسط
الذي كانوا فيه، ولا يفقهون الحق ولا الشرع. وأول شعاع من نور العلم أضاء أفق بلادهم، وإنما انعكس عليهم من شمس علوم الإسلام، التي كانت تتوهج في إسبانيا،
وبيان ذلك أن املسلمني ملا استحكمت حضارتهم في الأندلس، وزخر فيها بحر معارفهم،
واستوطنوا جنوب فرنسا ومعظم سواحل إيطاليا، وجميع جزر البحر الرومي، كثرت
املواصلات بينهم وبني مجاوريهم من الإفرنج، بسبب الحروب والغارات، وعظم الاختلاط
بني الأمتني بسبب أخذ الأسرى، وإرسال السفراء، وكذلك بسبب التجارة ونقل السلع،
فكان الإفرنج يشاهدون بأعينهم ما عليه املسلمون من الرقي والحضارة، فتشوقوا
لاستطلاع أخبار املسلمني ورؤية ديارهم، ليعرفوا سر تقدمهم وسبب حضارتهم، ولكن
كان دون ذلك خوض البحر الرومي، أو قطع عقاب البرينيه، وهي أطول من عقاب
لبنان التي قال فيها املتنبي:
ٍ وع￾￾ق￾￾اب ل￾ب￾￾ن￾￾ان وك￾￾ي￾￾ف ي￾￾ق￾ط￾￾ع￾￾ه￾￾ا وه￾￾ي ال￾ش￾￾ت￾￾اء وص￾￾ي￾￾ف￾￾ه￾￾ن ش￾￾ت￾￾اء
ً ومع ذلك فالحاجز الطبيعي كان بسيطا بالنسبة للحاجز املعنوي، وهو الدين. فقد
ً بلغ التعصب الديني بهم مبلغ ً ا عظيما، حتى كان يحظر رجال الدين على أبناء أمتهم
ً الاختلاط باملسلمني، أو معاملتهم، فضلا عن دراسة كتبهم والإقبال على علومهم، والارتحال
إلى بلادهم، للأخذ من مشايخهم وفلاسفتهم. وداموا على تلك الحال إلى أواخر القرن الرابع
للهجرة. ثم شرع أصحاب العقول النرية، وذوو الأقدام من أبناء أوروبا، يتغلبون على
أمثال تلك املوانع الطبيعية واملعنوية، التي حالت زمنً ً ا طويلا بينهم وبني اقتباس العلوم،
وأخذوا يتكبدون نفقات السفر ومشاق الغربة، وفراق الأهل والوطن، ويتحملون عبث
العابثني ولوم املتعصبني، ويهرعون إلى مدارس الإسلام في قرطبة، ومرسية، وغرناطة،
وطليطلة، كما نهرع نحن اليوم إلى جامعات لندن، وباريس، ونيويورك، وبرلني. وتلقَّى
الإفرنج بهذه الكيفية على مشايخ املسلمني وعلمائهم، أنواع العلوم العقلية والنقلية،
وجميع املعارف الإنسانية. وكان في مقدمة هذا الجيش من العقلاء البابا سلفستر الثاني.
(1 (البابا سلفستر الثاني
ولد جرير سنة ٩٣٠ للميلاد في أورياق الواقعة في جنوب فرنسا، وهي مدينة صغرية،
على مسافة متوسطة بني بوردو ومرسيليا. وكثريًا ما مرت بها جيوش املسلمني في
أوائل القرن الثاني للهجرة، وتجاوزت ما وراء أورياق من البلاد التي تشمل على بواتيه من الغرب، وعلى ليون من الشرق، فكانت مدن كركسون وطولوز وبوردو في قبضة
ً املسلمني، واستولوا أيضا على ما في شمال ليون من املدن، مثل شالون التي على نهر
السون، وأوتون وديجون، وهي على طريق سكة الحديد من باريس إلى مرسيليا. ولكن
ً املسلمني لم يمكثوا طويلا في شمال فرنسا، وإنما استوطنوا جنوبها نحو نصف قرن،
وكانت مدينة نربون من أعظم املدن العامرة باملسلمني، لقربها من ساحل البحر الرومي
والحدود الإسبانية، وكذلك كانت مدينة كركسون، التي تبعد عنها ٥٣ كيلومترًا في الداخل
من جهة الغرب. وكانت املواصلات جارية بني مسلمي هاتني املدينتني، وبني ما في
جوارهما من املدن املتروكة للإفرنج، مثل أورياق التي نشأ بها صاحب الترجمة. وتعلم
جرير القراءة والكتابة في أحد الأديرة باللغة اللاتينية، إذ لم يكن في أوروبا مدارس غري
الأديرة، كما كانت اللاتينية في ذلك العصر لغة العلم والدين، والسياسة لجميع الأقوام
الأوروبية من فرنسيني وإنكليز وأملانيني.
وبعد أن أكمل جرير تحصيل فنون الأدب باللاتينية، ومبادئ العلوم اللاهوتية،
ارتحل في طلب العلم إلى الأندلس، وقطع عقاب البرينيه، وجاور في إشبيلية ثلاث سنني،
وأخذ عن علماء الإسلام علوم الرياضيات والبلاغة والتنجيم، وكذا علم السحر، على ما
رواه مؤرخو ذلك العصر من الإفرنج. قال ماملسبوري املؤرخ الإنكليزي في القرن الثاني
عشر للميلاد: «ملا كان جرير في إسبانيا يقرأ التنجيم والسحر وما شاكلهما من العلوم،
ً التي كان يدرسها علماء العرب، تعلم منهم أيضا منطق الطري — يعني املؤرخ تفسري
ما تخرجه الطيور من أصوات التغريد والصفري وأمثالهما — وتعلم كذلك استخدام
الشياطني، ولا أتكلم عن مهارته في علوم الحساب واملوسيقى والهندسة، التي أدخلها
لفرنسا ...» فبعد تعلم هذه العلوم، لم يترك علم الكيمياء بدون الوقوف على موضوعه،
حيث كان لهذا العلم رواج عظيم في ذلك العصر. وملا عاد جرير إلى بلاد الإفرنج، دخل
سلك الرهبنة، وأقبل على الدرس والتعليم، ونشر العلوم التي أخذها عن املسلمني، فاشتهر
أمره وشاع ذكره.
ً وفي سنة ٩٩٧م أمر الإمبراطور بتعيني جرير رئيسا للأساقفة في مدينة رافن،
وبعد سنتني انتخب للبابوية، فجلس على كرسي بطرس الرسول، وتلقب بالبابا سلفستر
الثاني، وبقي صاحب الأمر والنهي والتحليل والتحريم في العالم املسيحي، إلى أن مات
سنة ١٠٠٤م.
وكان سلفستر الثاني حسن الإدارة، غزير املعارف، وقيل بأنه أول من أدخل لبلاد
الإفرنج الساعة ذات الرقاص، وأرقام الحساب، ولم يزل الإفرنج يسمونها الأرقام العربية، ونسميها نحن الأرقام الهندية، دلالة على أخذنا لها عن الهنود بحق الفتح، وعلى أخذ
الإفرنج لها عنا بطريق التعليم. ويسمونها بالفرنسية «شيفر آراب» فكلمة شيفر chiffre
مأخوذة من كلمة صفر العربية، وكانت تطلق على الرقم، ولم تزل هذه الكلمة تستعمل
في بعض اللغات الأوروبية، فكلمة cipher في الإنكليزية معناها الصفر. فمعنى شيفر
آراب Arabe Chiffre الأرقام العربية. وكان الإفرنج قبل أخذهم هذه الأرقام، يستعملون
أرقام الرومان، وهي حروف تدل على الأعداد، بخلاف الأرقام العربية فإنها تدل بذاتها
على قيمة، وبمنزلتها على قيمة أخرى.
(2 (ترجمة الكتب من العربية إلى اللاتينية
بعد أن قطع البابا سلفستر عقاب البرينيه، وفتح لقومه باب العلوم الإسلامية، دخلوه
طائعني أو مكرهني، وارتحل ملمالك الإسلام كثري من الأقسة والرهابني، اقتداءً بهذا البابا
الحكيم، وأخذوا عن علماء املسلمني، كما أخذ عنهم، واستفاضوا من بحار معارفهم،
وترجموا كتبهم إلى اللاتينية، وانفتح باب الترجمة في العالم املسيحي، كما كان على عهد
املنصور واملأمون في الخلافة العباسية، وصار العقلاء يسعون في طلب العلم من جميع
الجهات. فالعالم إديلار الإنكليزي ارتحل من بريطانيا العظمى إلى الأندلس ومصر، وأقام
في ديار الإسلام من سنة ١١٠٠ إلى سنة ١١٢٠م. وأتقن علوم اللغة العربية، وترجم
مبادئ إقليدس من العربية إلى اللاتينية، قبل أن يعرف اللاتينيون الأصل اليوناني.
وزادت رغبتهم في ترجمة الكتب شيئًا فشيئًا، حتى اجتمع في طليطلة من املترجمني
عدد ليس بقليل. وكانوا سنة ١١٣٠م يرجعون في أمرهم إلى كبريهم الراهب ريمون.
واستمروا يترجمون من اللغة العربية إلى اللاتينية مدة القرن الثاني عشر والثالث عشر
والرابع عشر. ثم صارت تنقل علوم العرب من اللاتينية إلى بقية اللغات الأوروبية، وقد
ذكر الدكتور ليكلرك في كتابه تاريخ طب العرب، أن الكتب العربية التي ترجمت إلى
اللاتينية فقط، تزيد على ثلاثمائة كتاب. فترجموا مؤلفات جابر، والرازي، وابن سينا،
وابن رشد، وأبي القاسم، وغريهم من أكابر علماء الإسلام، وتعلموا منها فلسفة اليونان
وعلوم الأقدمني.
قال جوستاف لوبون فيما ألفه عن املدنية العربية: «إن معرفتنا بعلوم السلف
وحقائق القرون الأولى، كان في الأساس بهمة علماء الإسلام لا بهمة رهبان القرون
الوسطى؛ لأن هؤلاء الرهبان لم يكن لهم في الأصل علم ببلاد اليونان، ولا باللغة اليونانية، وإنما ترجموا كتبهم عن العربية. فالواجب على عالم العلم واملدنية أن يشكر العرب على
استخراجهم هذا الكنز املخفي وحفظه، لا أولئك الرهابني الذين لم يفعلوا إلا ترجمة
الكتب من العربية إلى اللاتينية.» ويجب أن لا ننسى أن هذا عمل ليس بقليل، ويكفي
ً أولئك الرهبان فخرا وشرفًا أنهم أدركوا فوائد العلم، وجاهدوا في سبيل تحصيله ونشره
في بلادهم، وبذلك أنقذوا أوطانهم من غياهب الجهل، ونشروا أنوار العلوم فيها. وبعد
أن اطلع الإفرنج على فلسفة اليونان من كتب العرب، تحولت أنظارهم إلى كتب اليونان
ولغتهم فدرسوها، وافتتنوا بفنون أدبها، وهاموا بأشعارها وخطبها، واستمروا في درسها
إلى يومنا هذا، ولم يرجعوا لدرس الكتب العربية إلا في أواخر القرن الثامن عشر، حيث
ظهر املستشرقون فطبعوا الكتب العربية القديمة، وشرحوها، وعلقوا عليها، وترجموا
كثريًا منها إلى جميع اللغات الأوروبية الحية، مثل الإنكليزية، والفرنسية، والأملانية،
والروسية وغريها. ومن علماء الإفرنج الذين أخذوا الكيمياء عن العرب في القرون
الوسطى ...
ألبري الكبري
ولد سنة ١١٩٣م، وكان أبوه من الأشراف، فأرسله إلى مدينة بادوفة — بجانب البندقية
— لتحصيل العلم فيها. وشهرة بادوفة باملعارف قديمة، ولم يزل فيها مكتبات جامعة
لكثري من كتب الإسلام. وكان بنو الأغلب في إفريقية قد هاجموا جزر بحر الروم وسواحل
إيطاليا، واستولوا على جزر مالطة وصقلية، وسردينية، واستولوا في إيطاليا على بلاد
باري، ونابولي، وأوستيا، وبيزا، وجنوه. وأقاموا في جزيرة صقلية من سنة ٨٢٧م إلى
سنة ١٠٧١م، حينما استردها منهم امللك روجر الأول، وهو والد روجر الثاني، صاحب
الإدريسي. واستبحر عمرانهم في تلك الجزيرة، وزهت بهم مدنها، ثم أغاروا على ساحل
داملاشية، وغزوا فيه ممتلكات البنادقة، وكان فتحهم لبرنديزي سنة ٨٣٦م ولباري سنة
٨٣٩م، وأقاموا في أرض نابولي من سنة ٨٨١ إلى سنة ٩١٦م. واقتربوا من أسوار روما،
فصالحهم البابا على جزية قدرها ٢٥ ألف رطل فضة، كل رطل ثماني أواق، ولم يخرجوا
من سردينية إلا سنة ١٠١٧م. هذا ما افتتحته دولة الإسلام املستقرة في إفريقية. وأما ما
افتتحته دولة الإسلام املستقرة في جزيرة الأندلس غري بلاد إسبانيا، فهو جزائر مايورقة،
ومينورقة، وكورسيكا، كما استولت على القسم الأعظم من فرنسا، واستقرت في القسم الجنوبي منها زمانً ً ا طويلا. ومن مدنها املشهورة أربونة، وطولوز، وكانوا يطلقون عليها
اسم طلوشة، وبوردو وكانوا يسمونها برغشت.
ولم نطل البحث في تعداد هذه الفتوحات وبيان مواقع املدن، إلا لنبني كيفية انتقال
العلم من املسلمني إلى من في جوارهم من املسيحيني. فكانت البلاد واملدن التي تقدم لنا
ذكرها زاهرة بحضارة الإسلام، وكان علماء املسلمني يتجولون فيها، ويذهبون ملا جاورها
من املمالك املسيحية لأجل التعليم والتدريس، فذهب الشريف الإدريسي إلى روجر الثاني
صاحب صقلية، وألف له كتاب نزهة املشتاق في اختراق الآفاق، ونقش له رسم الأرض
على لوح مستدير من الفضة. وفي القرن السابع للهجرة كان أولاد ابن رشد يعلمون
الحيوان والنبات والطب عند خلف روجر املسمى فردريك داراجون، وكان قصر ملكه
ملجأ الحكماء والفلاسفة.
فيفهم مما تقدم ما كانت عليه حالة العلم في تلك العصور، التي ذهب فيها ألبري
الكبري إلى بادوفة، كما يعرف سبب اختياره تحصيل العلم في إيطاليا على ما سواها من
املمالك الأوروبية، التي كانت غارقة في بحار الجهالة. فدرس ألبري الكبري في مدينة بادوفة
كتب الإسلام املترجمة إلى اللاتينية، وتعلم اللغة العربية لتصحيح الترجمة ومقابلتها
بالأصل. وانكب على مؤلفات ابن رشد وابن سينا، وقلد علماء الكلام، ونحا منحاهم،
ً وطبق علم اللاهوت على فلسفة أرسطو. ومما تعلمه أيضا علم الكيمياء والتنجيم والسحر،
فإن درس هذه العلوم في ذلك العصر كان من متممات العلم، وموجبات الكمال. وبعد أن
َّ أكمل ألبري تحصيله جاء باريس سنة ١٢٤٥م. ودرس فيها ثلاث سنوات، وكان الطلبة
والناس يتسابقون إلى استماع درسه، حتى ضاقت بجمهورهم املدرسة، فصار يجلس
للمواعيد في ساحة البلد، ويلقي دروسه تحت السماء، واشتهر في جميع أوروبا، وصار
أوحد علماء عصره في اللاهوت وفي بقية العلوم، وملا طبعت مؤلفاته سنة ١٦٥١م في
ً مدينة ليون، بلغت واحد ً ا وعشرين مجلدا. قال رينان: «علم ألبري كله مأخوذ من كتب
ابن رشد وابن سينا، فهو لم يخرج عن ترجمته كتب العرب واستنساخها.» وعلى كل
فألبري الكبري أول من رفع منار العلم في أوروبا، وفتح لعلماء القرون الوسطى أبواب
البحث والجدل على الأسلوب الذي وضعه علماء الإسلام. وكان له اشتغال بعلوم ما وراء
الطبيعة، وله باع طويل في الطبيعيات والكيمياء. ومن مؤلفاته في ذلك كتاب الأسرار
العجيبة وكتاب الأسرار الصغري وكتاب الكيمياء.

روجر باكون
ومن الكيميائيني الأوروبيني في القرون الوسطى روجر باكون الإنكليزي. ولد سنة
١٢١٤م في إيلشستر وتوفي سنة ١٢٩٤م. قرأ العلم في أكسفورد، ثم أكمل تحصيله في
باريس، وعاد منها إلى وطنه سنة ١٢٤٠م. ولبس صوف الرهبانية، ودخل في طريقة
القديس فرانسوا، واستوطن أكسفورد وتعلم عدا اللغة اللاتينية اللغة العربية ليبحر في
العلم، ويرجع فيه إلى الأصل. وقرأ شيئًا من العبرانية واليونانية. وبعد درس اللغات
درس الرياضيات اقتداءً بالعرب الذين اعتبروها آلة لفهم العلوم. ثم أقبل بعد ذلك
على الاشتغال بالكيمياء والطبيعيات، وإجراء التجارب العديدة فيهما، ونسبت إليه عدة
اكتشافات وآراء، غري أن كثريًا من املحققني مثل العالم سيديو صاحب تاريخ العرب
املطبوع بالعربية، وجوستاف لوبون صاحب كتاب حضارة العرب، وغريهما، يقولون:
إن كثريًا من الاكتشافات والآراء املنسوبة لعلماء الإفرنج، تبني وجودها بعد ذلك في كتب
العرب، وأن الإفرنج أخذوها عنهم، ونسبوها لأنفسهم أو نسبت إليهم.
وقيل: إن روجر باكون أول من أدرك الخطأ في حسابات بطليموس، فأشار بإصلاح
التقويم املعروف بتقويم يوليوس. وعلى كل فهو الذي مهد طريق العلوم الطبيعية أمام
العلامتني الشهريين، غاليليو، ونيوتن، وأوضح كثريًا من املسائل املتعلقة بقوس قزح،
وبانتشار النور والأشعة، وبما يراه الناظر من جسامة قرص الشمس والقمر، عند الطلوع
والغروب في الأفق. ووصف تركيب العني وطبقاتها وأغشيتها وصفً ا مدققً ا، ونسب إليه
عن طريق الخطأ اختراع النظارات املكبرة واملصغرة املسماة تلسكوب وميكرسكوب.
ً وأما في الكيمياء فنسب إليه عن طريق الخطأ أيضا اختراع بارود املدافع، والسبب
في ذلك ما قرءوه في كتبه من الكلام على البارود، وإيضاح تركيبه الكيميائي. ولكن
تبني لهم بعد ذلك أن هذا الكلام مأخوذ من كتب العرب. قال املستشرق الفرنسي رينو،
ووافقه على ذلك أكثر املؤرخني والكتاب: إن الصينيني لم يستعملوا في الصنائع النارية إلا
ملح البارود، وهو الذي يرسب على جدران البيوت واملغارات، التي تكثر فيها الرطوبة.
فالصينيون موجدون للبارود من هذه الجهة، وأما الذي أوجد دقيق البارود املستعمل في
يومنا للقذف بالأجسام الثقيلة، فهم لا الصينيون ولا الإفرنج بل هم العرب. وقد وجد في
كثري من كتبهم كلام على كيمياء البارود، وكيفية اصطناعه، وصورة استعماله في الحرب.
وينقل عن ابن خلدون أن أمري مراكش أبا يوسف، استعمل في حصار صقلية آلة غير املنجنيق، مشابهة للمدافع وذلك سنة ٦٧٢ه. مع أن املؤرخني متفقون على أن استعمال
املدافع في أوروبا لأول مرة، كان سنة ١٣٤٦م في الحرب التي وقعت بني إنكلترا وفرنسا.
وملا كان روجر باكون قريب عهد بعلماء الإسلام، أدرك اصطلاحاتهم وفهم ألغازهم
ً في علم الكيمياء، ولذا كان أقل وسوسة وأكثر تعقلا ممن جاء بعده من الكيميائيني
الأوروبيني، وكان قصده من التحري على الحجر الفلسفي التوصل لإصلاح بعض املعادن،
بواسطة الحرارة والتدابري الكيميائية، وتقليد الطبيعة في تخليقها املعادن، وهذا مقصد
علماء الإسلام من اشتغالهم بهذا العلم. واشتغل باكون بالفلسفة واللاهوت، واجتهد في
حل املسائل التي كانت موضوع بحث القوم في ذلك العصر، مثل مبحث الشكل واملادة،
وحاول حلها بصورة مخالفة لعلم ما وراء الطبيعة، وخارجة عن أصول أرسطو. ومع
ذلك فهو راهب متصلب في دينه، ملازم لتلاوة الكتاب املقدس، وطريقته الفلسفية هي
ً قراءة التوراة والإنجيل في النسخ الأصلية، وفهمها فهما حقيقيٍّا، بقطع النظر عن التراجم
والتفاسري. ومن قواعده أن: «العلم التجاربي لا يتناول الحقيقة مما فوقه من العلوم
العالية، بل هو الحاكم املطلق وغريه من العلوم خدام له.»
وملا شرع باكون في إجراء التجارب الكيميائية، اتهمه الناس بالسحر والشعوذة
وباستخدامه الجن، فأعانه البابا كليمان الرابع، ومكنه من مداومة أعماله وتجاربه،
فازداد حسد أبناء طريقته له، ونقموا عليه، وملا مات كليمان الرابع سنة ١٢٦٨م سعوا
به ورموه بكيدهم، فحكم عليه بالسجن املؤبد، ولم يخل سبيله إلا بعد موت البابا نيقولا
ً الرابع سنة ١٢٩٢م. ولكنه لم يعش طويلا بعد ذلك، ومات في أكسفورد عن عمر يتجاوز
الثمانني.
ومؤلفات باكون كثرية، وجميعها باللاتينية، فمنها مرآة الكيمياء، أعمال الطبيعة
والفن وبطلان السحر، التدبري في تأجيل هرم الشيخوخة وفي املحافظة على حواسنا، وقد
ألف هذا الكتاب وهو في السجن، وبعث به إلى البابا نيقولا الرابع لرييه فوائد مؤلفاته،
وعدم وجود الكفر فيها. ثم هناك مرآة الحساب، رسالة في النظارات، مؤلف جليل باسم
البابا كليمان، وهو أعظم مؤلفاته، وقد قلد في تسميته صاحب كتاب الطب املنصوري.


بصيل فالانتني
ً وهو راهب أيضا، قيل إنه بروسياني، وقيل ألزاسي، وقيل لا بل اسم مفروض لا حقيقة
ً ملسماه، وإنما جعل رمزا عن قوة املاء امللكي؛ لأن معنى بصيل باليونانية امللك، ومعنى
فالانتني باللاتينية القادر، فمعنى الاسم امللك القادر، وهو إشارة إلى املاء امللكي الذي
يذيب الذهب، وهو ملك املعادن عند املتقدمني. فكيفما كانت الحال، قيل بأن صاحب هذا
الاسم أول من استعمل معدن الأنتيموني في معالجة الإسهال، وألف في ذلك رسالة ذكر
فيها خواص هذا املعدن في الإسهال، وتصفية الدم، كما ذكر في هذه الرسالة استحضارات
كيميائية كثرية، مثل روح امللح، ويسمى اليوم حامض كلوريدريك، استخلصه من ملح
ً البحر، ومن زيت الزاج املعروف بحامض الكبريتيك. وذكر فيها أيضا استحضار روح
الخمر باستقطار الخمر، أو البرية، وتصفية الحاصل من الاستقطار على ملح الطرطري
ً املكلس، أي (كربونات البوتاس). كما ذكر أيضا كيفية استخراج النحاس من أحجار
ً الكبريت، بتحويله أولا إلى زاج النحاس (كبريتات النحاس)، بتأثري الهواء الرطب عليه،
ً ثم بتغطيس قطعة من الحديد في هذا املذاب. وذكر فيها أيضا معلومات تامة عن تنفس
الحيوانات. وله رسالة في الأملاح، تشتمل على كثري من العمليات الكيميائية، وله كتاب
سماه «أسرار العالم وطب الإنسان»، كله ألغاز لا يفهم، وله كتاب آخر سماه «مفاتيح
الفلسفة الاثني عشر».
فهؤلاء املتقدم ذكرهم هم مشاهري الكيميائيني الأوروبيني، الذين أخذوا الكيمياء
عن املسلمني في القرون الوسطى، وترجموا كتب العرب إلى اللاتينية. ويوجد كثري غريهم
على شاكلتهم، وكلامهم فيها أجمع على نسق كلام علماء املسلمني، ولهم فيها أشعار
ودواوين باللاتينية، والفرنسية، وغريهما من اللغات الأوروبية، وأسماء كتبهم تدل على
أنها مأخوذة ومترجمة عن العربية.
ليونار تورنايسر
وما برح املنتحلون للكيمياء من الإفرنج يرتحلون في طلبها إلى بلاد الشرق الإسلامية،
ويجوبون أقطارها الشاسعة، حتى القرن السادس عشر للميلاد، وأشهر هؤلاء املرتحلني
في طلبها ليونار تورنايسر، وترجمته من عجائب القصص وفاكهة الروايات. ولد في
بال سنة ١٥٣٠م. واشتغل بالكيمياء، وتوصل إلى تمويه املعادن وتذهيبها، حتى كادت تخفى على بعض النقاد، فانخدع به كثري من الناس واشتروا منه الذهب املموه بسعر
الذهب الخالص، فانتبهت له الحكومة، وأرادت إلقاء القبض عليه، ففر إلى فرنسا، وجال
في مدنها ومدن إنكلترا، واشتهر أمره بالاحتيال، ومهر في تقليد الذهب. ثم عاد إلى أملانيا
سنة ١٥٥٥م، واتصل بدسائسه بالأرشيدوق فرديناد، فحظي عنده بالقبول والإكرام،
وأمده باملال وسريه على نفقته في البلاد، يتحرى فيها على كتب الكيمياء، ويتعلم صناعة
الإكسري الذي فيه السعادة وطول الحياة، فطاف البلاد التي كانت محط رحال املسلمني،
ومظنة وجود كتبهم، مثل إسبانيا، والبرتغال، وإيطاليا، واليونان، واملجر، وكذا أكسفورد
وباريس، ثم ذهب ملصر، والشام، والعراق، وبلاد العرب، واصطحب املسلمني وعاشرهم،
وتحرى فيهم أصحاب املظنة، فلم يقف على حقيقة الإكسري ولا ظفر بصناعته.
ك￾ج￾￾وه￾￾ر ال￾￾ك￾￾ي￾￾م￾￾ي￾￾اء ل￾س￾￾ت ت￾￾رى م￾￾ن ن￾ال￾￾ه والأن￾￾ام ف￾￾ي ط￾￾ل￾￾ه ￾ب￾
غري أنه استفاد فائدة عظمى، من أطباء مصر والشام املسلمني، وتعلم منهم كثريًا
من املسائل الطبية وتراكيب الأدوية، واطلع على ما كان لديهم من العقاقري والبلاكم
والكحل، واملعجون والشراب، وغري ذلك. وبعد سياحة طويلة عاد لأملانيا، ونزل مدينة
فرانكفورت، فوجد فيها أمري براندبورغ، وكانت امرأته مصابة بداء عضال حار فيه
نطس الأطباء، فطببها ونجح في معالجتها، فعينه الأمري طبيبً ٍّ ا خاصا له، وأنشأت له
ً الأمرية زوجته معملا للكيمياء، فاشتغل فيه واصطنع أنواع البلاسم واملعجونات، وصار
يبيعها بأغلى الأثمان للأمراء واملترفني من الرجال والنساء، ويسمي مصطنعاته بأسماء
موهمة، مثل سراب الذهب، وصبغ الذهب، وإكسري الشمس، وغري ذلك، واستخدم في
ً معمله هذا عددا كبريً ً ا من العمال، وأسس فيه مطبعة ومسبكا للحروف، فطبع مؤلفاته
التي استخرجها من كتب الإسلام، ونشر بعضها في أكثر لغات أوروبا، فاشتهر شهرة
عظيمة، حتى صار أحدوثة امللوك والأمراء والأعيان، في جميع العالم الأوروبي. ومما تعلمه
في سياحاته التنجيم والسحر والشعوذة، وكان يوهم الناس بأنه استخدم الشياطني،
فكان يريهم شيطانه في زجاجة، فحصل بذلك على ثروة عظيمة واعتبار زائد. ثم إن
أحد علماء فرانكفورت أظهر حيله وشعوذته، ونشر فيه كتابًا، فغضب عليه الأمري الذي
ً كان يحميه، فأدرك حينئذ الخطر املحدق به، وفر ليلا من برلني سنة ١٥٨٥م. فدخلوا
معمله واكتشفوا أسراره، ووجدوا أن الشيطان الذي كان يريه للناس في زجاجة، عبارة عن عقرب مغموس بالزيوت. فيتضح مما تقدم أن نخبة العلماء من الإفرنج حتى املشعوذين منهم، اغترفوا
الكيمياء من بحر علوم الإسلام، ثم تفرغوا لدرسها وإجراء التجارب فيها، وكانوا
يسرونها لتلامذتهم، ويحرصون على كتمانها وإخفاء كتبها، والإلغاز فيها، على نسق ما
ُّ
تقدم من خبر مسلمة مع تلميذه ابن بشرون. ولم يزل الإفرنج يشتغلون في الكيمياء
ًجيلا بعد جيل، حتى عم انتحالها في القرن الخامس عشر للميلاد، وتداولها الكثري منهم.
غري أنه لعدم رسوخ العلم وانتشار الحضارة فيهم إذ ذاك، أنزلوها من أوج الحقائق
الفلسفية، الذي وضعها فيه علماء الإسلام إلى مستوى الأوهام السخيفة، وأدخلوها في
جملة الأسرار الخفية. وقد علل السبب في ذلك أحد علمائهم في هذا العصر، وهو موسيو
فيكيه الفرنسي، في كتابه املسمى الكيمياء والكيميائيون بقوله: إن أساس التوحيد وبساطة
الاعتقاد في الإسلام، أبعدا عن عقول املنتحلني للكيمياء من املسلمني التورط في مهاوي
ً الخزعبلات والأباطيل. فلما وصلت الكيمياء إلى أوروبا في القرون الوسطى، اتخذت شكلا
ً جديدا، ودخلت فيها أفكار جديدة، فأوصلت بعض املشتغلني بها إلى الاعتقاد بالخرافات
والترهات؛ وذلك لأنهم لم يفقهوا حقيقة املعاني التي ألغز بها جابر ومن تبعه من علماء
املسلمني، فحملوها على ظاهرها، وغاصوا بها في بحار الأوهام، وطاروا في جو الخيالات،
َّ حتى اعتقدوا في الإكسري والحجر الفلسفي خواص لم يقبلها العقل، مثل شفاء جميع
الأمراض وإطالة العمر عن أجله الطبيعي، ودخول صاحب الحجر الفلسفي في عالم
امللكوت، ورفع الحجاب له عما وراء الطبيعة، كما جعلوا في الحجر الفلسفي سعادة
الإنسان في دنياه وآخرته.
قال نيقولا فلامل، وهو من أكابر الكيميائيني في القرون الوسطى، بأن الحجر
الفلسفي طاهر مطهر لحامله من جميع الخطايا، وباعث على الصلاح والطاعة ومخافة
الله. فالذي جرهم إلى هذا هو إلغاز جابر في مؤلفاته، كقوله في بعضها: «آتوني بالأبارص
الستة أشفهم مما بهم.» فحملوا ذلك على ظاهره، وظنوا الإكسري يشفي الأبرص، وما
دروا أن قصده آتوني املعادن الستة أحولها للمعدن السابع وهو الذهب. فهذه الخرافات
لم تظهر إلا في القرن الثالث عشر وما بعده، حينما أوشكت رياح الجهل أن تتلاعب
بنور العلم الإسلامي. وعلماء الكيمياء املعتد بهم في الإسلام، لم يقولوا إلا بخاصة واحدة
للحجر املكرم أو الإكسري، وهي تحويله املعادن كتحويل الرصاص للفضة، والزئبق
للذهب، ويشبهون فعل الإكسري في املعدن بفعل الخمرية في العجني، فهم يساوقون
الطبيعة في عملها، كما يفعل اليوم املشتغلون بعلم التركيب الكيميائي الحديث، وهم ذلك أصحاب رأي علمي، واكتشاف فني، وما على القائل منهم بصحة الكيمياء واملدعي
وجود الإكسري أو الحجر املكرم، إلا إثبات مدعاه، والإتيان بالحجج والبراهني، لتثبت
دعواه ثبوتًا علميٍّا. غري أن هذا املدعي ليس من غرضه إثبات ذلك، بل هو يتخذ هذا
ٍّ الاكتشاف سرا له، ويخفيه، كما يخفي في زماننا أصحاب املصانع واملعامل الأسرار
الصناعية، فلا نرى صاحب معمل في أوروبا إلا ويكتم سر صناعته، فلا يفشي منها إلا ما
لا أهمية له، خوفًا من تقليد الغري له، وكثريً ً ا ما يطلبون من الحكومة امتيازا في انحصار
العمل بمكتشف السر الصناعي.
ثم إن العلم لم يبرهن لهذا التاريخ على أن انقلاب املعادن بعضها لبعض أمر
يستحيل، غري أن أصحاب الكيمياء لم يعثروا إلى الآن في معاملهم وتجاربهم على ما يؤيد
هذا الانقلاب، كما أنه لم يثبت لديهم علميٍّا استحالة هذا الانقلاب، فهم لا يقولون بصحته،
كما يقول جابر وأشياعه، ولا ببطلانه كما يقول الكندي وابن سينا ومن تبعهما. وقد
زعم برتلو الكيميائي الفرنسي، أن الاكتشافات التي اكتشفت في الكيمياء الحديثة، لم
ً تهدم أساس الكيمياء القديمة التي هي علم جابر. ومن القائلني بصحتها أيضا من كبار
العلماء، الفيلسوف الهولندي سبينوزا (١٦٣٢–١٦٦٧م)، املنتمي ملذهب وحدة الوجود،
وكذا الفيلسوف ليبنج (١٦٤٦–١٧١٦م)، فإن كليهما من املعتقدين بإمكان استحالة
املعادن، وبوجود الحجر الكريم.